نافذة على الفلسفة

بقلم
أ.د. عبدالرزاق بلقروز
من عقلانية الحداثة الغربية إلى عقلانية الإيمان التوحيدي: نحو حداثة إسلامية متصلة (5-5)
 العقلانيّة الإسلاميّة ومرتكزات الحداثة المتّصلة
1. تظافر العقل والإيمان من أجل ترشيد مسيرة الإنسان:
لمّا كان من مقاصد الحداثة الارتقاءُ بالإنسان في مستوياته الرّوحيّة والمعرفيّة والعمرانيّة، متوسّلة في سبيل هذه المهمة بالعقلانيّة المنفصلة وحدها، وكانت مآلاتها بخلاف هذه التطلّعات كما رأينا، فإنّ الحداثة الإسلاميّة لا تتقاطع مع هذه المنظورات التي اتخذت من العلمنة الكلّية أداة مركزيّة لها، وجلبت الفوضى والاضطراب للإنسان بدلاً من أن تكون سبب أمن وسلام وعدل له.
فقد جرى التنكُّر للإيمان بنسق الحداثة العقلانيّة الغربيّة، والاحتفاء بالعقل وحده تحت وابل من المسوّغات التي أوردناها في ما مضى. وفي المقابل، فقد زادت العقلانيّة الإسلاميّة من قيمة التّعقُّليّة بوصفها قناة معرفة مُؤثِّرة لمعرفة حقائق التّوحيد؛ إذ من غير العقل لا تُعرَف حقيقة الشرع، «ولذلك كان المطلب الإلهي الأول، والواجب الإلهي الأول هو «المعرفة»؛ معرفة اللّه ومعرفة الإنسان نفسه وعلاقاته المتنوّعة، وهذه المعرفة منطلقها الأساس هو «النّظر العقلي»، وبذلك كان «النّظر العقلي» المطلب الإلهي الأول من الإنسان؛ إذ بدونه لا يمكن بناء أي مطلب آخر»(1). وبعبارة أُخرى، فإنّ العقل يوصِل إلى الإيمان بالتّوحيد، لكنّه لا يقطع في أمور الغيب؛ لأنّها ليست من اختصاصه. وأمور الغيب مصدرها الغيب لا العقل، وهذا لا يعني انتهاء دور العقل وتوقيف نشاطه، إنّما «يفترض أن يحدث العكس، فإذا كان «النّظر العقلي» قد قاد خطى الإنسان إلى معرفة اللّه واهتدى بذلك إلى التّوحيد، فذلك يعني أنّ قدرات هذا العقل، وقد أضيف إليها الإيمان بكلّ الطّاقات التي يفجّرها في الإنسان، سيكونان معاً قادرين على «الجمع بين القراءتين»، ومعالجة كلّ ما يعترض سبيل الإنسان في هذه الحياة، أو يحول بينه وبين تحقيق أهدافه في التّزكية والعمران، بعد أن هيّأ اللّه سبحانه وتعالى له سبيل بلوغ التّوحيد والوصول إليه»(2).
هذا من منحى، ومن منحى تحليلي آخر، فإنّ موضوع «الإيمان باللّه ليس أمراً من أمور العقل الإنساني وحسب، بل هو المعنى الواقعي والحيّ للإنسان، بعقله وجسده، وبعقله وغرائزه، وبموقعه في سياق الحالة الإنسانيّة والتّاريخ الإنساني، وبتعلُّقه بالتّقاليد والمرجعيّات وأعراف التّفكير، وموازين القيم، وبمصالحه والتزاماته الاجتماعيّة. فالإنسان لا يستطيع التّحدّث عن ذلك (الشّيء). ولذا فالدّين أمرٌ فوق طبيعي، لأنّه لا برهان منطقي على حقيقة الحقيقة، ولا على حقيقة اللّه. فلا برهان على حقيقة الذّات الإلهيّة هو أَولى من الحبّ. فالعلاقة باللّه علاقة ثقة. بيد أنّ الإيمان ليس أمراً غير عقلاني. وهناك تأمُّليّةٌ في حقيقة اللّه ناتجة عن التّجربة الإنسانيّة، والدّعوة إلى حرّية قرار الإنسان. وهكذا فالإيمان باللّه يمكن تسويغُهُ في وجه النّقد العقلاني. ذلك أنّ جذره مستقرٌّ في التّجربة الإنسانيّة ذاتها، والتي تطرحُ أوّل الأسئلة وآخرها بشأن سياق إمكانها. فالإيمان ليس قراراً أعمى، خالياً من الواقعيّة؛ بل هو أمرٌ مؤسَّسٌ في الواقع وعليه، وهو مسوَّغٌ في الحياة العمليّة. وتأتي أهميتُهُ للحاجات الوجوديّة وللأوضاع الاجتماعيّة، وتُصبحُ ظاهرةً من خلال حقيقة العالَم والإنسان. يتجلّى الإيمان في العلاقة الواقعيّة بزملائنا البشر، والتي تبدو بمثابة الشّرط الضّروري لتقبل اللّه لنا»(3).
إنّّ مشكلة العقل الحداثي تتمثّل في وقوفه على الدّلالات المحسوسة والظّواهر المرئيّة، وعدم النّفاذ إلى لبابها. ولو كان هذا العقل مخلصاً لفطرته وتكوينه الأصلي لما انتهى إلى عقلانيّة مجرّدة من البُعْد الإيماني؛ عقلانيّة مُكتفية بذاتها، وغير قادرة، بل لا تريد أن تتفاعل مع غيرها من مصادر المعرفة التي ليست من جنسها.
2. وحدة التفسير والقيمة أو الآية والمعنى في قراءة الطبيعة:
يمكن إجمال أهداف حركة العلمنة التي تحقّقت فعليّاً في ثلاثة مستويات، هي:
- نزع القداسة عن الطبيعة، حيث لا مكان فيها للأثر الإلهي.
- نزع القداسة عن التشريع السياسي، حيث لا منـزلة للدين في تدبير المجتمع.
- نزع القداسة عن القيم، بإسكانها في تربة النسبية والثقافية.
ومدار كلامنا في هذا العنصر، هو النّزع الأول الذي استحالت الطّبيعة بموجبه إلى مكان للسّلب والنّهب وإفراغ الكون من قيمته الدّينيّة. فالطّبيعة كتلة صمّاء يخوض الإنسان ضدّها صراعاً أبديّاً للسّيطرة عليها، والتّمتّع الزّائد بخيراتها وأنّى له ذلك؛ فقد جرّد الإنسان الغربي الطّبيعة من أسرارها ومقاصدها الرّوحيّة؛ بإنزال المناهج العلميّة عليها وتكميمها، وحصر قيمتها في التحكّم التّقني للإنسان، وتحدّدت وجهة الإنسان الذي أضحى مركزًا هنا، تحدّدت نحو البُعْد المادي والشّعور الوهمي بألوهيّةٍ تستمد قيمتها من قدرات عقليّة أضحت تبحث عن منشئه ومصيره.
لقد نمت دلائل عديدة «تشير إلى اختلال التّوازن البيئي، مثل تدمير البيئة الطّبيعيّة، واستهلاك مصادر البيئة المحدودة، والتّوسّع الخطير لأنماط الحياة العمرانيّة، تلك الدّلائل لم تكن محل اعتراض لعقود مضت باعتبارها تكلفة حتميّة للتّقدّم الاقتصادي والتّطوّر المادّي. ولكن ما إن جاءت حقبة الثّمانينات حتّى أعلنت الطّبيعة عصيانها إزاء تلك الانتهاكات التي أدّت إلى تفكّكها، فقضية ثقب الأوزون، والتّغيرات المناخيّة... وخطر الإشعاعات المتزايد، كلّ ذلك أثبت أنّ عمليّة سيطرة الإنسان على البيئة بهدف توسيع دائرة أمنه وحرّيته أصبحت في الحقيقة تتهدّد حتّى بقاء الإنسان على قيد الحياة، وهذا البقاء هو من الأهمّية بحيث يشكل الشّرط الأساسي لاستتباب الأمن الوجودي»(4).
وتأسيساً على ذلك، فإنّ النّفسيّة الاستحواذيّة عند الإنسان الغربي (جرّاء استناده إلى النّموذج العقلاني) هي سبب الأزمة البيئيّة، وإزالة الفهم الآياتي للطّبيعة، وهذا مخالف أشدّ المخالفة للنّظرة الإسلاميّة حيال الطّبيعة. «فالقرآن يؤكّد بوضوح لا لبس فيه أنّ الطّبيعة كلّها كتاب كبير مفتوح قابل للفهم والتّفسير، وهو كذلك يخبرنا بأنّ أصحاب العقول والبصيرة والفهم والتّمييز والمعرفة يدركون المعاني التي ينطوي عليها كتاب الطّبيعة، ذلك أنّ الطّبيعة كتاب يحدّثنا عن الخالق، وهي تخاطب الإنسان بوصفها وحيا من اللّه... إنّ الطبيعة ذات مغزى كوني، وهي تستوجب احترامها وتقديرها لأجل صلتها الرّمزيّة باللّه عزّ شأنه. أمّا الإنسان فهو حسب القرآن الكريم خليفة اللّه تعالى الذي أورثه مملكة الطّبيعة»(5).
إنّ الاسلام هو دين لا ينحصر في العالَم الدّاخلي كما هو الحال في الدّيانة البوذيّة والبرهميّة والمسيحيّة، ولا يبصر في الجسد كدورة وجب التخلُّص منها باقتلاع الشّهوات والزّهد في العالَم، الأمر الذي زاد -فيما يبدو- من عمليّة العلمنة وسرعة نفوذها في دوائر الحضارة الغربيّة. فزهد المسيحيّة في الطّبيعة والاكتفاء بتأمُّلها أورث النّظر التأمُّلي الذي لا يتفاعل معها تفاعلاً حيويّاً، في حين وجّه الإسلام العقل إلى العالَم الخارجي، وهذا أمر غير مألوف في الأديان. إنّ هذا التّآخي بين الملاحظة والتّأمُّل الإسلامي هو تآخٍ بين عالمين يجدان أصلهما في توحيد اللّه سبحانه وتعالى؛ أي وحدة الأصل، والآيات القرآنيّة التي تُصوِّر الظّواهر الطّبيعيّة تتداخل فيها أيضاً الملاحظة الهدفيّة والقاصدة بالشّوق والإعجاب الدّيني. وحين نتجه إلى الطّبيعة «نجد فيها تقبّلاً كاملاً للعالم، ولا أثر فيها لأيّ نوع من الصّراع مع الطّبيعة. فالإسلام يُبرز ما في المادة من جمال ونبل كما هو الحال بالنّسبة للجسم في موقف الصّلاة، والممتلكات في الزّكاة. إن ّالعالَم المادّي ليس مملكة للشّيطان، وليس الجسم مستودعا للخطيئة. حتّى عالم الآخرة وهو غاية آمال الإنسان وأعظمها، صوّره القرآن مغموساً بألوان هذا العالَم. ويرى المسيحيّون في هذا حسيّة تتنافى مع عقيدتهم، ولكنّ الإسلام لا يرى العالَم المادي مستغرباً في إطاره الرّوحي»(6).
إنّ هذا التوجُّه الذي يطبع الإسلام نحو العالَم الخارجي، هو تأكيد على وحدة العالَميْنِ، وهذا لأنّهما من مصدر واحد، هو التّوحيد كمبدأ ومنتهى، وجميع الثّنائيات التي تُصوِّر الطّبيعة بنظرة استحواذيّة أو بصورة تدنيسيّة لا تنسجم والرّؤية الثّنائيّة التّكامليّة التي يُقدِّمها الإسلام.
ويقترح «طه عبد الرحمن» ثنائيّة مصطلحيّة استخرجها من القرآن الكريم، للتّمييز بين الظّاهرة ودلائلها الرّمزيّة، هي ثنائيّة «النّظر الملكي»، الذي يعني ملاحظة الظّواهر؛ توصيفاً وتجريباً وتقنيناً، و«النّظر الملكوتي» الذي يتعدّى هذه الخطوة المتّصلة بفهم الظّواهر الخارجي ليتغلغل في أعماقها، كاشفاً عن القيم الكامنة خلفها، والمعاني التي لا يُدرِكها صاحب العقل التّجريبي، والمثال الذي نسوقه للتّمثيل على هذه الثّنائيّة، هو مثال «نزول المطر». فمعلوم أنّ المطر ظاهرة مركّبة من أوصاف تتتالى بعلاقات موضوعية، هي: تبخُّر الماء، ثمّ تكاثُفه بسبب البرودة، ثمّ استحالته إلى قطرات. هذه هي مرحلة «النّظر الملكي»، لكنّها في المقام الآخر تُسمّى آية؛ أي الظّاهرة منظوراً إليها من جهة الدّلالة المعنويّة القيميّة التي تزدوج بأوصافها الخارجيّة، آخذة بالعقل إلى مستوى الإعجاب الدّيني، أو التأمُّل لمعرفة المآلات والمقاصد أو الحكمة من وجودها، حيث تحيل إلى «إعادة الحياة»، و«النعمة»، و«الرّحمة». وبذا، فإنّ «للمسلم نظرين اثنين إلى الأشياء لا ينفك يزاوج بينهما: نظر أصلي يتدبّر به الأشياء، وهو «النّظر الملكوتي» الذي يوصله إلى الإيمان؛ ونظر فرعي يتدبّر به الأشياء، وهو « النّظر الملكي» الذي يوصله إلى العلم. يستفاد من هذا أنّ المسلم لا يفتأ يؤسّس نظره الملكي على نظره الملكوتي، وبفضل هذا التّأسيس، يجد الصّلاح في الحال، فيحيا حياة لا ضنك فيها، كما يرجو الفَلاح في المآل، فيسعد سعادة لا شقاء معها»(7).
وبعبارة أُخرى، فثمّة وحدة بين النّشاط العقلي في تجلّيه العلمي والدّلائل القيميّة التي تلازمه، والظّاهر أنّ نفوذ علمنة الطّبيعة اتسع (بسبب الانفصال بين الظّاهرة والآية، أو التّفسير والقيمة)؛ بتجريدها من مغزاها الرّوحي. أمّا المعين الآخر على هذا التّجريد -فضلاً عن هيمنة التّفسير العقلاني المنفصل- فهو «الدّيانة المسيحيّة»، والمناحي الفلسفيّة المتأثّرة بنظريّة أفلاطون في الوجود، التي فاضلت بين عالميْنِ مختلفيْنِ من حيث الطّبيعة والقيمة (عالم المثال النّقي الصّافي الثّابت، والعالَم الحسّي الملطّخ بالشّهوات والتّغيّر والصّيرورة)؛ وذلك بسبب نظرة هاتين الرّؤيتين السّلبيّة تجاه الطّبيعة بنوعيها: الطّبيعة الخارجيّة الخاصّة بالموجودات، وطبيعة الإنسان الدّاخليّة. ولكن، ومع الرّؤية الإسلاميّة فقد «تبلورت أكبر حقيقة حاسمة في تاريخ الأديان وفي تاريخ العقل الإنساني بصفة عامّة، تميّزت بظهور دين العالَمين...، أو ظهور النّظام الذي يحتضن الحياة الإنسانيّة بكلّ جوانبها. وتحقّق الإنسان أنّه ليس في حاجة إلى أن يرفض الدّين من أجل العلم، أو يتخلّى عن الكدح في سبيل حياة أفضل من أجل الدّين. إنّ الأهمّية البالغة للإسلام تكمن في حقيقة أنّه لم يغفل وجود المعاناة، وضرورة النّضال ضدّ المعاناة وهذا هو المحكّ الحاسم في التّاريخ الإنساني»(8).
لا شكّ في أنّ الطّبيعة هي كتاب مفتوح، لكنّه ليس مفتوحاً للقراءة فحسب بلغة المثلّثات والهندسات على ما يُؤوّل الفهم الرّياضي البارد للعالم، بل مفتوحاً للقراءة بلغة الدّلائل على الحضور الإلهي إلى جانب الإنسان، وعلى تذكُّر المهمّة الكبرى وهي مشروع الخلافة الكونيّة، وعلى اشتقاق القيم أيضاً؛ لأنّ هذا كلّه يجد أصله في وحدة الصّلة ووثاقتها بين الرّؤية الوجوديّة والنّظام القيمي، وإدراك الطّبيعة والبيئة.
3. من تضاد الملكات الإدراكيّة الإنسانيّة إلى تكاملها:
تنبني العقلانيّة الإسلاميّة على تكامليّة الملكات الإدراكيّة الإنسانيّة، لا على تضادها وتناحرها فيما يذهب إليه العقل الغربي الذي أورث أزواجاً من الثّنائيّات المنفصلة والمتضادّة، كالفصل بين العقل والقلب، أو العقل والإيمان، أو العقل والشّرع، وهذه الثّنائيات هي ذات منشأ غربي محض، ونتيجة حتميّة للمواجهة بين ما هو ديني وما هو فلسفي. «لقد كانت نتيجة هذه المواجهة الدّينية الفلسفيّة أن اتجه الفكر الدّيني المسيحي إلى تقليص وظيفة العقل وبالتّالي تقليص معرفة الحقائق الرّوحيّة، وفي الوقت نفسه تشجيع الإيمان الأعمى بعقائد المسيحيّة عن طريق ترويض الإرادة الإنسانيّة لا باستخدام وظائف العقل والنّظر، على أساس أنّ الأصل في الإيمان هو الحبّ»(9).
وقد تمظهرت هذه المتضادّات -بين الملكات الإدراكيّة- في نشوء اتجاهات فلسفيّة لا ترى من الأنشطة العقليّة إلاّ دورها النّظري، ولا تتكلّم في البُعْد العملي أو تفصله عن النّظري، فنشأت تلك الثّنائيّة التي تفصل بين العقل النّظري والعقل العملي، حاملةً المعنى الأول على الفعل الإدراكي الذي يتوسّل بناء الاستدلالات الصّوريّة والأنساق المجرّدة، وحاملةً المعنى الثّاني على التّشريع لنظام القيم الخلقيّة التي يعمل بها الإنسان، وما أشدّ هذا مخالفة لقانون تكامليّة الإنسان ووحدته!
وهذه النّتائج تجد منابتها في: القول بجوهريّة العقل واستقلاله مقابل البُعْد الفعلي الخاصّ بالخلق، واستقلال العقل العملي ووصفه أيضاً بوصف الجوهريّة وجعله تابعاً للعقل النّظري، و«تخصيص الإنسان بصفة العقل»، مع حمل لفظ «العقل» على معناه كما تحدّد في سياق التّجربة الغربيّة العلمانيّة.
إلاّ أنّ النّظرة الإسلاميّة لا تقيم هذه الصّلة المتنافرة بين النّظر والعمل، إنّما تنظر إليهما في وحدتها الأصليّة. فالعلم مبدأ، والعمل تمام العلم، مع أنّ رفع قيمة البُعْد العملي مرتبة -أحياناً- يُحدِّد قيمة الفعل العقلي المجرّد، والأدهش «أنّ الحقيقة الإنسانيّة، أصلاً واحدة، وهي حقيقة عمليّة، بحيث يصحّ أن نضفي الصّبغة العمليّة على كلّ فعل من أفعال الإنسان التي تقترن بالقصد والإرادة؛ والنّظر هو أحد هذه الأفعال المقصودة أو المرادة، فيكون النّظر هو عبارة عن عمل صريح حتّى ولو لم نتوسّل فيه بالجوارح الظّاهرة»(10).
ومن مظاهر الانفصال أيضاً التي تأباها العقلانيّة الإسلاميّة، إشكاليّة الفصل بين العقل والقلب؛ إذ خُصَّ العقل بالوظيفة المعرفيّة المحضة، وخُصَّ القلب بمكان المشاعر والانفعالات، وليست هذه المشكلة نتاجاً للعلمنة العقلانيّة الغربيّة فقط، إنّما مبثوثة كذلك في شِعَب المعرفة التّراثيّة الإسلاميّة. فهذا الكندي يُعرِّف العقل بأنّه «جوهر بسيط مُدرك للأشياء بحقائقها»...[أمّا الفارابي] فإنّ فعل العقل عنده «العناية بالحيوان النّاطق، والتماس تبليغه أقصى مراتب الكمال، الذي للإنسان أن يبلغه وهو السّعادة القصوى؛ وذلك بأن يعبر الإنسان في مرتبة العقل الفعال، بأن يحْصُلَ مفارقاً للأجسام، غيرَ محتاج في قوامه إلى شيء آخر ممّا هو دونه من جسم أو مادّة أو عرض»(11).وهذه جميعها أعراض لنسيان المفهوم القرآني للقلب، يقابلها الرّكون إلى المفهوم اليوناني الذي يُمجِّد المفهوم الجوهري؛ أي المفهوم الذي يجعل من العقل جوهراً قائماً في الإنسان، وله الصّدارة والسّلطة على الملكات الأُخرى. علماً بأنّ العقل مخصوص هنا بالدّلالة على المعرفة والتّفسير الحسّي والخارجي للظواهر، «والحقيقة أنّ القلب هو مصدر الإدراكات العقليّة التي تتميّز بشدّة التقلُّب ومتانة الصّلة التي تربطها بكلّ قوى الإدراك التي يملكها الإنسان، بحيث يكون في سلامة القلب سلامة المعارف والمُدركات؛ كما أنّ القلب هو مصدر القيم الأخلاقيّة التي تنبني عليها الأحكام الشّرعيّة، بحيث يكون في صلاحه صلاح الأعمال والتّصرّفات»(12). وبناءً على ذلك، فمن الأسلم -منهجيّاً- إعادة صوغ تعريف آخر للعقل لا يتعارض مع الدّلالة القلبيّة، خاصّة أنّ اشتقاقات اللّسان تطالعنا بالخصيصة التّقليبيّة للعقل متى كان مُسنداً إلى القلب، فيصبح العقل هو إدراك القلب للعلاقات القائمة بين الأشياء. يقول الإمام الماوردي في هذا السياق: «وكلّ من نفى أن يكون العقل جوهراً، أثبت محلّه في القلب؛ لأنّ القلب محلّ العلوم كلّها. قال اللّه تعالى: ﴿فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾(الحج: 46). فدلّت هذه الآية على أمرين: أحدهما: أنّ العقل علم، والثّاني: أن محلّه القلب. وفي قوله تعالى (يَعْقِلوُنَ بِهَا)، تأويلان: أحدهما: يعلمون بها، والثاني: يعتبرون بها»(13).
إنّ الدلالة الكبرى التي نستخلصها من هذا التّحديد للعقل، بوصفه فعلاً من أفعال القلب وَفق التّصور الإسلامي، هي «أنّ ما يعدّ «عقليّاً» أو «عقلانيّاً» في الإسلام لا يقتصر فقط على التّفسير المنطقي المنتظم الذي يقدّمه العقل لمعطيات التّجربة، أو إخضاع تلك المعطيات لقوانينه وحساباته، أو ما يقوم به من تجريد لتلك المعطيات وعلاقاتها، أو إدراكه لمغزى الطّبيعة وصياغة قوانين تحكم حركتها وظواهرها المختلفة. وبما أنّ العقل عبارة عن تجلّي ملكة الإدراك والتعقُّل وفعاليتها، فإنّه في الواقع يعمل في انسجام تامّ مع تلك الملكة التي مكمنها القلب، وهذا يعني أنّ إدراك الحقائق الرّوحيّة ومعرفتها يدخلان ضمن وظائف العقل، وليسا بالضّرورة منقطعي الصّلة بما يعد فهما عقلانيّاً للأشياء»(14).
ولقد تأكّد لدى أعضاء مدرسة فرانكفورت في مشروعهم النقدي للعقل الأداتي، أنّ هذا العقل الذي جلبته الحداثة إلى العالَم خالٍ من رطوبة العاطفة ونداوة الرُّوح، فحشدت عُدّتها الفنّية من أجل الفصل بين إرادة السّيطرة على الواقع والعقل الذي يدرك موقعه ومنزلته الفعليّة؛ أي العقلانيّة الفنيّة، وهذا ملمح جوهري لفقدان الثّقة في العقل الجاف، وضرورة البحث عن أسس أُخرى. ولو أنّهم اتجهوا إلى العمق الرّوحي للإنسان؛ أي الفطرة لأغناهم ذلك عن خوض تجربة أُخرى مع الفنّ الذي لن يُمكِّن من استعادة هذه الوحدة الضّائعة (وحدة القلب والرّوح)، واستعادة الوحي الذي سيعِين العقل البشري ويُخلِّصه ممّا يعرض له في طريقه إلى الحقيقة من تشويش واضطراب؛ ذلك أنّ المراد الإلهي «من إنزال علمه ليس أن نقف على قيمته النّظريّة ومبانيه الاستدلاليّة، وإنّما أن نتلقّاه باستعداداتنا وقدراتنا العمليّة، فنتحقّق به في سلوكنا، على اعتبار أنّه هو وحده العلم الذي تصلح به أحوالنا وتسعد به حياتنا؛ وعلى هذا، فإنّ العمل لا يشكّل هدفا للعلم المنزّل فحسب، بل إنّه يشكّل روحه الخالصة، بحيث تصبح العلاقة بين العلمين -الإلهي والبشري- علاقة بين عمل رباني ونظر إنساني قد يليه التّطبيق أو لا يليه.»(15).
خاتمة:
 جليّة –إذن- مرتكزات العقلانيّة الإسلاميّة التي تسكن مشروع الحداثة الإسلاميّة المتّصلة، فلا معنى للانفصال بين الإيمان والعقل، ولا معنى لخلع المواصفات الاستحواذيّة على الطّبيعة، ولا معنى أيضاً لإقامة الأزواج المتقابلة والثّنائيّات المتضادّة بين الملكات الإنسانيّة. فثمّة تضافر قويّ، ومُواشجة إيمانيّة طافحة بالتوجّه نحو اللّه، ومهما بلغ العقل والمعرفة من مستويات عليا في اكتشاف سنن اللّه في الأنفس أو الكون، فإنّ مقصدهما ليس الاستيقان بذواتهما والاعتداد بهما ظلماً وعلوّاً، إنّما المقصد الأعظم إثبات أن لا إله إلاّ اللّه، وبهذا تتحرّر العقلانيّة والمعرفة من هيمنة العلمنة الغربيّة، التي هي مشروع غريب عن كرتنا الأرضيّة، جَلَبَ للبشريّة مصائبَ لا حصر لها؛ إذ يصبح الهدف من المعرفة ليس هو تعظيم الواقع المادّي، إنّما هو تعظيم المنظومة الإيمانيّة وتعظيم اللّه الواحد الأحد، والتّوصّل إلى الحكمة التي تقودنا إلى معرفة اللّه.
ذلك أنّ «الإسلام يعتبر أنّ الطّبيعة الحقيقيّة للعلم إنّما تسعى في النّهاية لإثبات أن لاإله إلاّ اللّه، وأنّه لا توجد إلاّ حقيقة واحدة مطلقة هي الحقيقة الإلهيّة، وأنّ كل شيء سواه هو نسبي وجزئي، وهذا النّوع من الإدراك لا يملكه أي مخلوق سوى الإنسان، هذه المعرفة الوحيدة التي يستطيع الإنسان أن ينالها بيقين قاطع».
وتبعًا لهذا، تتحرّر المعرفة من هيمنة الرّؤية الغربيّة وتعيد من جديد وصل الصّلة بمنابع المعنى الحقيقيّة؛ أي الرّؤية الإسلاميّة، لا بوصفها جدالاً كلاميّاً، إنّما بصفتها الرّكن الرّكين الذي يُقدِّم النّموذج الحقيقي لإدراك العالَم برؤية توحيديّة شاملة، وبنظام قيم روحيّة يُتصدّى بها لزحف القيم المادّية التي تريد بسط كلمتها، وبقواعد مُوجَّهة إلى الإنسان يقتحم بها مشكلات حياته؛ من متطلّبات روتينه اليومي إلى أسئلة القلق الفلسفي الكبرى التي تُؤرِّقه، وبشواهد مُثلى أو نماذج حيّة تقتدي بها الإنسانيّة، بوصفها إحدى فئات القيادة التي تعمل على توجيه أشواق الأمّة من الانجذاب نحو الغرب وعالمه، إلى الإسلام ونظامه والنّماذج الحيّة التي صنعت حضارة الإسلام في العلوم والأخلاق.
الهوامش
(1) العلواني، طه جابر. التوحيد ومبادئ المنهجية، ضمن: المنهجية الإسلامية، القاهرة: دار السلام، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 2010م، ص351.
(2) المرجع السابق، الصفحة نفسها.
(3) كينغ، هانس. «الإيمان والعقل»، مجلة التسامح، عدد16، 2006م، ص52.
(4) أوغلو، أحمد داوود. العالم الإسلامي في مهب التحولات الحضارية، ترجمة: إبراهيم البيومي، القاهرة: مكتبة الشروق الدولية، 2006م، ص47.
(5) العطاس، مداخلات فلسفية في الإسلام والعلمانية، مرجع سابق، ص64.
(6) بيجوفيتش، علي عزت. الإسلام بين الشرق والغرب، ترجمة: محمد يوسف عدس، القاهرة: دار الشروق، 2010م، ص292.
(7) عبد الرحمن، طه. الحق الإسلامي في الاختلاف الفكري، المغرب- بيروت: المركز الثقافي العربي، 2005م، ص18.
(8) بيجوفيتش، الإسلام بين الشرق والغرب، مرجع سابق، ص297.
(9) العطاس، مداخلات فلسفية في الإسلام والعلمانية، مرجع سابق، ص60.
(10) عبد الرحمن، طه. سؤال العمل: بحث عن الأصول العملية في الفكر والعلم، المغرب-بيروت: المركز الثقافي العربي، 2012م، ص80.
(11) السيد، رضوان. «مسألة العقل وسلطته في النقاشات الإسلامية القديمة»، مجلة التسامح، عدد16، 2006م، ص11-12.
(12) عبد الرحمن، طه، سؤال العمل، مرجع سابق، ص77.
(13) الماوردي، أبو الحسن عليّ بن محمد. أدب الدنيا والدين، الجزائر-لبنان: الشركة الجزائرية اللبنانية، 2006م، ص12.
(14) العطاس، مداخلات فلسفية في الإسلام والعلمانية، مرجع سابق، ص60.
(15) عبد الرحمن، طه سؤال العمل، مرجع سابق، ص228.