حديث في الأدب

بقلم
أ.د.وليد قصاب
تجنيد العقائد المنحرفة في الأدب العربيّ الحديث
 بسبب قدرة الأدب على التّغيير، وبسبب دوره المؤثِّر الفعّال في حفز النّفوس على الثورة والعمل، وتبنّي المواقف؛ اصطنعته الطّوائف المختلفة في القديم والحديث سلاحًا هامًّا من أسلحتها في الدّعوة وصياغة الأحاسيس والتّصوّرات المختلفة عن الكون والإنسان والحياة . فكان واحدٌ مثل ستالين يقول : « الأدباء مهندسو البشريّة». 
وأشار أحد النّقاد الغربيّين إلى اصطناع الطّوائف المختلفة، من سياسيّة، وفكريّة، وإيديولوجية للأدب في حمل رسالتها، وتغيير المجتمع والنّاس إلى الصّورة التي يريدون. يقول ريا نوف: « إنّ التّاريخ لم يعرف طبقة واحدة سيطرت في المجالات السّياسيّة والاقتصاديّة وأهملت مسألة الفنّ، فإنّ كلّ واحدة من الطّبقات التي سيطرت – اقتصاديًّا وسياسيًّا – سعت بالسّبل كلّها إلى الاستفادة القصوى من ثمار ونتائج الإبداع الفنيّ، خدمة لمصالحها الطّبقيّة.. إنّ الفنّ أصبح سلاحًا للسّياسة والإيديولوجيا، كما أنّ السّياسة بدورها صارت مادّة لكثير من الأعمال الأدبيّة والفنّيّة..» (1)
إن ارتباط الأدب بالفلسفات والعقائد -سماويّة أو بشريّة- هو ارتباط وثيق في القديم والحديث؛ فهو ضرب من الفكر غير المحايد.
ولقد تعرّضت الأمّة العربيّة والإسلاميّة منذ مطلع ما يحسبه بعضهم «عصر نهضة» إلى غزو عسكري مسلّح، فتشتّت شملها، وانفرط عقد وحدتها، ووقعت كثير من بلدانها وأقطارها في قبضة احتلال عسكري غربيّ مدجّج بأفتك الأسلحة وأقواها، ثمّ تلاه ما هو أخطر منه، وهو الاحتلال الفكريّ والغزو الثقافيّ، وما خرج العسكري الأجنبي من بلادنا إلاّ بعد أن سلّم الرّاية لغزاة الفكر والثّقافة.
ولأنّ الأمّة صارت في حالة ضعف وانكسار، بعد أن دالت دولتها، وسقطت خلافتها، وأحسّت بتفوّق هذا الغازي الأجنبيّ الذي غلبها؛ أحسّت طائفة من ذوي النّفوس المنهارة من الدّاخل بالتّقازم أمامه، فراحت  تقلده، وتأخذ بنظمه وقوانينه وفكره، بحسب سنّة تقليد المغلوب للغالب.  
وإنّ أدبنا العربي الذي كان منذ أن جاء الإسلام – إلّا في استثناءات قليلة -  يغترف من نبع العقيدة، ويتشكّل في ضوء هديها، قد جدّت فيه – من داخل الأمّة وخارجها-  تيّارات وفلسفات وأفكار كثيرة مخالفة للإسلام. وكانت هذه الدّعوات  تلقى على الدّوام دعماَ من الخارج، ويحظى المنادون بها بكلّ حفاوة وتقدير، وينصّبون رموزاً للثّقافة والفكر.
انفتح باب أدبنا العربيِّ الحديث على مصراعيه – من غير حذر ولا رقيب- على تيّارات لا حصر لها قادمة من شرق ومن غرب، كالعلمانيّة، والماركسيّة، والوجوديّة، واللّيبيراليّة ، والعبثيّة، والحداثة، وما بعد الحداثة، وغيرها وغيرها. كما أُحْييت فيه عقائد ونحل منحرفة كانت دائما في موطن الشّبهة والاتهام عند علماء الأمّة وفقهائها ومفكريها، كالباطنيّة، والصّوفيّة المنحرفة، والقدريّة، وغيرها. 
وإنّ الدّارس ليلحظ أنّه  لم تبقَ نِحلة أو دعوة أو فلسفة من الفلسفات التي تخالف الإسلام إلّا ارتادها أدبنا العربيُّ الحديث، حتّى لم يعد خافياً على أحد هيمنة هذه العقائد والإيديولوجيّات المنحرفة على ساحته، واستئثارها بتصوّراته ورؤاه.
تسمت مدارس ومذاهب بأسماء وثنية، ولمعت وذاعت في عالم الأدب عندنا. وهل ثمّة ما هو أشهر من مدرسة «أبولو» في الأدب العربي الحديث؟ ومن هو «أبولو» هذا؟ إنّه – فيما تدعي الأساطير اليونانيّة – ربُ الشّعر والشّمس والموسيقا.(2)
وتسمّت طائفة من شعراء الحداثة بالشّعراء «التّموزييّن» ومن هو تمّوز؟ إنّه وثن استخدم عند البابليين إلهاَ للمحاصيل والإنبات كما تدعي أساطير أولئك القوم.(3)
بل إن شاعراَ مشهوراَ من رموز الحداثة يستبدل باسمه العربي « علي أحمد سعيد» اسماً وثنياً، فيدعو نفسه « أدونيس» وهو – فيما تزعم أساطير الفينيقيّين – إله الخصب عندهم.(4)
كما احتشد الشّعر العربي الحديث – والحداثي منه على وجه الخصوص – بعشرات الرّموز الوثنيّة والنّصرانيّة، واستعمل مفرداتها وألفاظها، وقد استغرب محمود شاكر – رحمه اللّه – أنّ كثيراً من رواد الشّعر العربي الحديث – من المسلمين – قد أوغلوا في استخدام ألفاظ من مثل « الخطيئة، والفداء، والصّلب، والخلاص وغيرها .(5)   
وكان أدباء النّصارى – على مختلف اتجاهاتهم – يعكسون عقيدتهم فيما يكتبون، وكانت النّصرانيّة هي العنصر الأبرز في أدبهم. وقد تجلّى ذلك أبرز ما تجلّى  في أدب المهجر؛  فأدباؤه – وجلّهم من  النّصارى – تسيطر على شعرهم وعلى نثرهم الرّوح الدّينيّة لعقيدتهم. وهم يستلهمونها فيما يكتبون.
كان جبران وزملاؤه من كتاب الرّابطة -  كما يقول  عبد الكريم الأشتر- هم الرّسل الأمناء الحقيقيّون الذين يبشّرون بالمبادئ المسيحيّة الحقّة..» (6)
وتضيق المساحة في مثل هذا المقام عن أن يورد المرء مالا حصر من تجنيد العقائد والإيديولوجيّات المختلفة في الأدب العربي الحديث الذي أصبح عند قوم من بني جلدتنا ساحة مباحة لكلّ فكر إلاّ الفكر الإسلامي.
وحسبنا أن نورد في هذا المقام ما لاحظته لجنة الشّعر في المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب بمصر من القيم العقديّة المنحرفة التي غزت الشّعر العربيّ الحديث، وذلك في مذكّرة رفعتها إلى وزير الثّقافة يومذاك، وقد جاء فيها: « إنّ مراجعة سريعة لكثير ممّا يسمّى بالشّعر الجديد لتكفي للدّلالة على أنّ أصحابه واقعون تحت تأثيرات إذا حلّلناها وجدناها منافية لروح الثّقافة الإسلاميّة العربيّة التي هي الرّوح المميّزة لشخصيتنا الفنّية على مدى العصور، ممّا يجعل كتاباتهم مرفوضة حتّى لو أخرجناها من دنيا الشّعر لندخلها في عالم النّثر الفنّي، وذلك لأنّها تشيع في كياننا العضوي عنصراً غريباً يهدمه ولا يعمل على بنائه ونمائه.
ومن ذلك ميلهم الشّديد نحو الاستعانة في التّعبير بعناصر يستمدّونها من ديانات أخرى غير العقيدة الإسلاميّة، بل ممّا تأباه هذه العقيدة: كفكرة الخطيئة، وفكرة الصّلب، وفكرة الخلاص، وذلك فضلاً عمّا يستبيحونه لأنفسهم بالنّسبة لكلمة (الإله) كأنّما هي ما تزال عندهم كلمة بمعناها الوثني، ولم تتخذ في الإسلام معنىً خاصاً يجب احترامه، مهما كان السّياق الذي ترد فيه ..» (7).
وعلى تعدّد الإيديولوجيّات والعقائد التي انعكست في الأدب العربيّ الحديث كانت «العلمانيّة» أو قل «اللاّدينيّة» هي السّمة الكبرى التي جمعت بينها، وهي الفكر الذي صدرت عنه الثّقافة الغربيّة عامّة، ورسّخته الاتجاهات الحداثيّة وما بعد الحداثيّة بشكل خاصّ.
وهذا يعني أنّ الأدب العربيّ – وهو يتبنّى هذه العقائد والفلسفات على يديْ طائفة من أبنائه- ينسلخ عن الإسلام شيئاً فشيئاً ؛ ينسلخ عن العقيدة التي صدر عنها منذ مبعث الدّعوة المحمديّة، وكانت – على ما شابها أحياناً على أيدي طوائف معيّنة – هي المحضنَ الأوّل له.
وإنه لتجدر ملاحظة أنّ هذا الفكر العلمانيّ المنحرف المدعوم من الغرب لم يكن يمسّ إلّا العقيدة الإسلاميّة وحدها، ولم يكن يتجرّأ إلاّ عليها ، بل على إسلام السنّة والجماعة خاَصّة.
يقول الدّكتور إحسان عباس - وهو يرصد حركة الشّعر العربيّ المعاصر- : «أصبح التّمييز – في الدّائرة الشّعرية- مرحليّاً، وصحب ذلك كلّه إيمان بأنّ كلّ قيمة ثابتة- أيّاً كان منبتها، ومهما تكن مدّة ثباتها- فهي تشير إلى الرّكود، أو التّخلّف، أو الجمود، سواء أكانت تلك القيم تتّصل بالدّين، أو بنمط حياة، أو طريقة تفكير. وكان هذا الوجه من النّظر يصيب أكثر ما يصيب مؤسّسة قائمة على ثوابت ضروريّة مثل الدّين، وخاصّة الدّين الإسلاميّ في صورته السّنيّة؛ من حيث إنّه صورة كبيرة من صور التّراث..» (8).
وإنّ المرء – بعد كلّ هذا- ليأخذه عجب لا يشبهه عجب أن يرى طائفة من أدباء المسلمين ونقّادهم يسكت على تجنيد طوائف كثيرة من الشّعراء والكتّاب للنّحل المختلفة التي تتجافى مع الإسلام في أدبهم، ولا يرفع عقيرته بالاحتجاج والتّنكير، ثمّ إذا ما سمع طائفة من المسلمين تدعو إلى استلهام دينها في أدبها، والصّدور عن منابعه؛ ارتفعت هذه العقيرة، وبلغ النّكير أقصاه، ولم تبق تهمة من مثل التّطرّف، والتّخلّف، والرّجعيّة، والعصبيّة، وغيرها الكثير إلاّ ألصقت بهؤلاء القوم.
الهوامش
1) انظر كتاب « الفن والإيديولوجيا» ف – ريانوف ، ترجمة خلف الجراد : ص7 
(2) انظر كتاب«جماعة أبولو، وأثرها في الشعر الحديث» لعبد العزيز الدسوقي: ص344
(3) انظر كتاب«ميثولوجيا وأساطير الشعوب القديمة» لحسن نعمة: ص198
(4) المرجع السابق:ص136
(5) أباطيل وأسمار، لمحمود شاكر: ص205 - 215
(6) انظر كتاب « النثر المهجريّ» لعبد الكريم الأشتر: ص65
(7) انظر كتاب « الأدب الإسلامي ضرورة» لأحمد محمد علي : 50، نقلاً عن «قضايا ومواقف» لعبد القادر القط : 12.
(8) انظر كتاب «اتجاهات الشعر العربي المعاصر» لإحسان عباس: ص113