الأولى

بقلم
فيصل العش
ثقافة المقاومة، عودة الفينيق
 مقدمة 
بغض النّظر عن نتائج عمليّة طوفان الأقصى وما تبعها من هجمة وحشيّة لجيش الكيان الصّهيوني على قطاع غزّة، وبرغم أهمّيتها العسكريّة والسّياسية، وسواء توقّفت الحرب بانتصار المقاومة عسكريّا أو هزيمتها، فإنّ النّتيجة المؤكّدة التي ستؤثّر على المستوى القريب والبعيد في مستقبل القضيّة الفلسطينيّة خصوصا والأمّة الإسلاميّة عموما تجلّت في إحياء ثقافة المقاومة، بعدما كادت تندثر تحت وطأة خيبات الأنظمة العربيّة وهزائمها المتكرّرة من جهة وخدمتها للأجندات الأجنبيّة (الغربية أساسا) من جهة أخرى عبر معاهدات واتفاقيّات وقيود من الذلّ والهوان، فتحت الطريق لاستغلال ثروات الشّعوب وقمع الأصوات المناهضة لهذا الاستغلال، ثمّ نتيجة فشل ثورات الرّبيع العربي في فكّ الارتباط مع هذا الغرب المستعمر وتحقيق التّنمية.
عودة الرّوح لثقافة المقاومة يفرض علينا طرح العديد من الأسئلة أهمّها ماهية هذه الثّقافة، هل هي صراع مع الآخر مهما كان، أم صراع مع المستكبرين الظّلمة ينتهى بفرض السّلام الدّائم على قدم المساواة بين جميع الأطراف؟ وهل هي حقّا البلسم لجراح الأمّة الإسلاميّة من الخليج إلى المحيط؟ أم أنّها تؤسّس لعمليّة انتحاريّة لها نتائج وخيمة على مستقبل الشّعوب العربيّة والإسلاميّة؟ هل هي معطى استراتيجي أم مرحلي، بمعنى هل المقاومة دائمة مستمرّة في الزّمان والمكان أم هي عمليّة مؤقّتة تتوقّف مع انتفاء أسبابها؟
المقاومة حرية ووجود
على عكس باقي الكائنات التي تدافع بغريزتها عن وجودها، فإنّ «المقاومة» لدى الإنسان وعي وخيار حرّ بمعنى أنّه ليس تعبيرا فطريّا فيه، فالإنسان - دون غيره من المخلوقات- يستطيع أن يختار بين المقاومة والخنوع، إلاّ أن اختياره للخنوع (أي عدم المقاومة) يعني السّماح للآخر باستباحة معنى وجوده، وبالتّالي فالمقاومة وجود وهي تجسيد لحرّية الإنسان. فالذي يختار طريقا غير طريق المقاومة (بمعناها الشّامل الذي سنأتي على توصيفه) لن يرتقي إلى مرتبة الإنسان الحرّ وإنّما هو أضلّ سبيلا من الأنعام التي تقاوم بغريزتها. يقول تعالى :﴿... لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ﴾(الأعراف:179) ويقول أيضا:﴿...إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا ﴾(الفرقان:44) لذا فالمقاومة ليست صراعاً مع الآخر فقط، إنّما هي أيضا نهج وطريقة في الوجود ووعي أخلاقي به، وممارسة واعية ضدّ كلّ معارض لحرّية الإنسان. فثقافة المقاومة هي ثقافة الوجود، وهي ثقافة حماية هذا الوجود والارتقاء به.
ما المقاومة؟ وما هي ثقافتها؟ 
المقاومة لغة هي المعارضة ورفض الخضوع لإرادة الغير أي الممانعة وعدم الرّضوخ لتغيّرات وقوى مفروضة من الخارج، ومواجهة الأخطار التي تنتج عن ذلك، بمعنى الثّبات وعدم الاستسلام للعدوّ رغم قوّته وجبروته وسيطرته الجزئيّة أو الكلِّيَّة على ميادين الصّراع، ولئنْ ارتبط مفهوم المقاومة بالعمل العسكري في مواجهة الاحتلال الأجنبي من أجل دحره وضمان الإستقلال، فإنّ مفهومها له حضور وله تجلّيات أخرى لا تحصى في مختلف ميادين الحياة كالأدب والفلسفة والفنّ والدّين، فالدّفاع عن كلّ ما هو نبيل وجميل وإنساني، هو مقاومة، والمحبّة مقاومة للكراهيّة والتّعصب، والصّدق مع الذّات ومع الآخرين مقاومة للكذب، والدّعوة إلى المساواة والمواطَنة وتعزيزها مقاومة للتّمييز، والدّفاع عن كرامة الإنسان وحرّيته في التّفكير مقاومة من أجل استرداد إنسانيّتنا المختطفة، والوقوف ضدّ التعصّب لمذهب أو عشيرة أو جهة ما، وإطفاء نار الفتن والصّراعات بين مكوّنات المجتمع الواحد مقاومة، ومحاربة الفساد والإفساد والغشّ مقاومة.
المقاومة فعل تصحيحي تجاه كلّ خروج عن الحقّ، وعن المبادئ الإنسانيّة، وتبدأ على المستوى الشّخصي بمقاومة نوازع النّفس نحو الشّر، وتنتهي بمقاومة المفسدين في الأرض وعلى رأسهم الاحتلال الخارجي والاستبداد والطّغيان الدّاخلي وكذلك مقاومة كلّ العوامل المتسبّبة في التخلّف والانحطاط.
وكما أنّ المقاومة من منظور طبّي تشير إلى قدرة الجسد على مجابهة الأزمات الصّحيّة والأمراض، قصد تجاوزها، عبر استنفار كلّ قوى الجسم وتوفير الدّواء المناسب لمجابهة العدوّ الذي يتمثّل في المرض، مع اليقين بالشّفاء، فإنّ المقاومة على مستوى المجتمع تشير إلى القدرة على رفض الأوضاع التي تعيق التّحرّر والنّهضة والتّقدّم الحضاري مع توفير الإرادة لتجاوزها، 
وكما أنّ الاستسلام قاتل للجسد، وتمكين للمرض من جسم الإنسان، وهو عكس المقاومة يعجّل في انهيار صحّة الإنسان وموته. كذلك الاستسلام والخنوع يكرّس من منظور اجتماعي بقاء المجتمع في براثن الفقر والتخلّف والتّبعيّة وبالتّالي الاستعباد والذلّ والهوان أي الموت بمفهوم الاجتماع الإنساني.
المقاومة حقّ مشروع 
المقاومة هي ردّة فعل مشروعة لمواجهة فعل غير مشروع، وهذا من المشترك الإنساني الذي لا خلاف عليه، لتوافقه الكامل مع الفطرة البشريّة، فالمقاومة بجميع أشكالها حقّ مشروع في كلّ الأعراف الإنسانيّة والمواثيق الدّولية، بما فيها ميثاق الأمم المتّحدة، وهي تدخل ضمن الحقّ الطّبيعي للأفراد والجماعات والدّول في العيش بحرّية تامّة وتمتّعها بحقّ تقرير مصيرها، وبالتّالي مقاومة الاحتلال بجميع ألوانه، والتّمييز العنصري بجميع أشكاله، والقهر والفساد والاسترقاق. 
وهي مشروعة أيضا في الإسلام، بل واجبـة على كلّ من يؤمن به ويعتقد فيه، يقول تعـالى : ﴿ وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاٰتِلُونَ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱلْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ ٱلرِّجَالِ وَٱلنِّسَآءِ وَٱلْوِلْدَٰنِ ٱلَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا مِنْ هَٰذهِ ٱلْقَرْيَةِ ٱلظَّالِمِ أَهْلُهَا وَٱجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَٱجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنــكَ نَصِيرًا﴾(النساء: 75) ويقـول أيضـا:﴿ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ﴾ (الحج:39)
المقاومة إذن مشروعة وهي واجبة للدّفاع عمّا نطلق عليه في شريعتنا الإسلاميّة الكلّيات السّبع التي توجب الحفاظ عليها لبقاء الجنس البشري وقيامه بمهامه الاستخلافيّة على أحسن وجه وهي: (الدّين، والنّفس، والعقل، والنّسل، والمال والحريّة والوطن).
 شروط الانتصار 
تقوم المقاومة المطلوبة التي تؤدّي حتما إلى الانتصار على ثلاثة أسس: أوّلها الوعي بالحالة المرضيّة التي يكون عليها المجتمع/الأمّة وبخصائص الواقع الآسن المتميّز بالرّكود والاستكانة والرّضوخ لإملاءات القوى المهيمنة سواء كانت عالميّة أو إقليميّة أو محلّية، وبالتالي الإدراك السّليم للتّحديات التي تواجهها. والثّاني، التّمرّد بمعنى الرّفض العلني لذلك الواقع ومساراته يتمّ التّعبير عنه بجميع الأشكال العسكريّة والسّياسيّة والمدنيّة والثّقافيّة والاجتماعيّة، والثّالث اقتراح وقائع جديدة في مواجهة ما هو مرفوض بمعنى إبداع الأسس الضّروريّة لنهوض المجتمع وفق رؤية شاملة متماسكة وخطط وبرامج، لا تقليد فيها ولااتباع، توقظ الحسّ الوطني والإنساني، وتنبذ الخنوع والعجز والإحباط، لأنّ الاكتفاء بالرّفض دون السّعي للتّغيير لا يؤدّي إلى انتصار المقاومة.
وترتبط قدرة المقاومة على تحقيق أهدافها، بدرجة احتضان المجتمع لها، وامتلاكها لبنية تنظيميّة متماسكة وقيادة مؤمنة بالنّهج المتّبع، والإرادة الواعية وتوفّر الإمكانيات التي تقتضيها اللّحظة التّارخيّة، بالإضافة إلى المهارات المتراكمة في حشد الطّاقات خاصّة النّوعيّة منها...
ثقافة المقاومة 
الصّراع بين الحقّ والباطل وبين المستكبرين والمستضعفين باطنه ثقافي وظاهره عسكري أمني، وقد اعتمد الاحتلال بأشكاله وصيغه المختلفة المباشرة وغير المباشرة على أدوات ثقافيّة بعينها لتسهيل عمليّة اغتصاب الأرض وتبريرها، ثمّ ضمان استمراريته واستكانة الشّعوب المغلوبة، فمع اعتماده على ترسانات الأسلحة يعتمد العدو أيضا على ترسانة إنتاج ثقافي يوجّهها نحو تلك الشّعوب لاقناعها بقبول الهزيمة والاستسلام للتّبعية. وحيث ما ثمّ احتلال هناك مقاومة، وحين يكون ثمّة ثقافة احتلال مصاحبة فلا بدّ من وجود ثقافة مقاومة، فماهي هذه الثّقافة وما هي خصائصها؟
هي ثقافة مضادّة، لثقافة الهيمنة والاستعباد وانتهاك حقوق الإنسان وحرّيته، بمعنى أنّها ثقافة بديلة يحكمها نظام قيمي إنسانيّ تدافع عن كرامة الإنسان وحرّيته وحقّه في العيش الكريم، وعن العدالة وتكرّس مفهوم حبّ الوطن وتقدّسه، هي عمل تربوي أخلاقي ونفسي يهدف إلى بناء إنسان مقاوم، معتزّ بذاته وهويّته، واع بواقعه وبالتّحديات التي تواجهه، يمتلك رؤية واضحة تتناسب مع أهداف مقاومته، واليقين بجدواها.
الهدف الرّئيس لثقافة المقاومة هو أن تعيد الوعي للأمّة وتعزّزه، وتحرّرها من الهزيمة النّفسيّة، ومن الخوف. وتعيد للمنتمين إليها الشّعور بالقدرة على الفعل والتّغيير وبناء القوّة وتحقيق الانتصارات، وتعيد لهم أيضا مشاعر الفخر بهويّتهم أي بالانتماء للإسلام عقيدة وحضارة، فتوقظ فيهم الحسّ الدّيني والوطني لرفض المحتلّ/الحكّام المستبدّين ومن ثمّ تبعث فيهم روح مقاومة القهر المسلّط عليهم. وبذلك تستطيع الأمّة الإسلاميّة بناء قوّتها الصّلبة، وانتاج سلاحها وغذائها ودوائها، وتدرك أنّها بإيمانها تستطيع أن تنجح في مقاومتها وتحقّق الانتصار. 
هي ثقافة نضاليّة لكنّها ليست عدوانيّة، بمعنى أنّها تفرّق بين السّلام والإستسلام، وتنشر قيم التّسامح بديلا للكراهيّة، وقيم العدل بديلا للقهر والظّلم. تُخاصم ثقافة المقاومة المستكبرين وتقف في وجه المعتدين وتوالي المستضعفين وتصطفّ إلى جانبهم، تتمسّك بالقيم الإنسانيّة وثوابت الأمّة /الوطن، ولا تفرط بها ولا تساوم عليها. 
هي ثقافة لا تقاوم المعتدي فحسب بل تقاوم كلّ من يخدم المعتدي وكلّ العوامل المعيقة للانعتاق، فتعمل على تحصين المجتمع والأفراد، ضدّ المضادّات السّلبيّة التي تعمل على تآكل روحه، وتعمل على تداعي قدرته على الصّمود.
الخاتمة 
نجح القساميوّن في توجيه ضربة عسكريّة مرعبة وموجعة للعدو الصّهيوني في السّابع من أكتوبر وما بعده، وأحيوا بذلك «ثقافة المقاومة» التي كادت تتوارى وراء الثّقافات المشوّهة والمشبوهة التي سعى العدو ومن سانده إلى تمريرها وترسيخها في الفضاء العربي الاسلامي ومنها ما سمّي بثقافة السّلام والتّطبيع وذلك عبر إتاحة المجال لكلّ صوت يسبّح بحمد الغرب ويقدّسه لقيادة وسائل الإعلام ومؤسّسات المجتمع المدني ومراكز الحكم والتأثير ودعمه بالمال والعتاد.
إنّ التحدّي الكبير الذي يواجه النّخب الثّقافيّة في العالم العربي الإسلامي هو المحافظة على ثقافة المقاومة والانخراط فيها بجميع الوسائل والإمكانيّات والإسهام في تطويرها وتمريرها للأجيال القادمة. إنّه عمل صعب ولكنّه غير مستحيل، علينا بعدم الاكتفاء بالحدّ الأدنى من تسجيل المواقف، والانطلاق بالوقوف في وجه ثقافة الانكسار التي يسعى العدو والمثقّف المُتخاذل لجعلها سمة الإنسان العربي المعاصر، من خلال تجسيد فكرة المقاومة في ما نكتب ونُغنّى ونرسم وننحت ونبدعه سردا وشعرا وتربية ومسرحا وسينما، وتواصلا اجتماعيّا في الفضاءين الواقعي والافتراضي. 
 لنبدأ جميعا بمقاومة الكذب، بمعنى أن نخدم الحقيقة ونعلنها صريحة، وأن لا نتحوّل على الأقل إلى شاهد زور. ونقاوم ثقافة الفساد والإفساد، والأنانيّة وحبّ الذات ونعمل على تعزيز ثقافة التّسامح بين أفراد المجتمع وتماسك نسيجه والدّفاع عن مفهوم المواطنة، وترسيخ ثقافة العمل ونبذ التّواكل، فالأمّة التي لا تعمل لا تستحق العيش، ونقف صفّا واحدا في مواجهة ثقافة النّفخ في غرائز الهويّات الفرعيّة، دينية وطائفيّة وإثنيّة، ونقاوم ثقافة الشّغف المَرَضي بالسّلطة، عند نخبنا السّياسيّة بجميع أطيافها وتياراتها ونسعى إلى بناء سياسة تقوم على خدمة المجتمع والمواطن بدل خدمة الأجندات الحزبيّة والاقليميّة والعالميّة