الدولة في الحديث النبوي

بقلم
الهادي بريك
الحلقة السابعة - المرأة والدولة
 الحقّ الذي لا مراء فيه لكلّ مستقرئ جادّ لتراثنا الفقهيّ أنّ كثيرا من إجتهاداته المتعلّقة بالأسرة والمرأة كانت متأثّرة بالموروث في كثير من مواضعها أكثر من تأثّرها بالشّريعة نفسها. الإنسان ـ مهما علا كعبه ـ لا يتحرّر من المؤثّرات الضّاغطة إلاّ بمجاهدات جاهدة، تفكيرا وجرأة معا. روى بعضهم عن الشّيخ محمّد أبي زهره (الفقيه الأزهريّ الكبير) أنّه ظلّ يكتم في صدره عدم قوله برجم الزّاني عقودا طويلة خوفا من ثورة ضده من الطّبقة العلميّة السّائدة في زمن إستمرأ النّاس فيه التّقليد. وظلّ مثل ذلك عالم آخر ـ وهو نفسه الذي روى ما وقع لأبي زهرة ـ عقودا طويلة يكتم رأيه في المصافحة أنّها مباح مقيّد للسّبب ذاته. 
العلم لا يحتاج إلى تمحيص فحسب نخلا لغثّه من سمينه، إنّما يحتاج صاحبه شجاعة كبيرة تجعله يصدع برأيه المخالف غير عابئ بالعواقب. وممّا يستخدمه كثير من المتلبّسين بلبوس المشيخيّة سيفا بتّارا دعوى الإجماع. وليست الحقيقة إلاّ وسطا معتدلا متوازنا بين طرفي غلوّ. 
درست قبل ثلاثة عقود سفرا معتمدا في الفقه هو (الفقه على المذاهب الأربعة للمرحوم عبد الرّحمان الجزيريّ) فوجدت فيه أزيد من عشرة مواضع تخالف النّصّ، وكلّها في موضوع المرأة. ذلك أنّ التديّن ـ وخاصّة الجماعيّ منه ـ لا يتحرّر خالصا لأصوله حتّى يعبر مسافة التّراث التي تفصله عن تلك الأصول بأمن وسلام، وذلك هو معنى الأصولية الصّحيحة. 
الزّمان عندما لا يورده الباحث في إعتباره كفيل بطمس جوانب مضيئة مشرقة في الدّين وإحلال جوانب سوداء محلّها. ولذلك فرضت الشّريعة نفسها الإجتهاد وأثابت عليه حتّى المخطئ ما كان في محلّه وكان هو من أهله. الذي يتراءى لي أنّ العرب سرعان ما هزّهم الحنين إلى بعض الجاهليّة العربيّة وخاصّة فيما يتعلّق بوضع المرأة. ذلك أنّ الإسلام الحقّ لم يعمّر عدا ثلاثة عقود بعد موته ﷺ، ثمّ سرعان ما أحدث الإنقلاب الأمويّ إرتدادات جانبيّة. فوجد بعض العرب ـ ممّن لم يطعم بحقّ رسالة الإسلام سيما في بعدها التّحريريّ ـ الفرصة مواتية للثّار من دين حرمهم من إستعباد المرأة. ذلك هو تحليلي لما جرى في تراثنا من تأثّره بالمنزع العربيّ. 
من الشّروط التي تجعل المرء ينظر برشد التّمييز الشّديد ـ وليس التّفريق ـ بين الشّريعة وبين الفقه، بل بين الفقه في إزدهاره الإجتهاديّ وبين الفقه في نكوصه التّقليديّ. ترى بأيّ حقّ أقرّ الفقه ـ بل أحد أساطينه الكبار أي الإمام الجوينيّ في غياثه الأشهر ـ شرعيّة الشّوكة القاهرة في الحكم والدّولة؟ هل كان الفقهاء يجهلون الحقّ؟ لا. إنّما أجروا معادلة بين وحدة الأمّة وهي ـ في نظرهم ـ مهدّدة وبين حقّ النّاس في إختيار دولتها، فغلّبوا الأولى على الثّانية. ذلك مثال صحيح بالغ يجعلنا ندرك أنّ للواقع سطواته وبطشاته، وأنّ كثيرا من الفقه الإجتماعيّ هي تقديرات ومصالحات وتوافقات وليست هي علما فحسب. ولا مناص من تركيب معادلة : العلم الشّرعيّ والموقف الشّرعيّ. ولذلك إتّجه الفقه كلّه تقريبا إلى منع المرأة من تحمّل المسؤوليّة الأولى في الدّولة بناء على حديث صحيح أخرجه البخاريّ عن أبي بكرة «لن يفلح قوم ولّوا أمرهم إمرأة». 
المشكلة الأولى أنّ الذين نقلوا هذا الإجتهاد فرحين مسرورين به كانوا يعانون من حول فكريّ جعلهم لا يميّزون بين تنزيل ذلك الحكم ـ لو صحّ ـ على منصب الخلافة العامّة التي إندثرت جزئيا عام الجماعة ثمّ كلّيا عام 1923 وبين تنزيله على الدّولة القطريّة الوطنيّة التّابعة الحديثة. القياس هنا هو قياس مع فارق كبير. حتّى المسؤوليّات التي هي دون ذلك (قضائيّا وغير ذلك) لم تكن كلمة الفقه فيها صريحة، لا في الإباحة ولا في المنع. هناك من لجأ إلى التّفصيل بين قضاء وقضاء، ومسؤولية وأخرى. وهناك من أباح ذلك مطلقا (وأشهرهم الطّبريّ). ممّا جعل القضيّة غير مسلّمة  ـ من بعد إعتبار التّأثّر بالثّارات العربيّة كما أنف ذكره ـ هو أنّ علم رعاية مقامات التّشريع وأحوال المشرّع لم يكن من بعد الصّحابة الكرام وما تلاهم من الأجيال الثّلاثة الأولى مرعيا حقّ الرّعاية. وهو علم ظلّ في ظلّ خلود الفقه إلى التّقليد ونبذ الإجتهاد متواريا حتّى نبش فيه بعضهم قليلا (الجوينيّ نفسه والغزّاليّ والعزّ وإبن تيمية وإبن القيّم) ولكنّ الإمام القرافيّ ضرب له سفرا كاملا سمّي اختصارا بفروق القرافيّ. ثمّ جاء الشّاطبيّ فقام بثورة في هذا العالم مبتدئا بتحرير المقاصد من الأصول أوّلا. ثمّ تمحّض لتحرير كلمات صحيحات موجعات في ذلك العلم التّحرير إبن عاشور في مقاصده. ثمّ آل هذا العلم من جديد إلى الرّكود، إلاّ من محاولات جريئة، ولكنّها جزئيّة (في الحقل السّياسيّ فحسب) من الدّكتور سعد الدّين العثمانيّ. 
الذي يهمّنا هنا هو أنّ هذا الحديث المعتمد لمنع المرأة من تولّي المسؤوليّة الأولى ـ دعنا الآن في الدّولة. وليس في الخلافة التي بيننا وبينها ما لا يعلمه إلاّ اللّه ـ هو حديث بمناسبة وخاضع لمقام غير مقام التّبليغ. ثمّ إنّ متنه نفسه ـ وهو صحيح سندا ـ لا شيء فيه يوحي بحكم حرمة أو منع، إذ هو إخباريّ. وليس معنى ذلك عدم تمحّض الإخبار إلى إنشاء الحكم. كانت مناسبة الحديث هلاك كسرى ملك الفرس وتولّي إبنته الحكم. القراءة البريئة للحديث ـ غير المتأثّرة بالثّأر العربيّ من الإسلام الذي حرمهم سلطانهم على المرأة ـ لا تزوّدك بأكثر من أنّه ﷺ يخبر النّاس بزوال ملك كسرى وهو ما وقع بعد ذلك بسنوات في خلافة الفاروق عليه الرّضوان. وإنّما جاءت صياغته بذلك التّحرير. الحديث بكلمة واحدة هو نبوءة من محمّد ﷺ وهو يوحى إليه. لا علاقة له بإنشاء حكم شرعيّ عمليّ : هل يباح للمرأة تولّي المقام الأوّل في الدّولة. 
الإسلام حريص على تحرير الحكم الشّرعيّ ـ وخاصّة ممّا تعمّ به البلوى كما يقال ـ من شوائب التّعبيرات الظّاهرة أو التّحريرات الغامضة. ليس هذا هو أسلوب الشّريعة. وخاصّة في التّحريم الذي لا مناص له ـ قولا واحدا ـ من نصّ صحيح صريح يجعل مخالفه معرّضا للعذاب وهو غير معذور. وإلاّ سقط ذلك في التّشابه والظنّية والإحتمال. 
ربّما يعجب طالب العلم المبتدئ أو العامّي أنّ هذا الحديث لا يحمل ذلك الحكم الذي قرّ قراره في رؤوس المسلمين قاطبة جمعاء حتّى أضحى إجماعا مسلّطا لا ينكره إلاّ زنديق مثلي. إذا كان العالم المواظب المثابر قد يقع في فخاخ التّأثّر سواء من موروث شرقيّ أو وافد غربيّ فكيف لا يقع في أحابيل ذلك عامّة النّاس، سيما والطّاقم العلميّ الدّعويّ منذ قرون طويلة يدقّ طرقا عجيبا على أنّ المرأة لا يباح لها تولّي مثل هذه الوظائف. لو عدنا إلى الأصل الآصل الذي هو مصدر المصادر والحاكم المتبوع أي القرآن الكريم لوجدنا أنّ اللّه سبحانه يثني بنفسه على ملكة سبإ (بلقيس) في سورة النّمل إذ عالجت كتاب النّبيّ سليمان إليها معالجة شوريّة ديمقراطيّة وجمعت عليه مجلسها الأمنيّ الأعلى. أثنى على فعلها ذاك وهي مشركة تسجد للشّمس؟. طبعا لا يلتقي مثل هذا في رؤوس العامّة : ثناء اللّه على فعل مشركة؟ وأيّ علاقة بين هذا والحديث؟ العلاقة وطيدة. بل هي أصولية عنوانها أنّ القرآن الكريم ـ حتّى في ظاهره ـ حاكم على الحديث مهما صحّ وصرح بسبب أنّ السنّة لا تتعدّى بحال دور التّبيين (تأكيدا لحكم قرآنيّ أو تفصيلا له أو تخصيصا أو تقييدا). وما عدا ذلك فإنّها لا تستقلّ مطلقا بتشريع إبتدائيّ إستئنافيّ جديد. ولولا أنّ الفاروق نفسه إنتدب (الشّفّاء) رئيسة للسّوق المركزيّ لعاصمة الدّولة (المدينة) لغرق فقهنا فيما هو أشدّ إسودادا من هذا. وممّا زاد الطّين بلّة هنا عدم تحرّر كلّ تفاسيرنا تقريبا ـ إلاّ قليلا من المعاصرين وليس من الغابرين ـ من القول الفاحش على اللّه أنّ المرأة ثمنها نصف ثمن الفحل تحكيما لآية الدّين في آخر سورة البقرة. تلك كلمة نابيّة كاذبة يتسوّك بها كلّ لسان مسلم. 
بقيت مسألة لا مناص كذلك من توضيحها : قولي أنّه لا شيء مطلقا في شريعة الإسلام يمنع المرأة من تولّي أيّ وظيفة في الدّولة ـ حتّى في شكلها القديم المعروف بالخلافة ـ من أعلى مسؤوليّة إلى أدناها وفي كلّ الحقول لا يعني أنّ ذلك واجب أو سنّة. لا، ليس هو واجب ولا هو سنّة، ولكنّه مباح كلّ إباحة، وليس في وجهه أيّ مانع من شرع أو عقل. ويظلّ تنزيل ذلك مخوّلا إلى النّاس : فإذا كان لا بدّ من إمرأة تتولّى أيّ وظيفة وكانت هي لها أهل وكانت تلك المرأة نفسها متحرّرة نسبيّا من أعبائها العائليّة الأخرى وكانت متوافقة على تولّي تلك الوظيفة فإنّ الإسلام لا يمنعها من ذلك بسبب أنوثتها.
لا بدّ إذن من التّمييز بين الإباحة الشّرعيّة الإبتدائيّة الصّحيحة الصّريحة وبين الإمكان الفعليّ. الإمكان الفعليّ ينضح نضحا بأنّ عدد اللّواتي يرشّحن لذلك ـ أو يترشّحن له ـ سيكون دوما قليلا. المشكلة ليست في الشّريعة مطلقا. المشكلة في من يتحدثّ بإسم الشّريعة ويطوّعها لأهوائه العربية الثّأريّة. المشكلة في الذي يترك نفسه فريسة لمؤثّرات تراثيّة وعادات وتقاليد وأعراف. المشكلة في تصوّر المسلم أنّ المرأة ناقصة عقل أو دين بما يحول دونها ودون تولّي تلك الوظائف. القول بأنّ المرأة هي ربّة الأسرة وعمادها الأعظم لا يعني أن نمنعها ممّا أحلّ اللّه لها عندما تكون المناسبة مواتية والمصلحة راجحة. المشكلة هي مشكلة علم وفقه ووعي. عندما تزول تلك المشكلة من رؤوسنا تكون معالجاتنا صحيحة. حرمان المرأة من ذلك يحتاج قطعا مقطوعا نصّا صحيحا صريحا ومعمولا به كذلك. وليس هناك شيء من ذلك. عندما يلجأ إلى الإستشهاد بنساء كبيرات قدن أوطانهنّ إلى نجاحات عظمى في أوربا فإنّ ذلك لا يعني اللّجوء إلى الواقع الغربيّ وترك ديننا. ولكن عندما لا نجد في ديننا ما يمنع المرأة من أيّ وظيفة سياسية مهما كانت عظمى وعليا ـ ما وصلت إليها بالتّراضي وليس إغتصابا ـ  فإنّ اللّجوء إلى تجارب الآخرين تظلّ محمدة، وليس هزيمة. الأمثلة الأروبيّة هنا لا تزيد الحكم الشّرعيّ شيئا، ولكنّها تفتح لنا آفاقا واقعيّة تجعلنا أكثر وعيا أنّ المرأة ليست نصف رجل، وأنّ الإسلام الذي حرّرها وحرّرنا جميعا مازال هو المحتكم إليه. المشكلة يا صاحبي هي مشكلة تأبّي مجتمعاتنا على المعالجات العقليّة الدّيمقراطية التّعاقدية، وليست هي مشكلة نقصان إمرأة أو نبوغ فحل.