رسالة فلسطين

بقلم
أ. د. محسن محمد صالح
الدلالات الاستراتيجية لطوفان الأقصى
 تعدُّ عمليّة  «طوفان الأقصى» التي شنّها مقاتلو كتائب القسّام التّابعة لحركة حماس من قطاع غزّة، ضدّ المستعمرات والمعسكرات الإسرائيليّة المحيطة بغزّة، حدثاً استراتيجيّاً، غير مسبوق طوال الخمسة والسّبعين عاماً التي مضت على إنشاء «إسرائيل».
فنحن أمام أكبر هجوم فلسطيني وعربي داخل فلسطين المحتلة سنة 1948 منذ إنشاء «إسرائيل»؛ أدّى خلال بضع ساعات إلى احتلال نحو 20 مستوطنة ونقطة استيطانيّة و11 موقعاً عسكريّاً، بما في ذلك مقرّ قيادة «فرقة غزة» التي تتبع جيش الاحتلال. إذ كان مركز كلّ الحروب والمعارك الأساسيّة خارج الأرض المحتلّة سنة 1948.
ونحن أمام أكبر عدد من القتلى الصّهاينة في كلّ الحروب التي خاضها الفلسطينيّون بعد 1948، وحتّى مقارنة بمعظم الحروب التي خاضتها الجيوش العربيّة. ففي حرب 1967 لم يزد قتلى الصّهاينة عن 750 قتيلاً، وفي حرب اجتياح لبنان على مدى ثلاثة أشهر سنة 1982 لم يزد عن 650 قتيلاً، وفي حرب تموّز 2006 كان 104 قتلى. والاستثناء الوحيد هي حرب أكتوبر 1973 التي خاضها الجيشان المصري والسّوري على مدى 16 يوماً وقتل فيها نحو 2,200-2,500 جندي إسرائيلي. وحتّى كتابة هذه السّطور، بعد خمسة أيام من المعركة، اعترف الصّهاينة بنحو 1,300 قتيل و3 آلاف جريح.
ونحن أمام أكبر عدد من الأسرى الصّهاينة تأسره المقاومة في تاريخها، حيث يزيد عن 150 أسيراً العديد منهم ضبّاط كبار في الجيش الإسرائيلي.
ونحن أيضاً أمام أكبر مفاجأة عسكريّة استراتيجيّة وأكبر فشل للأنظمة الأمنيّة في تاريخ «إسرائيل»، رافقتها أسوأ حالة ارتباك وأسوأ مظهر مهين لمنظومة الحكم الإسرائيليّة.
الدلالات الاستراتيجية:
أولى الدّلالات الاستراتيجيّة لعملية طوفان الأقصى سقوط «نظرية الأمن الإسرائيلي» القائمة على مبادئ الرّدع والإنذار المبكر والقدرة على الحسم؛ والتي أضيف إليها مبدأ رابع سنة 2015 هو مبدأ الدّفاع. حيث تهاوت هذه المبادئ الأربعة في هذه العمليّة. كما أنّ عدداً من الأسس التي قامت على تلك المبادئ ضُربت أيضاً بقوّة، مثل نقل الحرب إلى أرض «العدو»، والحدود القابلة للدّفاع عنها، والمناطق العازلة. ولأنّ الأمن هو أمرٌ جوهري في العقيدة الصّهيونيّة وأساس في بنية الكيان الإسرائيلي، باعتباره يوفّر ملاذاً آمناً ليهود العالم، وباعتباره قادراً على سحق وردع كلّ القوى والجيوش في البيئة الاستراتيجيّة المحيطة؛ فإنّ الضّربة التي تلقّاها في الصّميم ستُفرغ المشروع الصّهيوني من محتواه، وتفقد «أرض الميعاد» جاذبيتها، وتجعل اليهود الصّهاينة المقيمين يتطلّعون للهجرة المعاكسة وللعودة إلى البلدان التي جاؤوا منها. ولذلك سعت القيادات السّياسيّة والعسكريّة فوراً إلى التّعبئة العامّة، وتشكيل حكومة «وحدة وطنية»، ومحاولة استرداد حالة الرّدع وترميم صورتها التي تهشَّمت؛ من خلال القصف الوحشي للمدنيين والتّدمير الشّامل للمرافق والخدمات المدنيّة في قطاع غزّة.
الدّلالة الاستراتيجيّة الثّانية هي مركزيّة الأقصى والقدس في الوجدان الفلسطيني والعربي والإسلامي، بما يجعله مهوى القلوب ومصدر إلهام عظيم، وبما يجعله موحداً وجامعاً لقوى الأمّة، وموّجهاً لبوصلتها. ولذلك، فإنّ تمادي الصّهاينة في العدوان على القدس ومحاولة تهويد الأقصى، كان طوال العقود الماضية عنصر تثوير وتفجير في مواجهة المشروع الصّهيوني…، وهو ما كان سبباً أساسيّاً لمعركة «طوفان الأقصى» التي حملت اسمه.
الدّلالة الاستراتيجية الثالثة هي التّكريس العملي لمشروع المقاومة، باعتباره الأداة الفعالة الصحيحة لانتزاع حقوق الشعب الفلسطيني ودحر الاحتلال. إذ جاءت هذه العمليّة تتويجاً لعملٍ مضنٍ متواصل من حماس وقوى المقاومة في مراكمة القوّة، حقّقت في إثره قفزات نوعيّة بشريّاً وعسكريّاً وأمنيّاً، وقدّمت أداء مذهلاً، توَّجت فيه أربعة حروب سابقة. يأتي هذا بعد أن كان قادة فلسطينيّون منافسون يتّهمون صواريخ المقاومة بأنّها صواريخ عبثيّة وأنّها ألعاب ناريّة.
وقد تزامن هذا مع سقوط مسار التّسوية السّلميّة، وفشل منظمة التّحرير والسّلطة الفلسطينيّة في الاعتماد على اتفاقات أوسلو لإقامة الدّولة الفلسطينيّة المستقلّة على فلسطين المحتلة سنة 1967، وبعد تنَكُّر الحكومات الإسرائيليّة لها، ومضاعفة برامج التّهويد والاستيطان، وتحويلها السّلطة الفلسطينيّة إلى أداة تخدم أغراض الاحتلال أكثر ممّا تخدم تطلّعات الشّعب الفلسطيني.
الدّلالة الاستراتيجيّة الرّابعة هي فشل المشروع الصّهيوني في تطويع الإنسان الفلسطيني. فخلال ثلاثين عاماً من الاحتلال البريطاني وخلال خمسة وسبعين عاماً من إنشاء الكيان الإسرائيلي لم يتوقّف الشّعب الفلسطيني عن الانتفاضة والثّورة …، موجات تصعد وتهبط ولكنّها مستمرة. ولم تنفع معه كافّة أشكال القهر والتّهجير والتّدمير والمعاناة؛ وكلّما ظنّ الصّهاينة أنّهم نجحوا في الإخضاع كلّما ظهرت انتفاضة تعيدهم للمربّع الأول كما في الانتفاضة المباركة 1987–1993، وكما في انتفاضة الأقصى 2000–2005، وكما في الحروب التي خاضتها غزّة، وفي انتفاضة القدس وغيرها. ولذلك لم يكن غريباً أن تقول صحيفة هآرتس «إننا نواجه أصعب شعب في العالم». وها هو «المارد» الفلسطيني المقاوم يفرض برنامجه على العالم من جديد.
الدلالة الاستراتيجية الخامسة هي فشل «إسرائيل» في تقديم نفسها كشرطي للمنطقة. فبعد حالة العجز والفشل في التّعامل مع المقاومة الفلسطينيّة، وبعد سقوط نظريّة الأمن، وانهيار الرّدع، وانكشاف أن «نِمرها» هو «نِمر من ورق»، لم تعد «إسرائيل» قوّة يعتمد عليها الغرب في الهيمنة على المنطقة، ولا قوّة موثوقة تلجأ إليها دول المنطقة في حلّ نزاعاتها، وفي حسم صراعاتها مع أعدائها. وغالباً ما ستفشل «إسرائيل» في ترميم الصّورة البائسة التي ظهرت عليها في معركة طوفان الأقصى.
الدلالة الاستراتيجية السادسة سقوط فرضيّة إمكانيّة إغلاق الملف الفلسطيني بينما تتمّ عمليّة التّطبيع مع البلدان العربيّة والإسلاميّة، بحيث يتمّ الاستفراد بالفلسطينيّين وعزلهم عن بيئتهم العربيّة والإسلاميّة، وفرض الرّؤية الصّهيونيّة في تسوية الملف الفلسطيني. وهذا ما تفاخر به نتنياهو في خطابه في الأمم المتحدة في أيلول/ سبتمبر الماضي.
لقد أثبتت عمليّة «طوفان الأقصى» أنّه لا يمكن تجاوز الشّعب الفلسطيني وحقوقه؛ وأنّ المقاومة قادرة على أن تقول كلمتها، وأن تفرض شروطها على «اللعبة». وأنّ مسارات التّسوية السّلميّة والتّطبيع مصيرها الفشل طالما ظلّ الاحتلال قائماً. كما أنّ التّفاعل الإيجابي الواسع للشّعوب العربيّة والإسلاميّة وأحرار العالم في نصرة الشّعب الفلسطيني ومقاومته، يظهر أنّ عمليّة التّطبيع هي قشرة سطحيّة رسميّة، مرتبطة بمصالح بعض الأنظمة، ما تلبث أن تزول بزوال تلك المصالح أو بنزول دعاة التّطبيع عن سدَّة الحكم.
وأخيراً، فإنّ عمليّة طوفان الأقصى تركت أثراً عميقاً في المسار الفلسطيني، ومن المرجح ألاّ يكون ما بعد يوم 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023 كما قبله.
(*) تمّ نشر أصل هذا المقال على موقع مؤسّسة الإذاعة والتلفزيون التّركية (تي آر تي عربي TRT ا )، 13/10/2023.