التجديد الحضاري

بقلم
د. محمد المجذوب
الا بذكر الله تطمئن القلوب..
 إنّ الانفعالات النّفسيّة السّالبة حالة ناتجة عن تناقض بين قوى الخير والشّر، وبين الفضائل والغرائز، ومن ذلك الشّعور بالذّنب والخطأ الذي كثيرا ما يتسبّب في القلق والفزع والعدوان واضطراب الطّبع والسّلوك. بيد أنّ الشّخصيّة الرّاشدة التي ترتكز على معنى الإيمان بالقضاء والقدر والبرّ والتّقوى، وعلى مسؤولية الاختيار وطلب العلم والصّدق والتّسامح والأمانة والتّعاون والقناعة والصّبر والاحتمال والقوّة والصّحة... الخ، فإنّها تشجّع نفسها على إنماء شخصيّتها واكتمالها بقصد الحياة الطّيبة.
 ومن هنا جاءت الوصايا الدّينيّة بالتّقرّب من تعاليم الدّين بقصد ترضية النّفس واطمئنانها بواسطة ذكر اللّه والتّوبة والاستبصار واكتساب الاتجاهات الجديدة الرّاشدة...الخ.
كون أنّ النّفس المطمئنة التي هي مستقرّ الإيمان باللّه فإنّها نفس خاشعة، نفس متوكّلة على اللّه، نفس واثقة في اللّه، نفس محبّة للّه، تأنس باللّه وتشتاق إلى اللّه… فلو اطمئن القلب تماماً، وأصبحت عادته الاطمئنان صارت نفسه نفساً مطمئنّة. 
فقانون طمأنينة النّفس من قانون طمأنينة القلب والذي هو ذكر اللّه ومداومته وتنويعه أمد الحياة، يقول تعالى:﴿ الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾(الرعد: 28)، أي تطيب وتركن إلى جانب اللّه، وتسكن عند ذكره، وترضي به مولى ونصيراً. وطمأنينة القلب سكونه، وسكونه بزوال التّعلّق والإنزعاج والإضراب عنه وهذا لا يتأتّي بشيء سوى بذكر اللّه تعالي .
ودلالة ذلك أنّ منهج الإسلام مع طمأنينة النّفس في نظرته لعلاج الانفعالات النّفسيّة يراهن على تحقّق الإنسان لعناصر متكاملة في بناء شخصيّته السّويّة الرّاشدة، تمكّنه من احتواء انفعالاته، فلا تكون الاّ في ذكر اللّه، لتستمدّ النّفس الرّشد والاستقامة، ولا تكون صدى أو ردّة فعل للمؤثّرات البيئيّة أو الاجتماعيّة أو السّياسيّة من حوله فحسب، وذلك بتذكية الصّفات الأساسيّة فيها، وهي الصّفات التي نجملها في:
أولاً: قوّة الثّقة بالله
وهي أمر أساسيّ في بناء الشّخصيّة حتّى تكون حياة الإنسان خالية من القلق والاضطرابات النّفسيّة.. وتتمّ تقوية الصّلة باللّه بتحقيق حالة التّقوى مع اللّه واستدامتها، ومادّتها نواحي التّقوى التي أوضحها القرآن الكريم.
ثانياً: ضبط النّفس والحكمة.
وذلك إزاء انفعال الغضب، كونه انفعال فطري طبيعي يشعر به الكبار والصّغار؛ ولا يعتبر الغضب في حدّ ذاته مشكلة، ولكنّ الخطورة في هذا الانفعال عندما يخرج عن السّيطرة، وينجمّ عنه عواقب غير محمودة تختلف حدّتها من موقف إلى آخر. وتكون معالجة الغضب بأمور وطرق كثيرة منها ترويض النّفس وتدريبها على التّحلّي بفضائل الأخلاق، وتربيتها على الحلم والصّبر وعدم الاندفاع أو التّسرّع في الحكم، وحثّها على التّأنّي...الخ.
ثالثا: الثّبات والتّوازن الانفعالي.
وذلك في مواجهة انفعال الخوف، الذي هو انفعال فطري ويولد مع الإنسان أيضا، الاّ أنّ ردود الفعل الانفعاليّة عندما تصبح عالية جدّا، فإنّها تشلّ سلوك الإنسان، فقد يكون الإنسان خائفا لدرجة لا يستطيع معها ترك غرفته حتّى في ساعات النّهار. في حين أنّه، وبالإيمان باللّه، فإنّ القلب يشعّ الطّمأنينة والثّبات والاتزان ويقي المسلم من عوامل القلق والخوف والاضطراب، يقول تعالي:﴿ وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ * وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ﴾(الشورى: 30-31).
رابعاً: المرونة في مواجهة الواقع.
هي القاعدة التي تساعد الإنسان على استيعاب انفعالات القلق، بوصفه ردّ فعل عام يحدث عند الإنسان وهو انفعال إنساني أساسي يعرف بأنّه انفعال غير سارّ وشعور مكدّر بتهديد همّ مقيم مع عدم استقرار وراحة مع إحساس بالتّوتر وشدّ وخوف دائم لا مبرّر له من النّاحية الموضوعيّة، ويتعلّق هذا الخوف من المستقبل المجهول، كما يتضمّن القلق استجابة مفرطة لمواقف لا تعني خطرا حقيقيّا والتي قد لا تخرج من الواقع عن إطار الحياة العادية لكنّ الإنسان الذي يعاني من القلق يستجيب لها غالبا كما كانت ضرورات ملحّة أو مواقف تصعب مواجهتها وهو ما يسمى بالقلق المرضي. وعلاجه الإيمان العميق بالقدر، يقول سبحانه وتعالى:﴿ قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾(التوبة: 51).
 وهنا ينبغي أن يفسّر هذا القول دوما بصفة إيجابيّة كحثّ على قبول المصائب بصدر رحب دون الالتجاء إلى مظاهر اليأس والوهن والانهيار، أو دون الالتجاء إلى السّلوك العدواني المعاكس أو التّهجّمات المفرطة التي لا يحمد عقباها، ولا يعني ذلك الاستسلام بل العمل الجدّي على تعدّي الأمر والقفز بعد ذلك إلى الأمام للتغلّب على الشّدائد والمصائب. انطلاقا من مبدأ تحمّل مسؤولية الاختيار، يقول تعالى:﴿ بَلِ الْإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرهُ ﴾(القيامة: 14-15).
خامساً: التفاؤل وعدم اليأس
الإنسان المؤمن، متفائل دائما لا يتطرّق اليأس إلى نفسه، يقول تعالى:﴿ يَا بَنِيَّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ ﴾(يوسف: 87)، ويطمئن اللّه المؤمنين بأنّه دائماً معهم، اذا سألوه فإنّه قريب منهم، ويجيبهم إذا دعوه، يقول:﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ﴾(البقرة: 186). وهذه قمّة الأمن النّفسي للإنسان، عندما يحقّق الإنسان التّوافق مع نفسه ومع الآخرين، ويكون بفضل الايمان والتّزكية التي توقظ ضمير الإنسان وتقوّي صلته باللّه. 
وبذلك يخوض المسلم حياته العمليّة وهو يحمل رصيداً مناسباً من الأسس النّفسيّة السّليمة التي تمكّنه من التّحكّم والسّيطرة على نزعاته وغرائزه وتمنحه درجة عالية من الرّضا عن نفسه، ممّا ينعكس على توافقه مع الآخرين. وعندما تقوم حياة الإنسان على البّر والتّقوى، والتّسامح الذي يزيد المودّة ويبعد البغضاء، وكظم الغيظ والعفو عن النّاس فذلك دليل على تقوى اللّه وقوّة التّوازن.