تمتمات

بقلم
رفيق الشاهد
أطلق جماح نفسك ما هي الحرية؟
 تعوّدت الجري وراء المعرفة ولا يُدرَك الشّيء منها إلاّ بشق الأنفس. كم كتابا دفعت فيه حرمان زوجتي وأولادي، عساهم يسامحونني يوما ما عن كلّ مليم غيّرت وجهته وسرقته منهم لاقتناء كتاب أو مجلة أو صحيفة، وكم أصبحت هذه الدّعائم باهظة باعتبار قيمة الرّواتب. ولم أندم رغم هذا على كلّ ما أنفقته في ذلك. أمّا اليوم، فقد كثر الحديث عن تأثيرات وسائل التّواصل الاجتماعي ومحركات البحث مثل  «قوقل» وغيره، التي أصبحت بالتّدرج المصدر الأساسي للمعرفة وأصبح جزء كبير منها مجانيّا، ملقى على جانبي الطّريق مثل «الفريب»، ما عليك إلاّ اختيار الأصلح والمفيد. هذه الحقيقة، -مع الأسف- وجب علينا التّعامل معها إيجابيّا وتوظيفها للاستفادة منها على حساب الورق والحبر، وهو مكسب بيئي لو كنتم تعلمون.
شدّ اهتمامي سؤال عن ماهية الحرّية وجدته على قارعة الطّريق، وأنا أتجوّل في شارع «الفيسبوك» أدور يمينا وشمالا، أتصفح المقالات وأقرأ ما طاب منها، وأمرّ بأخرى مرّ الكرام، حتّى سقط بين يدي هذا السّؤال، فتوقّفت عنده. بل جلست وقرأته وأعدت قراءته وتمعنت فيه وسألت نفسي لماذا لا يكون لي رأي فيه. فإذا بها قريبة منّي تهمس في أذني: «نعم، رغم أنّك لست أكاديميّا، تسنّى لي من مطالعاتك ودراساتك وبحوثك على شبكة الانترنت أن ترسّخت لديّ فكرة تؤهّلني ليكون لي رأي في الحرّية. فأعد عليّ السّؤال».
بقيت مستغربا من نفسي، قد تكون تعرف ما لا أعرف، فأعدت فيما بيننا عليها السّؤال قائلا:
«إذا كان كذلك، أفتيني إذًا فيما قال «نيتشه»: «هي، أيّ الحرّية، أن لا يخجل الإنسان من نفسه». وما قاله «كانط»: «هي القدرة على أن يبدأ المرء شيئًا ما». وكذلك «أفلاطون» القائل: «كلّ إنسان يرتّب وينظّم حياته بالصّورة التي تناسبه». و«أرسطو» الذي جعل الحرّية في أن يختار الفرد حياته وعيشها كما يحبّ، دون أن تتدخّل الدّولة في شكل حياته. وكيف اعتبرها «ماركس» الحقّ في فعل كلّ شيء لا يضرّ بالآخرين. 
وأردفت لنفسي: «وأنتِ، برأيك، ما هيَّ الحرية؟» 
لم تتردّد وكأنّ الجواب كان حاضرا. قالت: «لو خيرت بين هذه الآراء المحترمة لهؤلاء الأعلام من المفكّرين والفلاسفة، لجمعت رأي «نيتشه» إلى «كانط» و «أفلاطون» لتوافقهم على الحرّية الواقعيّة. أمّا «أرسطو» فقد اختار الحرّية التي يحلم بها دون قيود. ولكنّ الدّولة موجودة ولا يمكن الاستغناء عنها وهي التي تنظم الحرّيات وهي الضّامنة لها. في حين أنّ «ماركس» ضيّق من الحرّية التي لا تضرّ بالآخر دون اعتبار حدود هذا الآخر التي من فرط اتساعها تجعل حدود الحرّية ضيّقة للغاية».
قلت: «فقط؟ هذا رأيك فيما قيل؟ وأنت قلت أنّ لك ما تقولين في الحرّية بذاتها؟».
قالت: «نعم أزيد فأقول، الحرّية هي علاقة افتراضيّة متوازية تربط جميع العناصر المكوّنة لواقع مستقلّ ينطبق مثلا على جميع سكّان البلد الواحد، فتربط فيما بينهم علاقة شركاء في هذا الوطن. كما أنّ الحرّية التي تلامس الحقيقة لا تكون إلاّ نسبيّة لأنّ نظم الدّولة تختلف من بلد الى آخر ومن مجتمع إلى آخر ومن فئة الى أخرى. وحيث أنّ الدّولة تتكوّن من مجموعات مصغّرة تحمي نفسها وتجعل لأفرادها امتيازات تكتسبها بفرض الأمر الواقع، ممّا يجعل الكلّ يتمتّع بحريّات متعدّدة ومحدودة لا بحريّة واحدة مطلقة، وكلّ حريّة تحدّد بمجالها وبموقع الفرد منها. وهنا السّؤال». 
قلت:  «طُلِب منك رأيك فجاء مبهما وغير دقيق، وإذا بك تريدين أن تزيدي تعقديه بسؤال آخر».
قالت: « بل بالعكس. تُطرح الأسئلة لتنير العقول بتوضيح ما ظلّ مبهما.  أليس غريبا أن يكون المرء حرّا في حدود واقعه الذي توفّر لديه دون اختيار، ثمّ يجد نفسه يتوق الى حرّية حدودها الخيال ويرضخ من حينها تحت وطأة حرّية واقعيّة محدودة ومكبّلة؟ ما فائدة ان أكون حرّة غير قادرة على عيش حرّيتي؟ فأحرى بي أن أستمتع بالحرّية التي أعيشها حقّا وأن أحلم بحرّية أوسع وأشمل».
قلت لها: «وكأنك لا تعيشين معنا على هذا الكوكب».
قالت: « أنت الذي تعيش إن أردت أو تحيا كما شئت. أمّا أنا فبداخلك في القفص الذي سجنتني فيه أحلم وأتوق إلى الحرّية. ألم تر حجم التّهافت على السّلطة لما توفّره لصاحبها من حرّية.
كلا، قلت لها، بل يبدو على الميدان أن اختيار السّلطة هو بذاته شكل من أشكال الحرّية. ولكن ما هي هذه الأشكال وبأيّ ميزان تقدّر الحرّية؟ 
قالت: «هذا جيّد. كم أنا ممتنة أنّك أحيانا تفكّر مثلي. في كلّ الحالات يتبيّن من تجارب الأنظمة باختلاف أنواعها أنّ منسوب الحرّيات لا يقاس الاّ بنسب التّسلّط الذي يبرز من خلال العنف بأنواعه. فنرى عنفا جسديّا ولفظيّا وعنفا نفسيّا وعنفا بالحرمان وعنفا شرعيّا يأخذ شرعيّته بالقانون والفتاوى وآخر اجتماعيّا ومؤسّساتيّا وعنف الدّولة والعنف الدّبلوماسي الذي يعربد بالدّول والعنف الأممي الذي ينظّم العلاقات الدّوليّة بموجب حقّ الفيتو. كلّ هذه الأعناف ....»
هنا قطعت عنها الحديث قائلا: «ما هذه الأعناف؟ إن كنتِ تقصدين صيغة الجمع للعنف فأنت مخطئة. أحرى بك استعمال أصناف العنف عوض عن هذه الكلمة الهجينة».
واصلت: «كلّ هذه الأصناف من العنف يضاف إليها العنف العائلي والفئوي والطّبقي و… كلّها تحسب في قيمة الحرّية المسلوبة. فإن عدّدناها كلّها حدّدنا حجم الشّعور بالضّيم وبالحرّية المسلوبة لتُطرَح من الحرّية المطلقة التي غير ممكن تعدادها ولا حصرها للفرد الواحد باعتبار واقعه منذ ولادته ونشأته. كذلك منسوب الحرّية الجمعيّة المشتركة لفئة تنتمي لواقع مستقل. هذا يعني أنّ الحرّيات تسلب بالحقّ الذي يكتسب. فالحرّية مطلقة ينهشها البشر فيما بعضهم بكلّ الوسائل المتاحة باعتماد القوّة ناعمة كانت أو خشنة أوعنيفة، فالغاية واحدة والوسائل متعدّدة». 
قلت : «هكذا ترين إذن، أنّ الحرّية فريسة وقعت بين وحوش أنهكهم الجوع. رأي أحسبه لكِ، ولكنّه ينفي الحرّية حتّى عن الوحوش التي لم تشبع».
قالت: «أرى أنّ أفضل النّاس حرّية أولئك الذين لا يمكنهم بحال من الأحوال تجاوز الواقع الذي احتواهم وظلّ يحتويهم أو الخروج عنه». 
قلت: «وكأنّني أفهم منك أنّ الرّضوخ للواقع يؤمّن الشّعور بالحرّية؟» 
قالت: «لا، لا تقوّلني ما لم أقُل. لا يُنظر الى مفهوم الخنوع والرّضوخ للواقع إلاّ بمقدار القبول والرّضوخ لضيقه وتضييقه».
قلت لها فيما بيننا: «واللّه وكأنّك لست منّي. من أين لكِ كلّ هذا عن الحرّية. يكفي دغدغتك بالسّؤال فإذا في جعبتك ما يفي وأكثر».
قالت: «فعلا عندي المزيد وكلّه في رأسك. ولكنّك أغلقت عليّ بأقفال ثقيلة، ولطالما انتظر هذه الفرصة. سأفرغ جعبتي هذه المرّة وليكن لك ما يكون».
وزادت: «يحمل معنى الحرّية فضيلة من فضائل البشريّة، فنقول الإنسان الحرّ والنّفس الحرّة الأبيّة والمعتدلة والعادلة. ويشترط في هذه الخصلة النّبيلة فقط أن يكون صاحبها إنسانا، فلا يقبل أن يتمتّع بحقّ سالب حرّية غيره». 
قلت - هذا جميل، يعيدنا إلى رأي ماركس «الحق في فعل كل شيء لا يضر بالآخرين». وهو خير ما نختم به هذا الحوار.
قالت: «ليس قبل أن أكمل فكرتي».
وواصلت: «ظننّا منذ 1948 تاريخ انبثاق الإعلان العالمي لحقوق الإنسان أنّ هذا الميثاق سيعوّض قانون الغاب بقانون المدينة الفاضلة، فإذا بالأمم المتّحدة شرّعت لبناء جنان حولها، وأمّنت تسييجها ورعايتها وحمايتها من بقيّة العالم الذي شيء له أن يبقى «سافانا» ترتع فيها الوحوش ووجهة لسياحة «السّافاري» المفضّلة والصّيد فيها ممتع».
قلت لها: «يكفي ستورطينني». وأسكتّها وأغلقتُ عليها من جديد.