فواصل

بقلم
حسن الطرابلسي
رواية «حربوب، بصمات على جدار الزمن» مذكرات أم قصة نجاح؟
 قبل البداية
عندما اشتريت الرّواية وقرأت عنوانها، تساءلت عن المقصود بكلمة «حربوب»؟ وماذا تعني؟ وممّا زاد حيرتي الإضافة التي صاحبت العنوان وهي: «بصمات على جدار الزّمن».
 حربوب؟ زمن؟ ماذا يعني كل هذا؟ 
1) هل أنّ «حربوب» اشتقاق ساخر لكلمة حرب؟ هل يقصد الكاتب علاقة الحرب وتأثيرها أو بصماتها على الزّمن؟ هل هي جدليّة الزّمن في عصر الحرب؟ وهكذا إلى غير ذلك من الأسئلة. ولمّا بدأت القراءة توضّحت لي بعض الصّور. ولكنّي لم أفهم كلمة «حربوب». وممّا زاد حيرتي أنّي عرفت أسماء بعض أبطال الرّواية، مثل عامر العريض، القيادي في حركة النّهضة، والعيدي ضيف اللّه، وهو صديق يقيم في ألمانيا، هاجر زمن محرقة التّسعينات إلى ليبيا والسّودان واستقرّ به المقام أخيرا في ألمانيا، وأسماء أخرى مخزّنة في ذاكرتي، وإن كنت لا أعرفها، مثل محمد قنيدي ومصطفى الونيسي ومبروك صويد وأبو بكر الثّابتي... ولست أعلم كيف خزّنت ذاكرتي هذه الأسماء، ولكن لعلّها وصلت إليها عن طريق الأحاديث والحوارات التي سمعتها من أصدقائي من الجنوب التّونسي. فكنت أتساءل: هل أنّ بقيّة الأسماء حقيقيّة؟ أم هي محض خيال روائي. ولكنّ تفكيري لم يطل وأردت أن أخرج من الشّكّ إلى اليقين، فاتصلت بالأخ العيدي ضيف اللّه، الذي هو أحد أبطال الرّواية كما ذكرت، وسألته أوّلا ماذا تعني كلمة «حربوب». فشرح لي أن «حربوب» هي منطقة صغيرة تابعة لمدينة رمادة وقد بنى بها المخلوع المقبور زين العابدين بن علي سجنا لمعارضيه. كما سألته عن شخصيّات القصّة، فأكّد لي أنّها شخصيّات حقيقيّة وليست من بنيات فكر الكاتب.
2) نقطة أخرى مهمّة، وهي أنّي أثناء مطالعتي لرواية «حربوب». كنت في نفس الوقت، ولقدر ما لا يتّسع المجال هنا لشرحه، أستمع إلى كتاب «Shoe Dog» وترجمتها «كلب الأحذية»؟ لصاحبه «فيل نايت Phil Knight» مؤسّس شركة «نايك NIKE». ولمّا كان كتاب «فيل نايت»، كتابا مسموعا عن طريق تطبيق «أوديبل Audible»، فإنّي كنت أقرأ «حربوب» عندما أجلس إلى مكتبي. وعندما أذهب إلى الشّغل أو أتنقّل من مكان إلى آخر فإنّي استمع إلى كتاب «فيل نايت». كانت الأمور في البداية عاديّة، أتمتّع بالكتابين، ولكنّي كلّما توغّلت فيهما وجدت طرافة ومتعة خاصّة في القراءة. وشعرت بشيء غريب من التّطابق بين الكتابين، وبين الرّجلين، رغم الإختلاف الواضح بينهما. والغوص في هذا الإختلاف خطير لأنّه قد يقود إلى دائرة مغلقة تنطوي على تناقض يشمل المبنى والمعنى ويجعلنا نواجه مفارقة Paradox. فمن ناحية «فيل نايت» رجل أعمال، بدأ حياته شابّا طموحا يعمل على تأسيس شركته ومن النّاحية الأخرى محمد رمضان مناضل من أجل الحرّية عُذِّب وسُجن.
إذا وبناء على النّقطة الأولى والثّانية فهذا المقال، عزيزي القارئ، ليس دراسة أدبيّة نقديّة تقليديّة، كتلك التي تعوّدت عليها، تهتم بالبناء القصصي والحبكة الرّوائيّة وتُقيِّم المستوى اللّغوي، فهذا ليس اختصاصي ولا هو مجال بحوثي، وإنّما هذا النّصّ قراءة تطمح أن تكون جديدة وخَلّاقة. تنطلق من رواية «حربوب»، ولكنّها لا تتوقّف هناك، بل تحاول في نفس الوقت إلقاء الضّوء على كتاب وتجربة «فيل نايت». 
البداية: الحرّية ضد الإستبداد
 تدور أحداث الرّواية في ولاية تطاوين في الجنوب التّونسي، وبطلها هو التّلميذ محمد رمضان الذي كان «مقبلا على الحياة مستبشرا» (ص9). ويمتدّ مجالها الزّمني من انقلاب 7 نوفمبر إلى نهاية سنة 1992. كان محمد يدرس في معهد رمادة، وهي معتمديّة تنتمي لولاية تطاوين. هذه الولاية، مثلها مثل سائر ولايات الجنوب التّونسي، ظلّت طيلة حكم دولة ما بعد الإستقلال محرومة من مشاريع تنمية حقيقيّة تسندها وتخرجها من الفقر والحاجة. وهي وضعيّة تقود إلى «استسلام النّاس إلى أقدارهم وقد تطاول عليهم ليل البخس، وتنكّر الدّولة، وانعدام المعروف، وأرض قفر جدباء لا تنبت إلاّ مضضا أو ضريعا مذبّبا خشنا» (ص 12). وهكذا فإنّ رمضان كان ضحيّة لهذه السّياسة الجائرة، ولكنّه «برغم الحاجة والضّيم وضيق المكان وانحسار الحلم» (ص11) بقي مستبشرا بالحياة. وهو مشهد ولئن التقى فيه، نسبيّا، مع المشهد الذي رسمه «فيل نايت» لطفولته المتميّزة بتواضع مادّي إلاّ أنّه يختلف عنه في مستوى اتساع دائرة الحلم. فنايت يعيش في جوّ الحرّية الذي يسمح للطّموح أن ينفتح على عكس محمد رمضان الذي يعيش تحت نير الإستبداد الذي يقتل كلّ طموح ويخنق كلّ محاولات التّحرّر. 
بدأ رمضان نشاطه ضمن خلايا الإتجاه الإسلامي، حركة النّهضة حاليّا. ولم تكن تلك الخلايا أو الأسر مجرّد لقاءات لحفظ القرآن ودراسة السّيرة النّبويّة وإنّما كانت أكثر من ذلك بكثير. كانت الخلايا تمثّل لشباب تلك المرحلة مدرسة إضافيّة، ومكانا للتّكوين وتنمية القدرات وتطوير الكفاءة كما كانت تُوفِّر إمكانيّة للتّرفيه وممارسة الهوايات الرّياضيّة والفنيّة وغيرها.  فلقد كان مشرفوا الخلايا والأسر ينظّمون الدّورات الرّياضيّة سواء بين هذه الخلايا أو بين المساجد صباح أيّام الأحد. كما كانت تُربِّي روح الإبداع والإستكشاف عبر الرّحلات التي كان ينظّمها مسؤولو تلك الخلايا بالتّعاون مع خلايا أخرى في مدن أو ولايات الجمهوريّة التّونسيّة. وكان هذا التّزاور والتّعارف ينمّي بين أبناء الحركة الإسلاميّة العلاقات البينيّة خاصّة أنّه يتمّ في أجواء روحيّة راقية. وهكذا فالخلايا تزرع في الشّباب، في ذلك الوقت، أشياء كثيرة لا يجدونها في المدرسة أو النّوادي التّقليديّة التي سيطر عليها حزب التّجمع الحاكم، وأخضعها لسياسته وأصبح أقصى ما تقدّمه للشّباب أن تصنع منهم أبواق دعاية للنّظام الحاكم، فيصفق الرّجال وتزغرد النّساء. أمّا حلقات الإتجاه الإسلامي وخلاياه فكانت تربّي في الشّباب: التّعاون والتّآزر وتزرع فيهم الأمل، وتجذّرهم في ثقافتهم وتربطهم بدينهم وتؤسّس عندهم فهما متوازنا للحاضر والماضي، فينشؤون على فهم ناضج للتّاريخ. وهنا كانت كتب القرضاوي والغزاليّان (أبو حامد، والشّيخ محمد) والغنوشي والنّجار وغيرهم تتداول بينهم. وبذلك فهي تحقّق رغبة فطريّة لدى الشّباب عامّة: الجدّة والإكتشاف والتّمرّد على كلّ أشكال السّلطة، التي تبدأ من سلطة الأب المهيمنة ضمن العائلة الخاضعة لهرميّة قروسطيّة بائدة لم تعد تستجيب للعصر، إلى تمرّد على السّلطة بكلّ أشكالها. وبكلمة مختصرة لقد كانت تلك الخلايا تمثّل حالة مكتملة من الوعي على جميع الأصعدة. ولذلك فإنّها كانت تقبل برضا كبير عند الشّباب في الثّمانينيات من القرن الماضي. وكلّ من تربّي في هذه الخلايا يصعب على الإستبداد إخضاعه. ولكن يجب التّنبيه إلى أنّ هذا التّمرّد أو المعارضة بلغة أدق، التي شهدتها تونس في الثّمانينات، تختلف عن معارضة شباب تونس في السّتينات والسّبعينات من القرن الماضي في بعض التّفاصيل المهمّة. ذلك أنّ هذه المعارضة كانت متجذّرة في عمق الشّعب، فهي مرتبطة بحضارته ومتصالحة مع تاريخه. هذا الفهم جعلها تحيي دور المسجد، الذي تحوّل مع الهرسلة العلمانيّة البورقيبيّة إلى ما يشبه الكنيسة، ومع هذا الشّباب تحوّل المسجد إلى مؤسّسة تربويّة وجهاديّة. كما أعادت هذه الحركة الشّبابيّة الإعتبار لمفهوم الزّكاة والصّدقة وجعلتها مؤسّسة للتّعاون الاجتماعي، فبعثت من جديد كلّ صور التّكافل الاجتماعي وغيرها. على العكس منها تأسّست معارضة السّتينات والسّبعينات على قطيعة مع حضارة التّونسيّين لأنّها، في الأغلب، تؤمن بفكرة أنّ الدّين أفيون الشّعوب وأنّه سبب التّخلّف والعائق أمام التّنمية، ولذلك كان تمرّد تلك العشريتين غير عقلاني ومدمّر واستطاع النّظام البورقيبي أن يخضعه بسرعة، فكانت أحداث 1978 آخر معاركه الحقيقيّة. والغريب أنّ رموزه منذ خسارة تلك المواجهة انخرطوا تدريجيّا ضمن النّظام الحاكم وأصبحوا يده الطّولى، التي تمكّنت خاصّة، بعد انقلاب 7 نوفمبر 1987، من توظيف الدّولة من أجل القضاء على المعارضة من أبناء حركة الإتجاه الإسلامي.
ومحمد رمضان عاش بالضّبط في فترة تمكّن ثوار الأمس من مؤسّسات الدّولة، وخاصّة وزارة الدّاخلية. «وهكذا بدأ محمد رمضان يعي حيثيات العمل السّياسي التّلمذي ومداخله القصيّة، فلا يتردّد في الإستجابة للمشاركة في الأنشطة الثّقافيّة، رغم حساسيّة المرحلة التي تشهد تحوّلا من النّظام البورقيبي إلى نظام السّابع من نوفمبر، الذي لم تتّضح معالمه بعد، وتقبّله النّاس بحذر شديد على إثر انقلاب ناعم، نعومة الأفاعي المتكاثرة في القرية.» (ص 12)
هل نحن أمام قصة نجاح؟
لما تمكن المخلوع المقبور من الحكم بدأ بتصفية خصومه، وكانت حركة النّهضة خصمه الأساسي. فكثرت الاعتقالات والتّعذيب. وقد اعتقل محمد رمضان نفسه بعد محاولة للخروج من تونس إلى ليبيا. سلك فيها طريقا بدأ من المعهد الثانوي بتطاوين، عبر المحطات التّالية: المدنينية، فذهيبة، فنالوت، ثمّ وازن (وهي أوّل قرية ليبيّة في طريقه)، والزّنتان. ولكنّه اعتقل في ليبيا وعذّب تعذيبا شديدا، وتمّ تسليمه إلى تونس لينتهي به الأمر في سجن «حربوب».
ولما كنت أقرأ رواية «حربوب» بالتّوازي مع كتاب Shoe Dog فإنّه استوقفتني رحلة «فيل نايت». التي بدأت من مسقط رأسه أوريغون بالولايات المتحدة الأمريكية إلى هونولولو بهاواي ثم اليابان، وهونغ كونغ، ومانيلا بالفلبين، ففيتنام، فكالكوتا بالهند ثمّ كينيا، مرورا بالجيزة بمصر والقدس وإسطانبول ليصل إلى روما، ففلورنسا، فميلانو، ثم باريس، وميونيخ، وبرلين، وفيينا، ومن هناك إلى لندن، فأثينا ثمّ العودة مجدّدا إلى أوريغون.
توقّفت كثيرا وأنا اتمعّن في خطّ الرّحلتين وسياقاتهما. ولست أعلم لماذا استفزّني ذلك وشغلني كثيرا. فعدت إلى خريطة العالم وبدأت أرسم عليها رحلة «فيل نايت»، فوجدت أنّه زار أغلب الحضارات عبر التّاريخ. ولكنّي عندما تحوّلت إلى تتبّع مسار تنقل رمضان اصطدمت بداية بالمساحة الجغرافيّة المحدودة والصّغيرة التي تنقّل فيها محمد رمضان، مقارنة مع رحلة نايت، بحيث لم أستطع رسم الطّريق على خريطة العالم التي أمتلكها. فعدت إلى خرائط «جوجل» وبدأت أكبّرها حتّى أجد المناطق التي ذكرها محمد رمضان في خطّ سيره. ثمّ وضعت الطّريقين أمامي وبدأت أحاول الفهم. وكنت أبحث عن وجه للمقارنة؟ وأنا أتساءل هل يمكن أصلا الحديث عن مقارنة بين الرّحلتين؟
رحلة «فيل نايت» كانت في العالم الكبير (الماكروكوسموس) في حين خطّ سير رمضان، وهنا لا نستطيع الحديث عن رحلة، يمكن إدراجه ضمن العالم الصّغير (الميكروكوسموس)، وشتّان بين العالمين. رحلة «فيل نايت» قادته لتأسيس شركة من أكبر الشّركات في العالم وخطّ سير رمضان عاد به إلى السّجن. إذن ما هو وجه المقارنة؟ وأين هو المنطق في هاته المقارنة؟
فأعدت القراءة والإستماع مرّة أخرى. ولم أصل إلى شيء. وتشوّش تفكيري فتوقّفت عن الكتابة لمدّة. ولكن ذهني بقي مشغولا بالموضوع. 
وذات ليلة توجهت للنّوم ووضعت رأسي على المخدّة وتَلَوْتُ وِرْدا تعوّدت قراءته كلّ ليلة. وسكنت إلى فراشي. وفجأة تذكرت جملة افتتح بها «علي عزت بيجوفيتش»، الرّئيس البوسني السّابق، كتابه «هروبي إلى الحرّية» وهي كالتّالي: «هذا الذي (ربما) سيقرأه القارئ كان هروبي إلى الحرّية. ومن الطّبيعي، ومع أسفي، لم يكن ذلك هروبا حقيقيّا، وكنت أودّ لو كان كذلك. الأمر هنا يتعلّق بهروب معيّن، كان ممكنا في سجن فوتشا ذي الجدران العالية، والقضبان الفولاذيّة ـ وهو هروب الرّوح والفكر. ولو أتيح لي فعلا الهرب لأعطيت الأولويّة للهروب الجسدي قبل هذا الهروب الثّاني. وأعتقد أنّه كان بإمكان قّرائي أن يستمعوا برضا إلى قصّة مثيرة عن هرب أحد السّجناء من سجن محاط بالحراسة القويّة جدّا على قراءة أفكاري وتعليقاتي، على مواضيع السّياسة والفلسفة.» (هروبي إلى الحرية، ص 17). وهنا وجدت الحل. ولكن كيف ذلك؟
إنّ هروب «بيجوفيتش» لم يكن هروبا ماديا يبحث عن الإثارة، كتلك التي نجدها في سلسلة Prison Break التلفزيّة، ولكنّه كان يبحث في هروبه أو رحلته، من وجهة نظري، عن شيء أعظم وأكبر من أي فلم سينمائي أو سلسلة تلفزيّة. إنّه يبحث عن الحرّية. ولمّا كانت الحرّية مسألة غير محسوسة، فلا تستطيع العين أن تراها ولا يمكن لليد أن تلمسها ولا تجد لها الأذن صدى أو صوتا، ولكنّ العقل والقلب، كليهما، يؤمنان بوجودها. فوجودها حقيقة كارتيزيانيّة clair et certain.  وهكذا فإنّ من يعود إلى لحظة سجن «علي عزت بيجوفيتش»، في بداية الثّمانينات من القرن الماضي، لم يكن يدر بخلده أنّ هذا السّجين الهارب من سجنه، رمزيّا بطبيعة الحال، هو الشّخصيّة الحقيقيّة التي سوف تقود، بل تعيد الحياة لشعب كامل كادت أن تفنيه حرب إبادة قادتها ضده قوّة عسكريّة عاتية. إنّ «علي عزت بيجوفيتش» علّمني أنّ الرحلة لا يمكن أن تكون جغرافيّا فقط خاضعة للزّمان والمكان الفيزيائيّين وإنّما يمكن لها أن تتجاوزه إلى ما يمكن تسميته بالزّمن التّراجيدي أو الزّمن النّفسي كما نجده عند «فيكتور غولدشميت» في كتابه الهام «الزّمن الفيزيائي والزّمن التّراجيدي عند أرسطو (Victor Goldschmidt, Temps physique et temps tragique chez Aristote) وبالتّالي يمكننا، بهذا الفهم، الحديث عن المآلات والنّتائج باعتبارهما مسألتين مادّيتين نتجاوز بهما الجانب النّفسي والتّراجيدي. وبناء على هذا الفهم تغدوا المقارنة بين الرّحلتين ممكنة ونخلص منهما إلى نتائج مهمّة. وهكذا توضّحت الصّورة بشكل أفضل وتحوّلت رحلة كلّ من «محمد رمضان» و«فيل نايت» إلى قصّة نجاح لكلّ منهما، مع فارق مهم سنوضّحه فيما بقي من هذا المقال. 
كلاّ البطلين كانا في صراع مع الزّمن. محمد رمضان تمثّل صراعه في ألاّ ينهار ويسقط بين يدي جلاديه في ليبيا ثمّ في تونس. «فيل نايت» كان في صراع مع الزّمن لكيلا يفشل في تأسيس شركته. تأوّهات محمد رمضان ونحن نجده يصرخ عندما يغوص رأسه في السّطل الكبير المليء قاذورات والذي أعده الجلاد بوجمعة الأڨرع (في ليبيا) (ص 68ـ69) أو عندما يُسَلَّم إلى تونس ويلقي به الجلاّد اليحياوي ومساعدوه «في وسط الدّاموس، والبعوض ينهش جسمه» (ص 104) هي صراع مع الزّمن لكي يثبت أنّه لا يزال حيّا رغم «تطاول الزّمن على الفتى» (ص 107). «فيل نايت» كان يردّد بأنّه إن كان لا بدّ من الفشل فما عليه إلاّ أن يفشل في أسرع وقت ليبدأ تجربة جديدة. محمد رمضان كان ينتظر متنفّسا من الرّاحة يجدّد فيه أنفاسه. (ص 104ـ106) 
إذن كلاهما كان يصنع قصّة نجاح. ولكنّها قصة نجاح مرتبطة أشدّ الإرتباط بسياقاتها الحضاريّة والتّاريخيّة وحتّى الجغرافيّة لتكون لكلّ قصّة في النّهاية «بصمات على جدار الزّمن».
فمحمد رمضان كان يصنع قصّة نجاح اسمها الحرّية، وهي كما أثبتنا أعلاه، غير مادّية، ولكنّها موجودة. وأمّا «فيل نايت» فكان يصنع قصّة نجاح اسمها شركة NIKE. محمد رمضان يستمدّ قوّة من التّاريخ عبر استحضار صور أبطال التّاريخ الإسلامي والتّونسي تبدأ بالرّسول الكريم ﷺ لتصل إلى أبطال التّحرير كالدّغباجي وخليفة بن عسكر وغيرهما. و«فيل نايت» أيضا يستمدّ قوّته من التّاريخ الغربي والأمريكي على وجه الخصوص، فيستحضر جورج واشنطن وبنيامين فرانكلين وديك فان دايك وغيرهم.. ومن الملفت أنّ اسم شركته، أيضا، مستمدّ من عمق تاريخي. فهو أثناء زيارته إلى اليونان عندما وصل إلى تمثال زيوس Zeus أب الآلهة والبشر عند اليونان قرأ في زيارته تلك اسم Nike نايك، وهي إلهة النّصر والسّرعة والقوّة عند اليونان القديم.
إذا هو نفس المسار ونفس الطّريق، والنّجاح هو النّجاح. طريق مرّ به كلّ «صناع» الشّعوب مثل بيجوفيتش ومانديلا وغاندي وجورج واشنطن وبنيامين فرانكلين وديك فان دايك والدّغباجي وخليفة بن عسكر وغيرهم من الشّخصيات التي أسهمت في صناعة شعوبها بشكل من الأشكال أو في مجال من المجالات. وهذه الشّخصيّات، باستثناء بيجوفيتش، وردت كلّها في رواية «حربوب» أو في «Shoe Dog».
غير أنّ هناك فارقا بين البطلين. «فيل نايت» يعيش فترة انتصار بلده على الصّعوبات وتحدّيات التّأسيس التي واجهتها الولايات المتحدة أثناء حرب التّحرير ثمّ أثناء الحرب الأهليّة الأمريكيّة وانتصارها في الحربين العالميتين، وبالتّالي فإنّ قصّة نجاحه سيغلب عليها الجانب المادّي التّقني لأنّ الحضارة قد اكتمل بناؤها. على العكس منه فإنّ محمد رمضان يعيش في بلد لا يزال في مرحلة التّأسيس للحرّية، فهو يقاوم الإستبداد والدّيكتاتوريّة والحرب لا تزال سجالا بين الأحرار وبين المستبدّين. ولمّا كان الإستبداد أصل لكلّ فساد، فإنّ أحلام الأطفال في وضع الإستبداد تصطدم بـ«مستقبل غائم» (ص 11) ولكنّها في الوضع الدّيمقراطي، حيث تتوفّر الحرّية، تُبْقي كلّ شيء منفتحا على إمكانيّات الخلق والإبداع. وهذا هو الفارق المهم، ولكنّ النتيجة واحدة: فكلاّ من محمد رمضان وفيل نايت يصف قصّة نجاح مهما اختلفت الأوضاع. نايت كانت قصّة نجاحه في إضافة لبنة أساسيّة للحضارة الأمريكيّة. ومحمد رمضان ساهم في صناعة قصّة نجاح للحرّية ستثمر نتائجها في الأجيال القادمة. 
كيف يمكن أن تكون النّهايات؟
قصص صناعة النّجاح، رغم ما يرافقها من تحديات وصعاب، لها في الغالب الأعم نهاية واحدة: النّجاح والرّضا والفخر وشكر النّعمة.
«فيل نايت» يعتزّ بقصة نجاحه كرجل أعمال أسّس شركة كبرى من لا شيء. لذلك نجده يروي لنا بسعادة كيف كان يستعدّ سنة 1980 لزيارة الصّين ليكون أوّل مستثمر أمريكي يفتتح مشروعا لصناعة الأحذية الرّياضيّة هناك. ونجده في آخر الكتاب يعبّر عن سعادته بأنّه يتبرّع بأكثر من مائة مليون دولار سنويّا لمشاريع خيريّة متعدّدة. ومن ثمّة فليس غريبا أن يعبّر عن سعادته بأنّه أمريكي، حرّ، بل إنّه يستحضر تاريخ أمريكا وكفاحها من أجل الحصول على استقلالها، ويعدّد شخصيّات كبرى ساهمت في بناء الحضارة.
وكذلك محمد رمضان، فهو رغم العذاب الذي تعرّض له نجح، ونجاحه شهد له به أصحابه المعتقلون معه. ألم يقل له علي الصلاّي، وهو أحد أساتذته كما فهمت من خلال الرّواية: «لا تحزن يا محمد رمضان فقد نجحت في الإمتحان» (ص 110) إنّه نجاح بطعم العلقم، ولكنّه نجاح، وأيّ نجاح.  
إنّها نهاية تبدو مؤلمة ولا شكّ. ولكنّي أعتقد، بعد مراجعة وتفكير وتأمّل، أنّ الرّواية لا تكتمل بحقّ إلاّ عندما نقرأ غلاف الكتاب في آخر صفحة. هنالك نجد تعريفا بكاتب الرّواية الدّكتور محمد التّومي. وبقليل من التّفكير سوف يجد القارئ خيطا رفيعا يربط بين الكاتب وبين بطل الرّواية. فمسار محمد رمضان هو نفسه مسار محمد التّومي. الإختلاف الوحيد هو الإسم العائلي. كلّ هذا جعلني أتساءل إلى أي حدّ نجح المؤلّف في رسم رواية تتحدّث عن تجربة شخصيّة، ولكنّها في نفس الوقت تطمح إلى أن تكون رواية أدبيّة. وجدت أنّ الفاصل بينهما لا يعدو أن يكون خيطا رفيعا جدّا، جدّا، يمكننا أن نمسك به بهدوء ونتبعه حتّى الأخير ليصبح التّعريف بالكاتب، في هذه القراءة، جزء من الرّواية نفسها، إذ هو بمثابة فصلها الأخير. فمعاناة وعذابات التّلميذ محمد رمضان تمثّل الشّباب الصّعب والظّروف القاسية للرّاوي محمد التّومي والعكس أيضا صحيح، إذ يمثل محمد التومي التّتويج النّهائي، غير المنتظر، لمحمد رمضان. هذا المسار يذكّرني بعلي عزت بيجوفيتش السّجين أو أيضا بمانديلا السّجين الذي توّج مسار نضاله بأنّه أصبح رئيسا لبلده. وتلك هي قصّة الحرّية في أي ثقافة أو حضارة. 
في الحقيقة لم أكن لأصل إلى هذه القراءة لو أنّ الكاتب استكمل روايته بفصل إضافي عن نهايات المرحلة السّجنيّة وتَحقُّقِ الحرّية. فكم تمنّيت ألاّ تكون نهاية القصّة بالتّساؤلات التي طرحها محمد رمضان في آخر صفحة. 
ولكنّ الكاتب أختار أن تكون نهاية «حربوب» كما كانت واختلفت بذلك حتما عن نهاية Shoe Dog. ولعلّ الكاتب أراد تأكيد مسار عام للرّواية يبدأ بالفرار ثمّ الإعتقال والتّعذيب والحكم الجائر، في محاكمة صوريّة ضاعفت أحكامهم وعلم المتّهمون نتائجها من الجلاد وليس من القاضي، ليرسم صورة صادقة عن الملهاة التّونسيّة التي وصلتها في زمن المخلوع المقبور حيث تجاوزت المعقول والمنطق المتعارف عليه. ولا شكّ أنّها فكرة رائدة. إنّها تصوّر الملحمة التّونسيّة، وترسم الدّراما التّونسيّة التي جعلت الشّاب اليافع محمد رمضان «يحاول أن يستجلي حقيقة ما حدث في المحكمة.» (ص 148) فنجده يتساءل «لماذا لم يسألهم القاضي عن التّهم المنسوبة إليهم؟ لماذا لا يريد أن يعلم ما قاسوه في المعتقلات الرّهيبة من تعذيب شديد جاوز كلّ حدّ ونأى عن كلّ وصف» (ص 149). إنّها فعلا نهاية مؤلمة، ولكنّها تتناسب مع المسار العام للرّواية: طرد من المدرسة، محاولة فرار فاشلة بعد غدر من أحد الحراس، تعذيب شديد، ومحاكمة صوريّة تنتهي بالعودة إلى السّجن. وهذا بالضّبط هو الوضع في حالة الإستبداد. 
إذا هل يمكن الحديث عن أمل في مثل هذه الظروف؟
هنا نجد تأثير التّكوين في الخلايا والأسر، كما وصفناه في بداية التّحليل. إنّ محمد رمضان الذي تربّى في الخلايا على الارتباط بتاريخه وأصالته، نجده بمجرّد أن يسمع تلاوة القرآن بصوت رخيم «تغشاه السّكينة وينفلت من عقال الأسئلة الحيرى كمثل التّيه المضلّ.» (ص 146) إنّها حالة من الإرتقاء الرّوحي، قد يكون الإمام الغزالي أفضل من شرحها في كتاب الإحياء، وبالذّات في باب الإخلاص. ولكنّي، أعتقد، أنّ أفضل من حوّلها إلى لغة مكتوبة كان «علي عزت بيجوفيتش». فهو يقول في آخر جملة من كتابه الإسلام بين الشرق والغرب (ص396) «إنّ الإسلام لم يأخذ اسمه من قوانينه ولا نظامه ولا محرّماته ولا من جهود النّفس والبدن التي يطالب الإنسان بها، وإنّما من شيء يشمل هذا كلّه ويسمو عليه: من لحظة فارقة تنقدح فيها شرارة وعي باطني.. من قوّة النّفس في مواجهة محن الزّمان.. من التهيُئ لاحتمال كلّ ما يأتي به الوجود.. من حقيقة التّسليم للّه. إنّه استسلام للّه.. والإسم إسلام.»