دراسات

بقلم
د. أمينة تليلي
سؤال العلاقة بين الإسلام السياسي والحركة الإصلاحية «فكر الأفغاني أنموذجا»
 يشهد العالم على مرّ التّاريخ تغيرات عديدة بدعوى الإصلاح، وتحديدا على الصّعيد السّياسي، والعالم الإسلامي ليس بمنأى عن هذا، ويجد الباحث في هذا المجال أنّ مصطلح السّياسي في رباط وثيق بمصطلح الإسلامي، وهذا ما توارثناه منذ عهد النّبي ﷺ حينما وقعت الفتوحات الإسلاميّة بدءا بمكّة في اتجاه أرجاء العالم كلّه، لتطبيق حدود اللّه، ونشر القيم الإسلاميّة السّامية كـ «العدل»، و«المساواة»، و«الإحسان»، و«الرّحمة»، وجمع النّاس على كلمة سواء مفادها عدم الشّرك باللّه، وأنّ دين اللّه واحد ألا وهو «الإسلام». وليواصل على نهجه صحابته الكرام، ومن بعدهم التّابعين والتّابعين لهم بإحسان وصولا إلى عصرنا. ولهذا فإنّنا نجد هذا الرّباط الوثيق بين كلّ من مصطلح السّياسي والإسلامي، ولكن بتغير العصور نجد أنّ هذا التّرابط قد أخذ منحىً مغايرا عما هو متعارف عليه. بوصفه تلك المنظومة العقديّة، والسّياسيّة، والثّقافيّة، والاجتماعيّة المتكاملة.
ومع التّراجع الذي يشهده العالم الإسلامي بسبب ابتعاده عن تعاليم الدّين المنظّمة للحياة بمختلف مجالاتها، تحوّلت القيادة العالميّة للغرب الذي فرض نفوذه على العالم ككل، الأمر الذي كان له بالغ التّأثير في المجتمعات المسلمة والتي أصبحت تعيش في تخلّف نتيجة استبداد المستعمر، فصارت مجتمعات مقلّدة، بعد أن كانت مجتمعات مفكّرة.
ولهذه الأسباب ظهر عدّة علماء ومفكرين أرادوا الإصلاح ما استطاعوا مستندين في ذلك على نهج الأنبياء في ضرورة التّغيير والإصلاح عملا بقوله تعالى: ﴿إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ﴾(هود: 88)، وقد برز عدّة مفكرين في هذا المجال وصفوا بفكرهم التّنويري الذي ساهم في النّهوض بالأمّة على عديد الأصعدة خاصّة السّياسي والفكري والأدبي...، ومن ضمن هؤلاء المفكرين «جمال الدّين الأفغاني»(1). والموصوف بـ «شرارة الحركة التّنويرية في العالم الإسلامي» في منتصف القرن التّاسع عشر، والذي كان يستبعد أي تناقض بين أسس التمدّن والتّدين والسّياسي والدّيني. وهذه التوصيفات تحيّر فينا عدّة تساؤلات وجب علينا البحث عن أجوبة لها ولعل أهمّها: ماذا يقصد بالإسلام السّياسي؟ وما علاقته بالحركة الإصلاحيّة؟ وما تأثير فكر الأفغاني في هذه الثّنائيّة؟.
للإجابة عن هذه التّساؤلات سيكون منطلقنا البحث عن حقيقة الإسلام السّياسي وتاريخ نشأته وأسبابه، ومن ثمّ سنبحث في علاقته بالحركات الإصلاحيّة مع ذكر أهمّ روّادها، ومن ثمّ بيان أثر فكر الأفغاني في تحديد العلاقة بين الإسلام السّياسي وحركة الإصلاح.
I. الإسلام السّياسي: المفهوم وتاريخ النّشأة
1. تعريف الإسلام السّياسي:
هو: «مصطلح جديد اقتحم الدّراسات السّياسيّة من الفضاء الإعلامي. يعتمد عادة للإشارة إلى الحركات التي تمارس العمل السّياسي في إطار نظرة شموليّة للحياة البشريّة، وتعمل على إعادة صياغتها لتنسجم مع توجّهات الإسلام»(2). 
وجاء في تعريفه أنّه: «مجموعة من الأفكار والأهداف السّياسيّة النّابعة من الشّريعة الإسلاميّة والتي تؤمن بفكرة أنّ الإسلام ليس مجرّد ديانة فقط، بل هو عبارة عن نظام سياسي واقتصادي وثقافي»(3).
وقيل هو: «مصطلح يشير إلى تلك الحركات والقوى الدّينيّة التي تهدف إلى تطبيق مبادئ الشّريعة الإسلاميّة في السّلطة، وتصبو أن تكون الشّريعة الإسلاميّة ليس مجرّد ديانة فقط بل نظاما سياسيّا للحكم(4).
ونلحظ من خلال هذه التّعريفات أنّ مصطلح الإسلام السّياسي إنّما ظهر لوصف حركات تغيير سياسيّة تؤمن بالإسلام نظاما للحكم. رغم أنّ ما يفيده مصطلح الإسلام السّياسي إنّما وجوده بوجود الإسلام بذاته.
2. تاريخ النشأة:
تمتد جذور مفهوم «الإسلام السّياسي» إلى: «مرحلة ما بعد إلغاء الخلافة العثمانيّة في الرّبع الأول من القرن العشرين، عندما سقط آخر نظام سياسي إسلامي على يد القوميّين العلمانيّين الأتراك، فانقطع حبل الخلافة الإسلاميّة الممتد من دولة الخلافة الرّاشدة، ونشأت تيّارات فكريّة، وتكوّنت جماعات إسلاميّة، وأُسست أحزاب إسلاميّة...، لاستعادة النّظام السّياسي الإسلامي (الخلافة) إلى الوجود والحكم، برز منها تيار الجامعة الإسلاميّة، وجماعة الإخوان المسلمين، وحزب التّحرير الإسلامي»(5).
وقد ظهر هذا المصطلح لوصف حركات سياسيّة تؤمن بأنّ الإسلام نظام سياسي واجتماعي وقانوني واقتصادي يصلح لبناء مؤسّسات الدّولة الحديثة، ويعود سبب نشأة الإسلام السّياسي إلى تفشّي ظاهرة التّخلّف والتّراجع -بعدما كانت الأمّة الإسلاميّة سيّدة في العالم- نتيجة الاستعمار الغربي، وهذا الشّعور بالتّراجع والتّقهقر أدّى إلى ظهور عدد من مفكّرين نادوا لإطلاق مشروع الإصلاح انطلاقا من شريعتهم الإسلاميّة، مع ضرورة الانفتاح على ثقافة الغرب المستعمر. وفي اعتقادهم عند العودة إلى تطبيق منهج التّشريع الإسلامي ستعود القيادة العالميّة والسّيادة الأخلاقيّة للمسلمين.
II.  الحركات الإصلاحيّة: دوافعها وأهدافها
1. دوافع ظهور الحركات الإصلاحيّة الإسلاميّة
يعتبر التّجديد الدّيني أمرا وارداً، تمليه ظروف داخليّة وأخرى خارجيّة، أفضت هذه الظّروف متجمعة إلى انتشار البدع والخرافات والبعد عن الأحكام الشّرعيّة. ولهذا السّبب «قامت دعوات إصلاحيّة تجديديّة قادها نخبة من الفقهاء والعلماء(6)، وكانت تلك المحاولات مع بداية القرن الثّامن عشر»(7).  
ويعد أعظم إنجاز أقدمت النّهضة العربيّة على إفرازه هو حركة الإصلاح الدّيني، والتي اتضحت معالمها وتطوّرت على يد جمال الدّين الأفغاني ومن بعده محمد عبده. وقد ظهرت هذه الحركة: «كرد فعل مباشر على عاملين مهّدا لظهورها أوّلهما: وجود ما يعرف بالاتجاه التّقليدي المحافظ الذي مثل جماعة من الفقهاء والعلماء ذوي النّفوذ والسّلطة داخل الدّولة العثمانيّة، وقد نما هذا التّيار إبّان حكم السّلطان عبد الحميد الثّاني (1842-1912م)، الذي أعاد للوجود فكرة الخلافة الإسلاميّة. والذي قام بجمع عدد من مشايخ العرب وراحوا يتنافسون على تمجيد دعوته واكتساب رضاه. الأمر الذي أثّر في دفع العرب والمسلمين نحو التّخلّف والانحطاط، بتشجعيه لعقيدة الجبر والاتكال. أمّا العامل الثّاني: فيتمثل في التّحولات العالميّة الكبرى، والتي اطلع عليها العالم العربي من خلال احتكاكه بالغرب، الأمر الذي دفع بروّاد الإصلاح إلى محاولة إيجاد السّبل نحو التّقرّب من هذا الوافد والأخذ من مناهله التي شكّلت تراثا إنسانيّا مستحدثا، دون المساس بالمقومات الجوهريّة للأمّة العربيّة الإسلاميّة(8).
يتّضح من خلال عرض أسباب ظهور الحركة الإصلاحيّة ودوافعها أنّ الوضعيّة العامّة للعالم الإسلامي ككل تستدعي الإصلاح. وذلك لما يعانيه العالم الإسلامي من تخلف وانحطاط واستبداد حكّامهم آنذاك، إضافة إلى السّيطرة الغربيّة والاستعمار. لهذا وجب الإصلاح والقطع مع هذا الجمود، والدّعوة إلى اليقظة ومواجهة تحديات العصر انطلاقا من قيم الدّين الإسلامي بداية ثمّ استغلال التّطوّر الغربي ثانيا.
2. أهدافها:
وقد جاءت هذه الحركات نتيجة احتياجات المرحلة التي عاشها روادها، فأرادوا أن يكون الفكر الإسلامي قادراً على التّفاعل مع الظّروف المتغيّرة. ولا يكون ذلك إلاّ من خلال تحرّره من القراءة الفقهيّة السّائدة آنذاك. ولهذا: «سعت هذه الحركات إلى تحقيق أهداف عدّة تعنى بمجالات مختلفة (الدّينيّة، والسّياسيّة، والاقتصاديّة والاجتماعيّة، والثّقافيّة)، فقد عملت هذه الحركات دينيّا على بعث الحقيقة الإسلاميّة، وذلك بتنقية الدّين ممّا علق به من بدع وضلالات، والعودة به إلى منابعه الأولى. فكان رفض الجمود والتّقليد وفتح باب الاجتهاد، وتمَّ تفسير الدّين تفسيراً جديداً يتلاءم مع حاجات العصر الحديث، مع الحفاظ على الهويَّة الإسلاميّة وإثبات وجودها الحضاريّ. أمّا سياسيّا فقد كانت الحركات الإصلاحيّة تقوم بدور تشريح الأوضاع الدّاخليّة للعالم الإسلاميّ، وتُنبّه إلى الأخطار المحدقة بالمشرق عموماً وتدعو إلى تحريره من السّيطرة الأوروبيّة، والتّمسّك بالخلافة الإسلاميّة ممثلَةً في الخلافة العثمانيّة. وقد انصرفت جهود المصلحين إلى معالجة نظام الحكم ووضع تصوّرات لعلاقة الحاكمين بالمحكومين، وذلك بتنظيم الحكومات وتوفير المجالس النّيابية والحرّية السّياسيَّة مع التّشبّث بالوحدة الإسلاميّة قصد مقاومة الغزو الأوروبيّ، وتمّ نشر أفكار الحرّية والعدالة والمساواة والدّيمقراطية والدّستور»(9).   
وبهذا تكون حركات الإصلاح وفي مقدمتها فكر الأفغاني حركات تهدف إلى تغيير الوضع السّياسي والاجتماعي للمجتمعات المسلمة، والخروج بها من التّخلّف، والسّير نحو ركب التّقدّم، ولا يكون ذلك إلاّ بإحياء الحضارة الإسلاميّة، والأخذ بما يفيد من الحضارة الحديثة.
III. فكر الأفغاني وثنائيّة العلاقة بين الإسلام السّياسي وحركة الإصلاح:
يعدّ الأفغاني الشّخصيّة الأكثر تأثيراً في حركة الإصلاح الإسلامي في العصر الحديث، فكانت أفكاره الإصلاحيّة كردّة فعل للتّحديات التي تواجه العالم الإسلامي من تدهور على جميع الأصعدة، في مقابل الهيمنة -العسكريّة والتكنولوجيّة والعلميّة- للعالم الغربي. وفي ظلّ هذا الوضع الصّعب الذي يعيشه العالم العربي والإسلامي نادى الأفغاني بأفكار إصلاحيّة منطلقها تعاليم الدّين الإسلامي وما أنتجه العالم الغربي. رافضا بذلك ما دعا إليه أتباع الحركة الوهابيّة في جزيرة العرب من إصلاح قوامه الوحي والقطع مع ما أنتجه العقل. وما دعا إليه زعماء حركات الإصلاح في الدّولة العثمانيّة القائمة على القيم الغربية والقطع مع نصوص الوحي. هكذا نظّر الأفغاني لحركة الإصلاح التي شملت ميادينَ شتّى وسعى جاهدا للاستفادة من التّطوّر الغربي لخدمة الإسلام والمسلمين. وهنا نقف عند سؤال مفاده ماهي المجالات التي حازت على اهتمام الأفغاني في أولويّة الإصلاح؟.
شملت الرّؤى الإصلاحيّة للأفغاني مجالات شتّى إلاّ أنّه جاهد من أجل الإصلاح السّياسي بدرجة أولى، ومن ثمّ الإصلاح العقائدي وليشمل بدرجة ثانية بقيّة المجالات. ويتجسّد هذا جليّا في تمهيده لتأسيس الجامعة الإسلاميّة، وهي: «حركة سياسيّة ودينيّة، ذات منظور إصلاحي، وقضيّة فكريّة وثقافيّة هدفت إلى ربط الشّعوب الإسلاميّة والملل المختلفة والأقوام المتعدّدة برابطة وحدة الأمّة الإسلاميّة، لتكون جبهة متّحدة ضدّ الأخطار الخارجيّة الموجّهة إليها، وليست نزعة دينيّة متعصّبة ضدّ الأقليات أو غير المسلمين المقيمين على أراضيها، إنّما رابطة إسلاميّة من أجل بناء مدنيّة وحضارة إنسانيّة، تحتضن التّنوّع والعرقيّات المختلفة في إطار الشّريعة والمنهج الإسلامي المتسامح القادر على التّأثير والعطاء الحضاري». وقد تبنّاها السّلطان العثماني عبد الحميد الثّاني (1842م/1918م)، وشكّلت هذه الحركة خطرا حقيقيّا على مصالح الدّول الاستعماريّة الأوروبيّة وخططها المستقبليّة فيما يتعلق ببسط السّيطرة ومدّ النّفوذ، ولذلك تنادى رجال السّياسة الأوروبيّة الذين كانت لهم مكانتهم في تاريخ الاستعمار الأوروبي آنذاك إلى ضرورة مهاجمتها ومحاولة تشويهها، ولعبت الصّحافة الأوروبيّة دوراً فَعَّالاً في تأجيج الرّأي العام الأوروبي ضدّ هذه الحركة، وساهمت في تكوين جبهات غربيّة اتفقت جميعها على ضرورة القضاء على فكرة الجامعة الإسلاميّة قبل أن  يتوسّع خطرها ويزداد تأثيرها»(10).
وقد سعى الأفغاني بدعوته إلى الجامعة الإسلاميّة إلى معالجة ثلاثة انقسامات رئيسة بين المسلمين: 
1. ردم الهوّة التي تفصل بين المسلمين السّنّة وإخوانهم المسلمين الشّيعة، واعتبر أنّ الاختلاف بينهم اختلافا هامشيّاً. وأنّ هذا الانقسام لا يفيد أيّا من الطّائفتين ولا يخدم إلاّ مصالح الحكّام المستبدّين الذين سعوا تاريخيّا للتّهويل من ذلك الانقسام لاستغلاله في تعزيز حكمهم الاستبدادي.
2. ردم الهوّة بين الجماعات القوميّة المسلمة المختلفة، فقد أدان الافغاني الايديولوجيّة القوميّة الصّاعدة آنذاك، وذلك انطلاقاً من منظور إسلامي يؤكّد على أنّ الإسلام هو الجنسيّة الوحيدة للمسلمين، وأنّ المسلمين لم يعرفوا في تاريخهم جنسيّة سوى دينهم.
3. ردم الهوّة السّياسيّة بين الدّول الإسلاميّة المستقلّة، ولكنّه كان واقعيّاً بدرجة كافية للتّحقّق من الصّعوبة البالغة لإخضاع جميع الدّول الإسلاميّة لحكومة واحدة وحاكم واحد. ولذلك قدّم الأفغاني بديلين خلاّقين لتوحيد الدّول الإسلاميّة المستقلة. فقد اقترح أوّلا إقامة نوع من الاتحاد الفيدرالي تتمتّع فيه الدّول المنضمّة إليه بالاستقلال في إدارة شؤونها الدّاخليّة. وأمّا الثّاني فهو أن تلتزم جميع الدّول الإسلاميّة بالقيم والشّريعة المستمدّة من القرآن والسّنّة.
فنادى إلى ضرورة الإصلاح السّياسي والعمل على إقامة دولة نموذجيّة في بلد مُهيّأ لذلك (يقصد به مصر)، والدّولة الإسلاميّة النّموذجيّة عند الأفغاني هي: «دولة مستقلّة تلتزم بالقرآن والسّنة والشّورى والمبادئ الدّستوريّة»(11). 
وقد عمد الأفغاني لتحقيق أهدافه الإصلاحيّة السّياسيّة إلى وسائل عدّة تراوحت بين السّلميّة والعنيفة، وتجسّد هذا في «اغتيال الخديوي إسماعيل والإطاحة بالنّظام الملكي وإقامة نظام جمهوري إسلامي لأول مرّة في مصر»(12). ولهذا عرف الأفغاني بالمصلح الثّوري. واعتبر أنّ هذا الأسلوب هو أحد العوامل الأساسيّة للتخلّص من النّظام الاستبدادي للحكم. إضافة إلى توعية الشّعب بفساد النّظام الحاكم وذلك بتذكيرهم بالتّعاليم الإسلاميّة، والمبادئ الغربيّة التي تدعو إلى الحياة الكريمة، والقطع مع السّلطات الجائرة والمستبدة. 
وقد عمل الأفغاني على تحقيق ثلاثة أهداف في الوقت نفسه، فأوّلاً العمل على بناء دول إسلاميّة نموذجيّة في كبرى الدّول الإسلاميّة التي لم تكن قد خضعت بعد للاستعمار في ذلك الوقت. وثانيا أثار الأفغاني المسلمين ضدّ الاستعمار الغربي، ولا سيّما البريطاني. وثالثاً دعا الأفغاني الدّول الإسلاميّة المستقلّة آنذاك، إلى الاتحاد لحفظ استقلالهم والمساعدة في تحرير البلاد الإسلاميّة المستعمرة.
وقد اعتبر الأفغاني أنّ جهل المسلمين بتعاليم دينهم وغياب الوعي السّياسي المستمد من الإسلام العامل الأول في تواصل النّظم الاستبداديّة، الأمر الذي مهّد الطّريق للقوّات المستعمرة لاحتلال البلدان المسلمة. ولكنّ هذه الأهداف التي سعى الأفغاني إلى تحقيقها من خلال المناداة بوحدة الدّول الإسلاميّة أمر أقرب إلى الخيال إن صحّت العبارة. لكنّ هذا لم يثنِ عزمه نحو مناشدة مطمحه، الأمر الذي دفعه إلى: «تكوين منظمة سرّية أطلق عليها «تنظيم العروة الوثقى»، وكذلك المجلة التي أصدرتها المنظّمة وحملت اسمها، وقد تشكل التّنظيم من خلايا سريّة تعمل أساسا في مصر والهند»(13). لكن كلّ محاولاته اجهضت من قبل المستعمر. ومات الأفغاني دون أن يحقّق أي من هذه الأهداف الكبرى، وقد واصل من بعده تلميذه محمد عبده هذا المسار إلّا أنّه غيّر في بعض أهدافه وأهمّها التّقليل من أهمّية الإصلاح السّياسي لفائدة الاصلاح الدّيني والتّعليمي.
الخاتمة: 
وما يمكن أن نختم به حديثنا، أنّ الأفغاني كان صاحب السّبق في تشييد دعامات الحركة الإصلاحيّة، ونواتها الأولى. تميّزت نظريّاته الإصلاحيّة بالتّركيز على الجانب السّياسي بدرجة أولى، ومنطلق هذه الدّعوة التّراث الإسلامي بشقّيه القرآن والسّنّة. والحركة الإصلاحيّة التي قادها الأفغاني لم تبق داخل مصر، إنّما كان لها تأثيرها في عديد الحركات الإصلاحيّة والدّعويّة في عدد كبير من البلدان.
وأخيرا، يعتبر فكر الأفغاني الشّرارة الأولى للحركة الإصلاحيّة التّنويريّة الإسلاميّة، ودعامتها الأساسيّة الإصلاح السّياسي، وظهور ما اصطلح على تسميته الإسلام السّياسي. وأنّ الإسلام ليس ديانة فحسب، إنّما هو نظام متكامل سياسي واجتماعي وثقافي واقتصادي، تبنى عليه الحياة، وتنظم وفقه.
الهوامش
(1) جمال الدّين الأفغاني: هو محمد جمال الدّين، وُلد سنة 1254هـ/1838م، في أسعد آباد، من بيت عظيم في بلاد الأفغان، حنفي المذهب، ينتمي نسبه إلى السيّد الترمذي المُحدّث المشهور، ويرتقي إلى الحسين بن علي بن أبي طالب، وفي كابل تلقّى علومه واستكمل الغاية من دروسه. وهناك من اعتبره إيرانيّا متشيّعا، أخفى هُويته تقيّة. حفظ القرآن الكريم، ودرس العربيّة، تلقّى معارف جمّة منها علوم العربيّة، والعلوم الشّرعيّة، والعلوم العقليّة، وفنون الرّياضة، ودرس نظريّات الطّب والتّشريح.
رحل إلى النّجف مع والده ومكث فيها أربع سنوات، درس فيها التّفسير والحديث والمنطق، وعلم الكلام، والأصول، وانهى دراسته في النّجف وعمره 16 عاما تقريبا، ثمّ سافر إلى الهند، ودرس العلوم الرياضيّة، وشيئا من العلوم الأوروبيّة، ثم انتقل إلى مكّة سنة 1857م، أدّى فريضة الحجّ، ثمّ عاد إلى بلده أفغانستان مرّة أخرى، وعمل بالحكومة، وكان عمره حينئذ 27 عاماً، ووصل إلى درجة كبير الوزراء. 
ودخل مصر مرّتين، بقي أربعين يوما في زيارته الأولى، وثمان سنوات في الثّانية وكانت إقامته بين 1871/1879م، وفيها التقى بطلاّبه، وأنشأ حراكه الفكري، وانتشرت أفكاره وتوجّهاته بين يدي محبّيه ومريديه، وكان مقامه هناك بمثابة الشّرارة التي أشعلت طاقات بعض المثقّفين المصريّين، وكان تلاميذه في تلك السّنوات هم قوّاد وزعماء الثّورة ضد الجمود والاحتلال، ابتداء من محمد عبده إلى سعد زغلول.
لم يكن للأفغاني اهتمام كبير بالتّأليف، بل كان همّه أن يلقي كلماته وخطبه على تلاميذه إلقاء، بمعنى أنّه اعتمد الأسلوب الشّفوي في تناوله العلمي، وهذا ما ألمح إليه محمد إقبال عند حديثه عن الأفغاني: «يتحدّث كثيرا ويكتب قليلا». لهذا لم يترك أعمالا مكتوبة كثيرة باستثناء كتاب «الرّد على الدّهريين»، وكتاب صغير بعنوان «تتمّة البيان في تاريخ الأفغان».
توفّي الأفغاني في الأستانة، عن عمر بلغ نحو ستّين عاماً، متأثّرا بمرض السّرطان، وكما حفلت حياته بالجدل والإثارة، فقد ثار الجدل أيضا حول وفاته، وشكّك البعض في أسبابها، وأشار آخرون إلى أنّه أُغتيل بالسُّم، وكانت وفاته في 05 شوال 1314هـ الموافق لـ 10 مارس 1897م.
للتّوسع أكثر انظر:
- الزركلي، خير الدّين: الأعلام، دار العلم للملايين، بيروت-لبنان، ط/5، 2002م، 6/168.
- عمارة، محمد: جمال الدّين الأفغاني المفترى عليه، دار الشروق، القاهرة-مصر، ط/2، 1408هـ/1988م، ص 17-21.
- البوطي، محمد رمضان: شخصيّات استوقفتني، دار الفكر المعاصر، دمشق-سوريا، ط/7، 2008م، ص 190.
 (2)  مجموعة من المؤلّفين: إشكالية الدّولة والإسلام السّياسي قبل وبعد ثورات الرّبيع العربي «دول المغرب العربي نموذجا»، المركز الدّيمقراطي العربي، برلين-ألمانيا، ط/1، 2018م، ص 14.
 (3) مجموعة من المؤلفين: إشكالية الدولة والإسلام السياسي قبل وبعد ثورات الربيع العربي «دول المغرب العربي نموذجا»، (م.س)، ص 56.
 (4) نفسه، ص 56.
 (5) القططي، وليد: الإسلام السياسي أزمة مصطلح ونخبة، https://www.almayadeen.net/articles/blog (بتصرف)
 (6) نذكر بعض المصلحين:
1. جمال الدين الأفغاني (1254-1314هـ/1839-1897م): (محور بحثنا)
2. خير الدين التّونسيّ ( 1229 – 1308 هـ/1810 – 1890م): من رواد الإصلاح في العالم الإسلاميّ، تقلّد مناصب سامية، وأدخل النّظم الغربيّة الحديثة إلى تونس، مُدركاً أنَّ سرَّ تفوق أوروبا كامنٌ في قوّتها الاقتصاديّة. أراد خير الدّين أن تشترك الرّعيّة في توجيه سياسة الدّولة. ورأى أنَّ الليبراليّة في الاقتصاد تؤدّي إلى الاستثمار والرّخاء، ووضع في مقدمة كتابه «أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك» خلاصة آرائه في التّمدّن، فحفَّز هِمَم السّاسة ورجال العلم للنّهوض بالأمّة الإسلاميَّة حتّى تستعيد أمجادها.
3. عبد الرحمن الكواكبي (1265 – 1320هـ/1848 – 1902م): انفتح على علم الاجتماع الإنسانيّ، وسلّط جام غضبه على الحكم المطلق وهيّأ النّفوس للمطالبة بالحقوق من خلال كتابه «طبائع الاستبداد»، وشخَّص أمراض المسلمين، ورسم طرق معالجتها في كتابه «أم القرى».
4. محمد عبده (1266-1323هـ/1849-1905م): تشبّع بآراء الأفغانّي، وحاول تحرير الفكر من قيود التّقليد وتطهير العقيدة من البدع والضّلالات. فَهِمَ الدّين على طريقة السّلف وردَّ ضعف المسلمين إلى الجهل بأصول العقيدة. واعتبر إصلاح أحوال المسلمين الدّاخليّة هو الوسيلة لمناهضة الاستعمار. فانصرف إلى إصلاح العقيدة والمؤسّسات الإسلاميّة كالأزهر والأوقاف والمحاكم الشرعيّة. ونظراً لأهمية التّعليم في مشروعه اعتبر إصلاح الأزهر بمثابة إصلاح لأحوال المسلمين عامّة. وفي مواجهة التّيارات الغربيّة، دافع عن الإسلام، ودعا الأمّة أن تعرف حقهّا على حاكمها.
5. محمد رشيد رضا (1282 – 1354 هـ/1865 – 1935م): حاول تصحيح العقيدة والدّفاع عن الإسلام، وإصلاح نظام التّربية والتّعليم، والانفتاح على تدريس العلوم العصريّة. ولا يمكن اختصار جهود المصلحين ولا التّعريف بهم؛ إذ لا بدّ من وضع موسوعة كبيرة لتقديم تيارات الإصلاح كما كشفت عنها كتابات المصلحين وآراؤهم ومواقفهم في جميع أنحاء العالم الإسلاميّ. (أرحيلة، عباس: حركات الإصلاح في العالم الإسلاميّ، نشر بتاريخ 02 أكتوبر 2015م، http://abbasarhila.blogspot.com/2015/10/1.htm(
 (7) مقدم، رشيد: المشروع النّهضوي عند روّاد حركة الاصلاح الدّيني في عصر النّهضة جمال الدّين الأفغاني أنموذجا، قضايا تاريخية، العدد 02، السنة 1437هـ/2016م، ص 213. 
 (8) حوراني، ألبرت: الفكر العربي في عصر النهضة، دار النهار، بيروت-لبنان، ط/3، 1968م، ص 52.
 (9) للتوسع أنظر: أرحيلة، عباس: حركات الإصلاح في العالم الإسلاميّ، نشر بتاريخ 02 أكتوبر 2015م،
 http://abbasarhila.blogspot.com/2015/10/1.htm 
 (10) للتوسع انظر: عمارة، محمد: الجامعة الإسلامية والفكرة القومية نموذج مصطفى كامل، دار الشروق، القاهرة-مصر، ط/1، 1994م.
 (11) عمارة، محمد: جمال الدين الأفغاني موقظ الشرق وفيلسوف الإسلام، دار الشروق، بيروت-لبنان، ط/2، 1988م، ص 26.
 (12) المصدر نفسه، ص 76.
 (13) المصدر نفسه،  ص 255-256.