الأولى

بقلم
فيصل العش
الحرية في القرآن الكريم رؤية جمال البنا
 يعتبر الأستاذ جمال البنّا مفكّرا إسلاميّا فريدا من نوعه، وهو صاحب مشروع «دعـوة الإحياء الإسلامى» التي لا تهدف إلى تكوين حزب أو جماعة على غرار الإخوان المسلمين التي أسسها أخوه الشّهيد حسن البنا، ولكنّها تريد أن تقدم رؤية حرّة للإسلام يُعدّ كلّ من يؤمن بها مالكا لها أو شريكاً فيها. وقد أثار كثيرا من الجدل داخل السّاحة الإسلاميّة بكتاباته المتنوّعة التي تجاوزت 150 كتابا وبحثا. لكنّنا سنكتفي بتسليط الضّوء على موقفه من مبحث الحرّية وكيف عالجه وماهي مرجعيّته ومصادره في ذلك؟(1) 
يحصر جمال البنا مصادره المعرّفة للإسلام ومراجعه في القرآن الكريم والصّحيح من أحاديث الرّسول، ويجسّد قطيعة تامّة مع بقيّة المصادر التي هي بالنسبة إليه إجتهادات بشريّة لا ترتقي إلى رتبة المراجع التي يمكن اعتمادها لفهم الإسلام، فيقول: «ونحن نؤمن إيماناً تاماً بأنّ الإسلام الذى يُعتدّ به، أى إسلام القرآن والصّحيح عن الرّسول، يأخذ بمبدأ حرّية الاعتقاد والفكر على إطلاقها، وشاهدنا ومستندنا فى هذه الدّعوى أمران: الأول: نصوص الآيات بالقرآن الكريم والمواقف التى وقفها الرّسول، والثّانى: طبيعة الأشياء التى يأخذ بها القرآن ويطلق عليها «سنّة اللّه».(...) ولا يعنينا بعد هذا فى شىء ما تحفل به كتب الفقه، فمن قصد البحر استقل السّواقيا»(2).
***
يرجع البنا عدم ورود كلمة الحرّية في القرآن على عكس تداولها بشكل مكثّف في المجتمع الغربي إلى عاملين إثنين، عامل رئيسي يتمثل في أنّ منطلق الإسلام في التوصّل إلى المثل والقيم يختلف اختلافا جذريّا عن المنطلق الأوروبّي، باعتبار أنّ الفكر الإسلامي يتمحور حول «اللّه» بصفته الحقّ وينبثق عنه، ممّا يجعل «الحقّ» هو المثل الأعلى الذي تنبثق عنه الحرّية، في حين أنّ الفكر الغربي يتمحور حول الإنسان الإله باعتباره محور الحضارة، وبالتّالي فإنّ الحرّية هي المثل الأعلى، وبالتالي فإنّ الحرية فى المجتمع الأوروبى تنبع من الإنسان، في حين تنبع قرآنيّا من الحقّ تدور في إطار الاستخلاف الإلهي.  
يتمثّل العامل الثاني في أنّ للقرآن تعبيراته الاصطلاحية الخاصّة التي تعني نفس المضمون ولكنّها تذكر بألفاظ وتعبيرات أخرى. يقول البنّا في هذا السياق: «لقد حدث هذا لأنّ للقرآن تعبيراته الخاصّة التي تؤدّي معنى الحرّيّة نفسها، ولكن بلفظ مختلف .. ولأنّ تمحور الفكر الإسلامي حول اللّه وانبثاقه عنه جعل «الحقّ» هو المثل الأعلى الذي تنطلق منه الحرّية، فالأصل هو الحقّ والحرّية اشتقاق منه».(3) ويقول في موضع آخر: «ليس شرطا أن يذكر القرآن لفظة الحرّيّة بعينها مادام له تعبيرات تؤدّي المعنى نفسه، ويسلك سياسات تحقق مضمون الحرّيّة،(...) فبتحريم الإكراه والظّلم، والدّعوة إلى العدل، وتحليل الطّيبات وإرساء المساواة... يفسح الإسلام المجال للحرّيّة ويستبعد المعوقات في طريقها ويمكّن الجماهير والشّعوب من الاستمتاع بها، حتّى وإن لم يذكر بالحرف كلمة الحرّيّة» (4).
***
واعتبار الحرّية ضرورة حياتيّة للإنسان خاصّة عندما يتعلّق الأمر بالعلاقة مع اللّه قضية لا تتطلب عناء، لأنّها تكاد تكون من البديهيّات على حدّ تعبير البنّا، «فالأديان مادامت تقوم على الإيمان القلبى والاقتناع العقلى، فإنّها تفترض مقدماً وجود الحرّية، فلا إيمان دون اقتناع، ولا اقتناع دون تفكير، ولا تفكير دون حرّية، ولهذا، حقّ للقرآن أن يستنكر..«أَفَأَنْتَ تُكْرهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ». وصرح بالمبدأ.. «لاَ إِكْرَاهَ فِى الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيّ»، واعتبر الرّسول أنّ «الأعمال بالنّيات»، أعنى النّية، والإيمان تتنافيان مع وجود أيّ صورة من صور الضّغط والإكراه ومن ثمّ تفترض وجود الحرّية»(5). 
ويقول البنا: «إنّ التّصوير الإسلامى الدّيناميكى للحياة الذى يقوم على التّدافع، القريب من الصّراع والجدل ما بين قوى الخير وقوى الشّرّ، هداية الأنبياء وغواية الشّياطين- يجعل الحرّيّة جزءًا لا يتجزأ من كيانه ومكوناته، كما أنّ إطلاق قوى الغواية الذى يسمح به القرآن للشّيطان إلى آخر مدى وحتّى يوم القيامة ﴿وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِى الأَمْوَالِ وَالأَوْلاَدِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا»﴾(الإسراء: 64)، يجعل وجود هذا العنصر- أى الحرّية- أمرًا مقرّرًا ولابدّ منه لتمام التّصوير القرآنى للحياة ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا﴾(الشمس 7 - 10)» (6).
ويخصّص البنا الباب الأول من كتابه « مطلبنا الأوّل هو الحرّية» لتحديد المفردات التي تكوّن في مجموعها الحرّية، وأولها حرّية الفكر والاعتقاد وهي «أولى الحرّيات وهي تشمل حرّية كلّ فرد في الإيمان بما يشاء من آراء وأفكار أو عقائد طبقا لتفكيره الدي يعود بدوره إلى ظروفه وثقافته إلخ... وأي تقييد لهذه الحرّية يعدّ انتهاكا لحرّية الإنسان في أخصّ خصائصه، وعدوانا على أبرز الصفات التي يتميّز بها الإنسان على الحيوان أو بقية الكائنات. وبناء على هذه الحرّية تقوم بقية الحريات الأخرى ... واي محاولة لكبت حرّية الفكر لا يمكن تفسيرها إلا بالرغبة في استعباد الإنسان وتسخيره تبعا لإرادة الحاكم، لأن معناها افتقاد الإنسان القدرة على اتخاذ قرار أو تحديد موقف أو الإيمان بمبدإ »(7)
ولأنّ الحرّيّة في المجتمع الغربي نابعة من الإنسان الذي هو الغاية والنّهاية، فهي لا حدّ لها على الإطلاق، أمّا في الاسلام فتنبع الحرّية من الحقّ الذي نزلت به الرّسالات، وهذا يعني أنّ الحرّية لها ضوابط، باستثناء نوع واحد منها لا وصاية للحقّ عليه وهو «حرّية الفكر والإعتقاد». لأنّ بها يعرف الحقّ ويميّز بينه وبين الباطل، لذا فهي حرّية مطلقة لا يمكن أن يكون حتّى للحقّ نفسه وصاية عليها. فليس هناك استثناءات تحدّ من هذه الحرّية بما في ذلك ما يسمّى بالثّوابت. يقول البنّا: « لا معنى لحريّة الفكر إذا حرمنا عليها مناقشة الثّوابت، إذ إنّ أهمّ ما يفترض أن تتّجه إليه الحرّية هو هذه الثّوابت بالذّات، التى إن كانت تقوم بالحفاظ والاستقرار للمجتمع، وتمسكه من الانزلاق أو التّحلّل، إلاّ أنّ عدم مناقشتها يجعلها تتجمّد، بل تتوثّن وتأخذ قداسة الوثن المعبود، هذا كلّه بفرض أنّ الثوابت هى دائماً صالحة ولازمة، ولكنّها لا تكون كذلك دائماً، وقد جلى القرآن صيحة عجب المشركين من الرّسول الذى يريد أن يجعل الآلهة إلهاً واحداً: «إن هذا لشىء عجاب»، فضلاً عن أنّ الثوابت تعبير مطّاطي فيمكن أن تنتقل من اللّه إلى الرّسول ومن الرّسول إلى الصّحابة، ومن الصّحابة إلى السّلف الصالح، كما هو الحال فى فكر الكثيرين، وتجربة البشريّة أنّه ما إن يسمح المشرع باستثناء فى الحرّيات، ولو كثقب إبرة، حتّى يصبح ثغرة تتّسع للجمل وما حمل» (8) .  
يقول أيضا : «حرّية الفكر والاعتقاد مطلقة يكفلها الإسلام إلى آخر مدى.. فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ... ومذهب الإسلام في هذا أنّ حرية الفكر هي الطريق إلى الإيمان، فلا إيمان يقوم على جهالة، أو يفرض قسرا.. وإذا كان المجتمع الإسلامي هو مجتمع العقيدة، فإنّه بالتبعية والضرورة مجتمع الحرية فلا عقيدة دون حرّية، ولا إيمان دون نيّة، وحرية الفكر هي التي تكفل الحيويّة للعقيدة وتحول دون أن تتحوّل إلى بركة آسنة. وإذا أردنا أن نعزّز الإيمان فبالمنطق والبرهان، لا القمع والسلطان، وفي مجال المقولات لا على أشخاص القائلين» (9) 
إيمان البنا بحرّية الفكر والعقيدة وتقديسها لا ينبع من فراغ أو من نزوة فكريّة عابرة، إنّما اعتمادا على آيات القرآن الكريم التي أعاد ذكرها في أكثر من موضع وكتاب، يذكر البنّا أنّ آيات حرّية الفكر والاعتقاد في الإسلام قرابة مائة آية كلّها تقرّر حرّية العقيدة بصفة مطلقة وأنّ مردّها إلى الفرد نفسه ولا دخل لجماعة أو لحاكم فيها، وأنّ الرّسول، وهو الدّاعي إلى الإسلام، ليس عليه إلاّ البلاغ، وليس من مهامه إكراه النّاس على الإيمان، فهو ليس حفيظا ولا مسيطرا ولا جبّارا ولا وكيلا عنهم(10).
وتتطلّب حرّية الفكر والإعتقاد حسب البنّا ضرورة حرّية الوصول إلى الأفكار وتبليغها، ومن ثمّ جاءت أهمّية حرّية التّعبير وحرّية التنظّم (ضمن الأحزاب والهيئات والنّقابات وبقيّة مؤسّسات المجتمع)وحرّية الاجتماعات وحرّية الصّحافة.
ويدخل في إطار حرّية الفكر والإعتقاد حرّية تغيير المعتقد، لذا يرفض البنا تماما دعاوى التّكفير والرّدة، وينفي وجود حدّ دنيوي على الردّة بل يكلها على حدّ تعبيره إلى اللّه تعالى يفصل فيها يوم القيامة، كما قرّر القرآن ذلك وطبقته ممارسات الرّسول ﷺ. ويرتكز في ذلك على عدّة آيات من القرآن الكريم ويذكرها(11) .وشواهد حرية الفكر من سنّة الرسول وعمله (12)  مستنتجا أنّ قضيّة الردّة وحكمها إنّما هو صناعة فقهيّة لا أكثر ولا أقل. فلم تظهر حكاية المرتد، واستتابته إلّا فى مرحلة لاحقة وعلى أيدى الفقهاء الذين أصدروا أحكامهم من منطلق «حكم الصّنعة»، وبدعوى حماية العقيدة وبتأثير النّظم السّياسية الطّاغية... إلخ
***
يفرّق البنّا بين حرّية الفكر والاعتقاد وما تابعها من حريّات كحرية التعبير، ونوع آخر يرتبط بالعلاقة بين الافراد والمجتمع وبين الحاكم والمحكوم، وبين الرّجل والمرأة كحرّية العمل وحرّية التنقّل وحرّية الاكتساب وحرّية الزواج من عدمه. فـ«باستثناء حرّية الفكر التي هي هواء متجدّد لا يمكن القبض عليه، أو التحكّم فيه، فإنّ كلّ الحرّيات الأخرى تتفاعل بدرجات متفاوتة مع الضّرورات التي تنشأ مع المجتمع»(13). وهي حرّيات «أقامها الإسلام على العدل وهو وضع لا يمكن نقده لأن إطلاق حرّية الإعتقاد مع إقامة الحرّيات العمليّة على العدل يوجد توازنا في المجتمع ويحول دون تكرار مأساة سوء استخدام الحرّية»(14)
إنّ العدل والحرّية حسب البنّا «وجهان لأصل واحد هو الحقّ وليس هناك ما هو أسمى من الحقّ الذي قامت به السّماوات والأرض وأنزل اللّه به كتبه ورسله، والحرّيّة هي الوسيلة الإنسانيّة للتّعرّف على الحقّ، ومن هنا كان احتفاء الإسلام بحرّية الفكر وعدم وضعه أيّ حدود عليها، لأنّ هذه الحرّية هي التي تعرف الحقّ وهي التي تميّز ما بين الحقّ والباطل ... فإذا لم تكن هناك حرّية فلن تكون هناك عدالة» (15). 
إنّ مشكلة الحرّية في مجتمعاتنا لا علاقة لها بالقرآن ولا بسنّة الرّسول ﷺ، وإنّما في فقدانها لدى الفقهاء والعلماء المسلمين نتيجة عوامل ذاتيّة وموضوعيّة مرتبطة بالسّياسة. يقول البنا: «ويستشعر المفكّر المسلم أعظم الأسى عندما يجد أنّ الآيات القرآنيّة والمواقف النبويّة وطبيعة الأشياء كلّها تدعو إلى حرّية الفكر، ومع هذا فإنّ الإحساس بالحرّيّة في فقه الفقهاء والعلماء المسلمين ضحل، ويكاد يكون منعدما، يستوي في هذا المحدثون جنبا إلى جنب مع القدماء. فبقدر ما يتحدّثون عن الحرّيّة بقدر ما يتّضح أنّهم إنّما يعنون بها حرّيتهم وليس حرّيّة الآخرين(16). 
الهوامش
(1) اعتمدنا لتحقيق ذلك بعض مراجعه كـ : «الإسلام والحرّية والعلمانيّة»(1994) و«نظرية العدل في الفكر الأوروبي والفكر الإسلامي (1995) و«حرّية الفكر والاعتقاد في الإسلام» (1998)، و«منهج الإسلام في تقرير حقوق الإنسان» (1999)، و«مطلبنا الأول هو الحرّيّة» (2000) و«الحرّية في الإسلام» (2011)
(2) جمال البنّا، «الحرّيّة في الإسلام»، مؤسّسة الانتشار العربي بيروت - لبنان 2011 - ط.1 - ص 204 
(3) نفسه - ص 21 
(4) نفسه - ص 17 
(5) جمال البنّا، «الإسلام والحرّيّة والعلمانيّة»، سلسلة رسائل (2)، دار الفكر الإسلامي، ط1، 1994، ص9
(6) نفسه - ص 29 
(7) جمال البنّا، «مطلبنا الأوّل هو الحرّيّة»، سلسلة دفاتر الإحياء، دار الفكر الإسلامي، ط1، 2000، ص 5-6 
(8) «الإسلام والحرّيّة والعلمانيّة»، مصدر سابق، ص.ص 3-4
(9)  «الحرّيّة في الإسلام»، مصدر سابق، ص 141 
(10) لمزيد من التّفاصيل ومعرفة الآيات المعتمدة لدى البنّا يمكن الاطلاع على الفصل الأول من كتاب «حرّية الفكر والاعتقاد في الإسلام» الذي خصّصه البنا لذكر شواهد حرّيّة الفكر والعقيدة من القرآن الكريم ص.ص 6 - 16. كما يمكن الاطلاع على الفصل الأول من كتاب «الإسلام والحرّية والعلمانيّة» ص.ص 6-7.
(11) جميع الآيات مذكورة بالتّفصيل في الصّفحتين 15-16 من كتاب «حرّية الفكر والاعتقاد في الإسلام» 
(12) أنظر الفصل الثّاني «شواهد حرّيّة الفكر من سنّة الرّسول وعمله» من كتاب «حرّية الفكر والاعتقاد في الإسلام» من ص 20 إلى ص 39 (13) «مطلبنا الأوّل هو الحرّيّة»، مصدر سابق، ص55
(14) جمال البنّا، «نظريّة العدل في الفكر الأوروبي والفكر الإسلامي، دار الفكر الإسلامي القاهرة، ط1، 1995، ص136
(15) «مطلبنا الأوّل هو الحرّيّة»، مصدر سابق، ص62
(16)  «الحرّيّة في الإسلام»، مصدر سابق، ص 206