وجهة نظر

بقلم
د. أمينة تليلي
الفكر البرجماتى ... لماذا انتشر فى المجتمع ؟
 كثيرون فى المجتمع أصبحوا برجماتيّين فى كافة جوانب حياتهم وهم لا يعرفون اصطلاح البرجماتيّة وربّما لم يسمع أغلبهم عن المصطلح. البرجماتيّة فى أوجز تعريف هى النّفعية، هذه هى الكلمة التى يعرفها الكبير والصّغير، النّفعيّة أو المصلحة. هذه النّفعيّة أو المصلحة تُعرف فى الاصطلاح الفلسفى بالبرجماتية، لعلّنا الآن لاحظنا كيف أنّ البرجماتية أو النّفعيّة تفشّت فى المجتمع بمختلف بيئاته وفئاته، حيث تحول الفرد من « كيف أنفع المجتمع؟» إلى «كيف أنتفع من المجتمع؟» ، يحلم بمكانة أو مهنة أو غير ذلك، لا لينفع غيره وينتفع هو، بل لينتفع هو أولا وآخرا، وإن تحقّق نفع للآخرين أو لم يتحقّق فلا يهم، وإنّما الذى يهمّ هو مدى ما يتحقّق من نفع للفرد. 
والبرجماتية من حيث الوجود قديمة، إذ تكشف لنا نظرة متأنّية فى تاريخ الإنسان على الأرض تلك الحقيقة، ومن ذلك التّاريخ نصل لأوّل إنسان نفعيّ عرفته الأرض، إنّه قابيل، أوّل من نظر لمنفعته فقط، فكانت البداية الوجوديّة الصّادمة للبرجماتيّة، لذلك قادته نفسه لارتكاب أول  حماقة على الأرض. 
أما من حيث الاصطلاح، فلم ينشأ مصطلح «البرجماتية» إلاّ أواخر القرن التّاسع عشر فى عام 1878م، على يد الطّبيب الفيلسوف الأميريكى « تشارلز بيرس» وهو أول من أسس لهذا المصطلح وهذا المذهب الفلسفى، لكنّه لم يدع إلى القتل من أجل المنفعة الشخصيّة أو التّدمير من أجل المصلحة، هذه الأشياء وأمثالها تبرّأ منها نظريته، وإنّما دعا «بيرس» إلى الوضوح مع الذّات فى تحديد الأهداف ونتائجها، بمعنى اسأل نفسك: «ما هي أهدافى؟ وماذا تحقّق لى من منفعة؟».
ويؤكّد «بيرس» أنّ العمل والمنفعة هما مقياس صحّة الرّأى أو الفكرة، فإذا لم تحمل الفكرة منفعة لصاحبها، فهى غير صائبة وبلا فائدة، من هنا وجب أن ينصبّ الاهتمام الحقيقى على كلّ ما يحقّق النّفع. 
ومرّت البرجماتيّة بتشكّلات عديدة، ونادى بها كثيرون بعد «بيرس»، وكتبوا فيها وتوسّعوا، ممّا أدّى إلى شىء من التّشعّب والتّشتيت، يُضاف إلى ذلك تباين التّرجمات التى عبّرت عن اللّفظة المترجمة بألفاظ عديدة دفعت إلى تلقّي النّظريّة فى شيء من الشّوائب . إلاّ أنّ الخلاصة تجتمع فى كلمتين اثنتين: «البرجماتيّة هى المنفعة الخاصّة» . 
وحين نُقلت إلينا أطلق عليها البعض «الذّرائعيّة» على اعتبار أنّ الهدف إنّما هو ذريعة للمنفعة الخاصّة أو النّجاح الفردى. إذن البرجماتيّة والذّرائعيّة والنفعيّة كلّها واحد، التّنوّع فقط فى المسمّى، أمّا المضمون فلا يحمل أيّ تغيير، كلّه يتطابق فى الخطوط العريضة للمنهج . 
من كلّ ما سبق نجد أنّ «بيرس» لم يبتكر النّفعيّة وإنّما بلورها فى نظريّة، فالنّفعيّة كما عرفنا قديمة قدم الوجود. وإذا أردنا قولا يحسم الجدل حول صحّة هذه النّظريّة، فإنّه لا مانع من أن يكون الإنسان برجماتيّا يرى ويتدبّر ماذا سيعود عليه من نفع، ولكن مكمن الخطأ هنا عندما ينزلق فكر الإنسان وتصبح مصلحته الخاصّة هى همّه الأول والأخير، أمّا الآخرون - وإن احترقوا - فلا شأن له بهم.
من هنا يمكن أن نقبض على لبّ الخطأ فى هذه النّظريّة، وهو أنّها قصرت النّفع على الفرد وأغفلت تماما الآخرين، خصوصا أنّ هذه النّظريّة نشأت فى أحضان الرّأسماليّة التى فى حقيقتها تحمل أشياء كثيرة من النّظم الاقطاعيّة ولا تخلو من سوءات اهتمام الفرد بمصلحته، أمّا الآخرون فلا يهمّه إلّا ما يعود منهم عليه من نفع، من هنا وجدت الرّأسماليّة فى الفلسفة البرجماتيّة وسيلة تعضيد لها.
نصل إلى الخطأ الآخر الذى هو نتيجة حتميّة للخطأ الرّئيس، وهو أنّ «البرجماتيّة» بهذه الصّورة تقود إلى التّفكّك المجتمعى وتهدم الكلّ وتحوّله إلى جزئيّات متفرّقة، كلّ ذرّة مجتمعيّة منفصلة عن الأخرى ولا شأن لها إلاّ بنفسها. 
إذن إن أردنا «البرجماتيّة» فلتكن وفق التّعديل الإجرائى الذى يصحّح المسار، لا مانع أن أنظر إلى مصلحتى فهذا حقّ مشروع، ولكن حين تصبح الاهتمام الأول والأخير الذى أسخّر له كلّ طاقتى، أما الآخرون فليحترقوا، فهذا هو الدّمار بعينه، والمجتمع والأفراد كلاهما معصوب بالآخر، إذا أفلت أحدهما سقط الإنسان. 
وعن الأسباب التى تؤدّى إلى انتشار «البرجماتيّة» فى المجتمع ، أو بعبارة أخرى إذا أردنا أن نسأل ما الذى دفع الأفراد إلى هذا الحدّ المجنون من الفكر النّفعى، فإنّنا نحاول أن نقبض على الأسباب الرّئيسة، وللقارىء سلطة الاقتراح والتّعديل، فليضف ما يشاء أو يعدّل ما شاء، وتتمثّل هذه الأسباب فى : 
أ- الأعباء الاقتصاديّة:
ثقل الأعباء الاقتصاديّة هو العامل الرّئيس فى دفع الفرد إلى الانشغال بأحواله فقط، أصبح لا يهتم إلّا بنفسه وتوفير متطلّبات أسرته، وهذا بالضّرورة يقوده إلى أن يقول «نفسى ثمّ الآخرين».
ب – التّنشئة الأسريّة: 
الأسرة هى المؤثّر الأول فى الفرد، والتّنشئة الأسريّة محصلة أيدولوجيّات الأب والأم التى ينشأ عليها الأبناء، وما دام الأب والأم لا يريا إلّا مصلحتهما ومصلحة الأبناء، فإنّ الأبناء يتشرّبون تلك الأيدولوجيا ويستقون حبّ المنفعة الخاصّة منذ نعومة أظفارهم. 
ج – عدم التّكيف مع البيئة المحيطة: 
حين لا يستطيع الفرد أن يتكيّف مع البيئة المحيطة فى العمل أو السّكن أو من يخالطهم، فإنّه يلجأ إلى نفسه. تصبح نفسه هى صاحبته ومليكته، من هنا أصبح عالمه هو نفسه فقط، فلا يهتم إلاّ بها، ولا شأن له بأيّ منفعة عامّة فى عمله أو مع جيرانه أو غير ذلك، لا يهمّه فقط إلاّ نفسه. وكلّ هذه العوامل قد لا تقف عند حدّ الدّفع إلى البرجماتيّة والنّفعيّة، بل قد تحمله على العدائيّة والصّراع مع الآخر. وخلاصة القول فى الأسباب إنّ الفرد أصبح مثقلا بالأعباء، تدفعه الضّغوط المختلفة لئلا يهتمّ إلاّ بنفسه. 
فإذا سألنا أنفسنا : «وما العلاج إذن؟»وأردنا الإجابة . فإنّه يجب علينا أن نعرف أوّلا : هل المجتمع من الأصل لديه رغبة فى العلاج والتّداوى؟ أم أدمن ألاّ يهتم إلاّ بنفسه؟. على أيّة حال فإنّ لبّ العلاج هو أن نتعلّم ألاّ نمسّ حقوق الآخرين المادّية والمعنويّة ولا نجير عليها، من هنا يتحقّق ناتج فاعل وهو الاحترام، ما دمنا حافظنا على الحقوق المادّية والمعنويّة، انتشر فينا احترامنا لبعض، وحين نحترم بعضنا نجد النّاتج العام وهو « الحبّ، الخير، الجمال». 
المهمّ هو أن نقبض على نقطة الانطلاق العلاجى، ألاّ نمس حقوق الآخرين، فتكون المحصلة في النّهاية مظلّة تقينا أشعة البرجماتيّة الحارقة، هذه المظلّة العامّة هى «الحبّ، الخير، الجمال».