نقاط على الحروف

بقلم
منير شماع
في الحاجة إلى تعايش في ظل الاختلاف
 إنّ تميّز الوجود البشري بالتّنوع والتّعدّد يجعل مبدأ الاختلاف معيارا مؤسّسا لكلّ صيغ التّفاعل الإنساني، وحتّى إن كان هذا المبدأ محرّكا فاعلا لتاريخ الصّراعات بكلّ تمفصلاته على امتداد التّاريخ، ذلك أنّ من محاسن التّفكير في الوجود الإنساني هو إدراك حجم الفراغات والتّباينات التي تحكم طبيعة الحياة المشتركة التي يعيشها الإنسان مع الأغيار، ذلك الفراغ الذي سمّاه الوجوديّون بالعدم يؤسّس لأهميّة الاعتقاد في أنّ الاختلاف أصل تجاري لهذا الوجود وليس عرضا تحكمه الصّدفة والفجائيّة، لذلك لابدّ من أن ندرك ككائنات عاقلة أنّ الاختلاف هو فعاليّة إنسانيّة وجوديّة تمحو كلّ أنماط ما يسمّيه «دولوز» بالإجماع المفتعل أو التّواطؤ القبلي وما يمقته «ديكارت» من أشكال الاتفاقات الجماعيّة والاحكام الجاهزة التي لا تجعل من الإنسان ذاتا فاعلة ومؤثّرة في هذا الوجود بقدر ما تختزله في خانة القطيع يُجمع بعزف النّاي بمنطق شاعريّة «نيتشه»
ليس هذا الوجود المحكوم بالاختلاف سوى علامة على أنّ التّعدّد والتّنوع في ظلّ هذا الاختلاف عنوان للثّراء الوجودي للإنسان، لذلك فإن كان قدرنا الثّقافي جعل «امبرتو إيكو» من أساتذتنا الافتراضيّين فإنّه لابدّ من أن نتوقّف عند العلامات وعلامات العلامات لإعطائها دلالة ترتبط بسياقات عامّة إيمانا بصدقيّة السّيميائيّات كعلم للعلامات، فالخالق له قصد وللمخلوقات إشارة تتطلّب عقلا يقظا، لذلك لا يمكن أن يكون هذا الاختلاف إلاّ علامة سيميائيّة دالّة على مبدأ التّعايش ومنطق الوجود النّسبي للإنسان الذي لا يكتمل إلاّ من خلال تجاوز مفهوم الفرد في اتجاه الجماعة، لأنّ العزلة بمختلف تمظهراتها الفلسفيّة سواء في صيغتها الدّيوجينيّة الكلبيّة أو الدّيكارتيّة وعزلة الجبل عند «نيتشه» أو الانطواء التّشاؤمي لـ«شوبنهاور» ليست سوى سياقات عرضيّة لحالات نفسيّة مرضيّة أكثر منها تعبير عن خاصّية إنسانيّة.
لأنّ الإنسان مدنيّ بطبعه على حدّ تعبير «أرسطو»، يميل تلقائيّا للعيش المشترك، لكنّ التّاريخ لا يعترف بقيمة الاختلاف كمحرك إيجابي ليبيّن فضاعته بقدر ما يصنّفه ضمن خانة الشّرّ باعتباره سببا رئيسيّا لأنهار الدّم التي تسبّبت فيها أحداثه، فالاختلاف سواء كان دينيّا أو عرقيّا أو مذهبيّا أو ايديولوجيّا، شكّل وقودا لنار الفتنة والحروب أهليّة كانت أو استعماريّة.
لكنّ هذا التّصنيف التّاريخي لمفهوم الاختلاف الذي يجعله يئنّ تحت ركام ظلم تاريخي مفتعل يعبّر عن رؤية فلسفيّة اختزاليّة للمسبّبات الحقيقيّة للعدوان البشري الممتد تاريخيّا، فالظّاهر أنّ فهم الإنسان طيلة وجوده الامبريقي للاختلاف هو ما جعله يسقط ضحيّة عنف مجاني، لأنّ التّأويلات المحكومة بالرّبط السّببي المشبع بالذّاتيّة للعلاقة التّعسفيّة القائمة بين الاختلاف والعنف هو ما جعل هذا المبدأ يسقط ضمن نزوات تأويليّة للعاطفة الإنسانيّة التي تقتات من ركام عنف وراثي، لذلك قد يتطلّب منّا الأمر في لحظات تاريخيّة التوقّف للحظة لتأمّل المفهوم وإدراجه ضمن سياقات دلاليّة جديدة تخرجه من منعطفات التّأويل الكلاسيكي لمفهوم الاختلاف، لكنّ ذلك يبقى رهين سيادة مقاربة موضوعيّة متحرّرة من العاطفة والايدولوجيا تتغذّى من رحم منطق أرسطي يؤمن بعلاقة استلزاميّة بين المقدّمات والنّتائج كما علّمنا المعلم الأول.
فالإيمان بعقيدة الاختلاف لا يمرّ من نوافذ بشبابيك حديديّة ضيّقة المعابر بل بمداخل زجاجيّة تتعرّى أمام الواقع بدون خجل إيديولوجي، عقيدة كونيّة أركانها العقل والمنطق وصلاتها إنصات وتأمّل. لكن ذلك يبتغي حكما مشروعا في ظلّ واقع يصنع أحلاما تلائم مقاساته يسمّيها تعسفا طموحا رغم ارتدائها أقنعة الأوهام. 
أقول حلما قابل للتّحقّق لأنّ الحلم هو وجود بالقوّة بمنطق أرسطو، فسيادة دين الاختلاف لن يغادر مغارة وجود بالقوّة في اتجاه وجود فعلي إلاّ إذا آمن الماركسيّون أنّ «ماركس» قد تبرّأ منهم بقوله «أخبروا هؤلاء أنّني لست ماركسيّا»، وإذا أدرك اللّيبراليّون أنّ الحرّية هي ترك النّاس يسلكون وفق مشيئة إرادتهم لأنّ الحياة ليست مقاولة والوجود ليس شركة مجهولة الإسم والقيمة المضافة لا تحقّق إلاّ اقتصاديّا، أمّا اجتماعيّا فهناك قيم لا تباع ولا تقوم بسعر، فالبضاعة مادّة والإنسان روح، وإذا علم الشّيوعيّون أنّ «ماو» لم يمنع أحدا من السّير في مسيراته، ويعلم الاشتراكيّون أنّ إيديولوجيتهم تقوم على المشترك المتعدّد وليس على عزلة الأفكار وإقصاء الآخر. 
لن تخرج ديانة الاختلاف من السّرّ الى العلن إلاّ اذا علم الحداثيّون أنّ الحداثة سلوك وممارسة وليس مقولة تنظيريّة، وأنّ الحداثي مؤمن بالآخر المختلف أكثر من إيمانه بالمتواطئ والمشابه، إلاّ إذا اقتنع المتديّنون جدّا أنّ الدّين علاقة روحيّة للفرد بالخالق لا يمارس بالوكالة ولا بالوصاية، وآمن الحقوقيّون أنّ الحقّ فضيلة كما علّمنا الإغريق وليس معجما مفاهيميّا يؤثّث الفضاءات العامّة في الاجتماعات الفخمة المأكل والمنام، وأنّ العدالة مساواة وإنصاف وليس انتقاء. 
لن تخرج ديانة الاختلاف من السّرّ الى العلن إلاّ  إذا آمن الملحدون أنّ العالم ليس فوضى بل فضاء منظّم سمّاه الفلكيون كُسْمُوسًا محكوما بإرادة قوّة قبليّة أيّ المحرك الذي لا يتحرّك بلغة المعلم الأول، وإلاّ إذا أدرك المحتجّون ذوو الجرعات الزّائدة أنّ «غاندي» علّمنا أنّ الصّمت هو كلّ الكلام وأنّ الاحتجاج سلم وليس صياحا وتكسيرا و تخريبا وأنّ مسيرة الملح نموذج للغضب الصّامت، وإذا مارس الدّيمقراطيّون نقدا ذاتيّا لأنّ الدّيمقراطيّة ليست هي فوز «من أريد» لكن  فوز «من نريد»، هي إيمان بثقافة «النّحن» أكثر من نرجسيّة «الأنا»، وأوقف السّياسيّون نفاقهم واعترفوا أنّ الاسلاميّين هم أيضا بشر ومن حقّهم ممارسة السّياسة كفعل بشري.
 لن تخرج ديانة الاختلاف من السّرّ الى العلن إلاّ  إذا آمن الرّجعيّون أنّ النّكوص جريمة لأنّ الطّبيعة لا تسمح بالمشي دبرا حتّى للكائنات التي لا تتجاوز حدود الوجود البيولوجي، وإذا تحرّر المحافظون من ثقافة الإرث الايديولوجي لأنّ العقول لا تعمل إلاّ إذا تحرّرت من جبروت التّذكّر، فالإنسان بالمنطق الوجودي كائن مستقبلي والماضي ليس سوى مجرد زمن انقضى وليس إلها يعبد، وأيضا إذا أدرك هؤلاء أنّ الاركيولوجيا تخصّص ومهنة وليست أيديولوجيا تدرس لتورث.
لا يمكن أن تسود ثقافة الاختلاف إلاّ إذا علم الإمبرياليّون أنّهم جزء من الظّلم التّاريخي للبشريّة وأنّ إمبراطوريتهم بنيت على أنقاض دول، واعترف هؤلاء بجرائمهم وأدركوا أنّ منظمات حقوق الإنسان وبرامج الاستجداء الأممي والتّسوّل الكوني لن تجمّل صورتهم الاضطهاديّة تاريخيّا. 
لا يمكن أن تسود ثقافة الاختلاف إلاّ إذا علم العنصريّون أنّ «مارتن لوثر كينغ» ما كان له أن يحلم لأنّ الحلم هروب من الواقع، ومبدأ المساواة بين النّاس هو أكثر واقعيّة، وأدركوا أنّ عقود «مانديلا» في السّجن لم تبيّض بشرة الأفارقة بقدر ما جعلت البيض يعترفون بجماليّة سوادهم، لأنّ السّواد ليس لونا وإنّما عقليّة وعمى إيديولوجي، وإذا أدرك المرتزقة أنّ الأرزاق سبلها وعرة وطريقها صعبة ومسالكها ملتوية لكنّهم يختارون طريقا أقصر مسافة وعمرا أيضا.
ولن تسود ثقافة الاختلاف إلّا إذا فهم الآباء أنّ الأبناء قيمة روحيّة إضافيّة تعطي معنى للوجود البشري وليسوا قوّة إنتاجيّة ولا مشروعا استثماريّا مدرّا للرّبح، وفهم الأمازيغ أنّ العرب جزء من كلّ ما يسمى وطنا يحتضن الكلّ بدفء ولا يفاضل بين أبنائه، فخور بتنوّعه وتعدّد منابع ثقافاته، وأدرك العرب أنّ الأمازيغ سكّان أصليّون وليسوا بضاعة مستوردة. 
لن تسود ثقافة الاختلاف إلاّ إذا فهم الشّيعة أنّهم فصيل إديولوجي وليسوا أصلا دينيّا وأدرك السّنة أنّ التّشيّع اختيار ولا إكراه في الدّين، واعترف الأغنياء أنّ ثرواتهم مدينة للفقراء عمالا وزبائن، وفهم الفقراء أنّ الغنى عطاء واجتهاد وليس منحة من الرّبّ.
ستسود ثقافة الاختلاف عندما يعلم البعض بأنّ البعض الأخر من حقّه أن يكون وأن يفكر وأن يعيش وأن يوجد كبعض يكمل ما تبقى من البعض. 
سنؤمن بعقيدة الاختلاف عندما يصير دمنا جميعا من فصيلة «O» .