نقاط على الحروف

بقلم
د.عبدالله التركماني
بعض مظاهر المحنة العربية (2/2)
 حالة المواطنة في العالم العربي 
بالرّغم من الاتساع النّسبي لدائرة الحقوق المدنيّة والسّياسيّة والحرّيات العامّة فإنّ حالة المواطنة والاندماج الاجتماعي في أغلب البلدان العربيّة تتّسم بإعادة إنتاج وترسيخ الأطر والعلاقات التّقليديّة، الطّائفيّة والمذهبيّة والعشائريّة، وما تنطوي عليه من احتمالات حروب أهليّة. فإذا كانت الشّعوب تنتقل، خلال مراحل تطوّرها التّاريخي، من الأسرة إلى العشيرة ثمّ إلى القبيلة ثمّ إلى الوطن والأمّة، فماذا فعلنا كي تتطوّر مجتمعاتنا العربيّة وتتقدّم وتتكامل بدلاً من دفعها للعودة إلى حروب القبائل والطّوائف؟
إنّ أول العقبات التي تتسبّب في تفكّك مجتمعاتنا وغياب المواطن/الفرد عن الفعل في الحياة السّياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة، وعن تهميش دوره، إنّما تعود إلى طبيعة الأنظمة السّياسيّة السّائدة في العالم العربي، إذ ما تزال هذه الأنظمة تضمر نظرة معادية لقيم الحداثة ومقولاتها والتي في رحابها يتكوّن هذا الفرد الحرّ. ممّا أدى إلى انهيار متوالٍ لبنى الدّولة العربيّة لحساب البنى ما قبل الوطنيّة، القبليّة والعشائريّة والطّائفيّة والمذهبيّة، التي بدأت تعمل حثيثاً لغير صالح الانتماء العام، بل لانبعاث الانتماء الجزئي الخاصّ وهيمنته بالتّدريج على مقوّمات الدّولة. 
ويبدو أنّه لم يأتِ على المجتمعات العربيّة ظرف موضوعي أو إنساني يفترض قيام شيء اسمه مؤسّسة الحرّية، باعتبارها هي أمّ المؤسّسات المدنيّة والسّياسيّة الأخرى كلّها، طبقاً لما ذكره الفقيد «مطاع الصفدي». فالعبور من مجتمع السّديم الرّعوي، شبه الابتدائي، إلى المجتمع القائم على تقسيم العمل لم يسجل فرصة لرؤية الحرّية وهي تكلِّلُ شخصيّة الفرد قبل الجماعة، وتدعو للإنسان قبل الحزب، وتبحث عن تجلياتها في أبسط تفاصيل الحياة اليوميّة للجماعة قبل أن تأسرها الشّعارات الشّموليّة. وهكذا، فإنّ المجتمع المهزوم في آماله الكبرى يتحوّل إلى بؤر من الأنانيّات المغلقة ضدّ بعضها، متصارعة على المصالح المشروعة وغير المشروعة.
ويبدو أيضاً أنّ المشكلة الكبرى هي حالة دولة المدينة التي يعيشها العالم العربي، وما نتج عنها من ترييف المدن، حين لم تحاول الدّولة العربيّة المعاصرة الاهتمام بأطرافها. وهذا بالطّبع أثَّر على مسألة المواطنة، وبتنا اليوم أمام واقع عام تسود فيه سلوكيّات الاستبداد وقيم الرّأي الواحد، واقع لم تعد فيه الحقوق والمكتسبات والحرّيات والضّمانات مكاسب مستقرّة ودائمة، بل أصبح يُنظر إليها باعتبارها منحة مؤقّتة يستطيع الحاكم سحبها متى شاء. 
وفي المقابل هناك انتكاسة في المجتمع المدني وحركات التّغيير الاجتماعي تتجلّى في حرمان نشطاء الشّأن العام من حقّهم في التّظاهر والتّجمّع السّلمي، وفي التّدخّلات الأمنيّة والإداريّة الفجّة في انتخابات النّقابات العمّاليّة والاتحادات المهنيّة، ناهيك عن التّدخّل المكشوف في الانتخابات العامّة، هذا فضلاً على الانتهاكات المتكرّرة للدّستور والقانون.
ونتيجة ذلك لا يحتاج المرء إلى كثير من التّدقيق وإمعان النّظر كي يلاحظ بأنّ البنى ما قبل الوطنيّة تنازع الدّولة ومؤسّسات المجتمع المدني أدوارهما الشّرعيّة التي يُفترض أن يؤدّياها، فمثلاً ما يزال الفرد في كثير من الحالات يستجير بعشيرته لحمايته من عسف ما من جانب سلطة الدّولة، عوضاً عن لجوئه إلى مؤسّسة القضاء الرّسمي للذّود عنه، وما يزال يقصد نائب العشيرة أو الطّائفة كي يساعده على تأمين وظيفة ما، بدلاً من أن يتوجّه إلى نقابة  مهنيّة أو رابطة عمّاليّة متخصّصة، وما يزال يستعين بدعم عشيرته أو طائفته إذا ما رغب في ترشيح  نفسه  للانتخابات البرلمانيّة.
وما هذه الحالة إلّا نتيجة لممارسات الدّولة التّسلّطيّة التي تحتكر السّلطة والثّروة والقوّة و«الحكمة» وصنع القرار، وبالتّالي نفي مشاركة الشّعب وإرادته واختياراته، وترجيح أهل الثّقة على أهل الخبرة وتفضيل المؤيّدين والمنافقين والمصفّقين على المفكّرين والمستقلّين بالرّأي والموقف.
وعليه فإنّ السّؤال الذي طرحه الفقيد «ميشيل كيلو» محقّاً وهو: لماذا تخلو حياتنا من حكم القانون، والمواطنة، وسيادة الشّعب، والمشاركة، وحقوق الإنسان، والمؤسّسيّة، والدّولة الحديثة، والمجتمع المدني، والعدالة، والمساواة... الخ؟، ولماذا لا تعرف مجتمعاتنا درجة من التّرابط والانصهار تحصّنها في وجه تحديات خارجيّة وداخليّة متنوّعة، وتبدو وكأنّها على وشك الانفراط، بينما تكتسب الدّولة طابعاً سلطويّاً يجعلها برانيّة في نظر شعبها، كأنّها لا تنتمي إليه بل إلى نمط الدّول القهريّة، الذي كرَّسه الاحتلال الأجنبي؟
 وبغض النّظر عن اختلاف النّظرة إلى أسباب التّأخّر الاجتماعي العربي، يجمع أغلب الباحثين على حقيقة مؤلمة هي أنّ مجتمعاتنا العربيّة ليست حديثة، وإنّما أعادت إنتاج تأخّرها في أشكال عصريّة أبقتها على هامش تقدّم العالم. هنا أيضاً تكمن مصيبتنا في أنّنا لا نعي تأخّرنا، فإن وعيناه اعتبرناه جزءاً من هويّتنا، يجب التّمسّك به والدّفاع عنه ضدّ حداثة تريد تغريبنا عن تاريخنا ومحدّدات وجودنا، أي هويتنا. ولا حاجة إلى القول: إنّ هذا النّمط من الوعي هو تعبير فاضح عن انعدام الوعي المطابق لحاجات تقدّمنا، وأنّه يتكفّل بإبقاء الكتلة الكبرى من المواطنين العرب خارج العصر وبمنأى عن مصالحها، ويدخل إلى رأسها مفاهيم مغلوطة لمعنى الوطن، والوطنيّة، والهويّة، والدّين، والحرّية، والعدالة، والمساواة، والإنسان، فهو وعي التّأخّر الذي يضمن إدامته.
إنّ أبرز ما يميّز التّاريخ الدّاخلي لمجتمعاتنا في الخمسين سنة الماضية هو ظاهرة الاحتراب الدّاخلي، إن بين مكوّنات هذه المجتمعات، أو حرب السّلطات على مجتمعاتها وشعوبها اعتقالاً ونفياً أو قتلاً، أو تداخل كلتا الحربين معاً. والأدهى من هذه الحروب وطابعها التّدميري النّظر إليها من قبل أصحابها على أنّها استمرار للسّياسة بوسائل أخرى.
ولا شكّ أنّ الأصوليّة الدّينيّة المتطرّفة تلعب دوراً سلبيّاً، من خلال الوضع العام في المنطقة العربيّة، إذ نحن أمام صحوة انفعاليّة في الرّبط بين الدّين والدّولة. والحديث الذي يتردّد تبدو مفرداته في كلمات من نوع المسلمين والمسيحيين، والشّيعة والسّنة، العرب والأكراد، أي أنّنا أصبحنا أمام حالة متوتّرة ينقّب فيها الجميع عن جذور الهويّات الفرعيّة ويبحثون في الأصول الدّينيّة والعرقيّة، وهو أمر يخلط الدّولة المدنيّة المعاصرة بالدّولة الدّينيّة التي يفترض أنّها رحلت منذ قرون.
وهكذا لا تبدو المجتمعات العربيّة، التي لم تقم بثورتها الدّيمقراطيّة بعد، سائرة في طريق يتيح تكويناً حراً للمواطن، بل أنّ الأخطر هو أن يستمر زحف الانتماءات الفرعيّة الخاصّة على كلّ ما هو عام ومشترك، لاسيما وأنّ المشهد العربي يقدّم كل يوم دليلاً على تراجع الدّولة لصالح الجماعات الفرعيّة التي يُفترض أنّه قد جرى تجاوزها منذ عقود.
ولعلَّ العودة إلى مفاهيم « الوعي المطابق» للمفكر السّوري الفقيد ياسين الحافظ يساعدنا في الاستعادة العقلانيّة النقديّة، فالمستوى التّاريخي في إنتاج وعي مطابق للواقع يُومِئُ إلى أنّ الواقع العربي لم يحقّق الثّورة الدّيمقراطيّة، فهي هدف لابدَّ منه لتحقيق الاندماج القومي في وجه التّكسّر الاجتماعي.. فالثّورة الدّيمقراطيّة ضرورة داخليّة تستدعيها «المواطنيّة» لتجاوز«الرّعوية» و«الأموّية» لتجاوز «المللية»، حيث تحديث السّياسة بالدّيمقراطيّة، وتحديث الثّقافة بالعلمنة، من أجل صياغة وعي وطني حديث قادر على القبول بالتّعدّد والتنوُّع والمغايرة.
إنّ العروبة ليست متحداً قوميّاً فقط، وإن كانت تطلبه. إنّها هويّة مواطنين يعتبرون المذاهب والطّوائف والقبائل والعائلات والانتماءات الإقليميّة والجهويّة انتماءات فرعيّة، ويتّجهون إلى مشروع الدّولة الوطنيّة الجامعة، التي تضمن المواطنة التي أساسها إزالة كلّ القيود أمام المساواة في الحقوق والواجبات، وترتكز إلى حرّية المشاركة والاختلاف في التّوجّهات ولديها فاعليّة في رسم السّياسات والمحاسبة، ولديها مرجعيّة في القانون والقضاء، ولا تحتاج إلى عصبيّة تحميها أو قوّة فئويّة تؤمن حضورها. 
أخطر الأوهام التي يجب أن نتخلّص منها 
بعد النّكبة العربيّة المتجدّدة، في أغلب الأقطار العربيّة، والنّتائج المخزية للتّنمية الإنسانيّة على مدى العقود الماضية بات واضحاً وضروريّاً حاجتنا العربيّة إلى مواجهة الذّات بمصداقيّة وعقلانيّة،‏ من أجل تجاوز السّلبيّات التي تنتشر في بنياننا السّياسي والاقتصادي والاجتماعي‏ والثّقافي،‏ والعمل بكلّ جهد مخلص لإصلاحها بما يحقّق الصّالح العربي العام‏،‏ ‏وحتّى يمكن التّعاطي المجدي مع المخاطر التي نتعرض لها اليوم‏‏ وما قد ينتج عنها من تداعيات. فطوال العقود الماضية قاد التّناقض بين الحاجة إلى استراتيجيّة عربيّة للقوّة والعجز عن وضعها موضع التّنفيذ إلى العجز عن بلورة أيّة استراتيجيّة، فمنذ خمسينيّات القرن العشرين نستعيد الخطابات نفسها وأنواع السّلوك نفسها، ونعجز عن بلورة وعي حقيقي، أو عن القيام بنقد ذاتي يساعد على تطوير بذور وعي نقدي للواقع ومتطلبات تقدمه.
فثمة ثقافة بكاملها تحتاج إلى المساءلة، بمرجعيّاتها ومؤسّساتها ونماذجها ورموزها وإعلامها وخبرائها، هي ثقافة المكابرة وتبجيل الذّات والثّبات على الخطأ والتّستر على الآفات والهروب من المحاسبة، فضلاً عن القفز فوق الوقائع والخوف من المتغيّرات والتّعاطي مع المستجدّات بالقديم المستهلك، بل بالأقدم أو الأسوأ من المفاهيم والتّقاليد أو الوسائل والأدوات والمؤسّسات. 
إنّنا نتهرّب من تحمّل المسؤوليّة وإلقائها على الغير، ونتحدّث عن المؤامرات التي تُدَبَّرُ من الخارج لتغطية العجز عن التّدبير في الدّاخل، ولا نقرُّ بالهزيمة لكي نتعلّم من الأخطاء ونستفيد من التّجارب والشّواهد. هذا دأبنا في مساعينا العربيّة: نتستر على الآفات التي هي أصل المشكلة، ونرجئ فتح الملفّات التي تحتاج إلى الدّرس والنّقد، ونعمل على تحصين الأنظمة التي تنتج الهدر والفقر والقهر والعبوديّة والفساد.
إنّ القضايا التي ينبغي أن تكون محور تفكيرنا اليوم كثيرة جدّاً وتكاد تحتلّ جميعها مرتبة الأولويّة، وهنا مصدر الصّعوبة التي لا غنى لنا عن أن نواجهها بشجاعة. ونكتفي، هنا، من هذه القضايا بالعناوين الآتية، التي نقدّمها في صيغة تساؤلات: ما هي الدّروس التي ينبغي استخلاصها من مآلات ربيع الثّورات العربيّة بموجتيه في سنتي 2011 و2019، بدءاً من مراجعة نقديّة للماضي، وصولاً إلى رسم خطّة للحاضر والمستقبل؟ هل تتوافر شروط حقيقيّة لصياغة مشاريع ديمقراطيّة للتّغيير، تحول دون احتمال قيام مشاريع ظلاميّة أو حروب أهليّة تغرق بلداننا في المزيد من التّأخّر والمزيد من الأزمات؟ مَن هي القوى المؤهّلة لصياغة تلك المشاريع الدّيمقراطيّة، وما هي أدواتها وما هي قدراتها على جعل تلك المشاريع قادرة على جذب الجماهير إليها، بعد كلّ الخيبات التي أُصيبت بها مشاريع التّغيير في الحقبة الماضية؟ ما فائدة الشّعارات المضخمة إذا كنّا لا نستطيع حمايتها؟ وهل تستطيع الدّول التي لا تمارس الإصلاح والدّيمقراطيّة بأن تبقى على حالها دون إصلاحات وتغييرات وتجديد؟ وهل تقبل المجتمعات العربيّة بأن تُحكم بشعارات بينما تُحرم من الخبز والحقوق وأسس الحرّية والاحترام؟
للأسف في مراحل انعدام الوزن يصبح التّعلق بأشباه الحلول وأنصافها هدفاً في حدّ ذاته دون التقدّم أبعد من ذلك ولو بخطوات قليلة، في مثل هذه الحالات تبدو الأوهام وكأنّها حقائق أو حلولاً دائمة يزيدها سخونة الوضع الملتهب والتّناول العشوائي من قبل وسائل الإعلام دفعاً وتثبيتاً. وطالما أنّ الوضع العربي يراوح مكانه بالصّورة التي نرى فإنّ هذه الأوهام ستظلّ في دائرة الوعي العربي وستعيد إنتاج نفسها المرّة تلو الأخرى. ومن هذه الأوهام على سبيل المثال لا الحصر: استخدام الأيديولوجيا، بما فيها الدّين، كسلاح، والاعتقاد بأنّ الحرب التي يشنّها الغرب في مناطق تهديد مصالحه حرباً دينيّة. إنّ المستهدف الحقيقي من قبل الولايات المتحدة الأمريكيّة والغرب بصفة عامّة هو ذلك الذي يتعرّض لمصالحهما بالخطر والتّهديد أياً كان نوعه أو جنسه أو دينه.
أما الوهم الثّاني الذي يمارسه الكثير أو يلجأ إليه، عند تأزّم الأمور، هو هجاء الأنظمة والحكومات وربّما التعرُّض للحكام كأشخاص، وهو وهم لأنّه لا يغيّر من الحال شيئاً لأنّ جميع أنظمتنا على مرّ تاريخها ظلت عاجزة، مع الاختلاف في النّسبة والنّوايا، فالقضية ليست في إبدال النّظام والأشخاص بقدر ما هي توفير الضّمانات للانتقال من الاستبداد إلى الديمقراطيّة. 
‏إنّ فشل البرامج والقيادات يطرح على بساط البحث قضيّة التّحرر الوطني من الأساس، بحيث لا بدّ لها من أن تأخذ بعين الاعتبار الحقائق التّالية: 
(1) الاتحاد العربي القائم على أساس المصلحة هو اليوم ضرورة أكثر من أي وقت مضى، غير أنّ السّبيل إلى تحقيقه يتطلّب، بالدّرجة الأولى، صيانة الوحدة الوطنيّة في كلّ بلد عربي، فلم تعد سايكس - بيكو تمثّل الخطر المحدق، بل باتت الحروب الأهليّة هي التي تهدّد العالم العربي. 
(2) لم يعد الخلط جائزاً بين العروبة والإسلام. فالعروبة، بما هي رباط تاريخي يجمع شتات شعوب منتشرة من المحيط إلى الخليج، ضرورة لمواجهة المخاطر الخارجيّة، والإسلام السّياسي المعتدل والعامل من أجل ترسيخ معايير بناء الدّولة الوطنيّة الحديثة، المناهض للاستعمار والمكافح في سبيل التّحرّر والتّقدّم والعدالة الاجتماعيّة ضرورة هو أيضاً. لكنّ العروبة وهذا الإسلام السّياسي شيء، والاستنفار الدّيني شيء آخر، والرّأسماليّة الاستعماريّة لا تميّز بين إسلام ومسيحيّة، والمستهدفون من مخاطرها شعوب تنتمي إلى كلّ الأديان والطّوائف والمذاهب والإثنيّات. 
إذن لا مفرَّ من تفكيك مقولات الخطاب السّياسي العربي من أجل إجراء تغيير جذري يقلب الأسس الفلسفيّة التي يقوم عليها، تغيير تكون نتيجته التّحوُّل إلى خطاب ديمقراطي مع الذّات ومع الآخر ومع المجتمع ومع الواقع ومع التّاريخ: ديمقراطي مع الذّات بصفتها مالكة قرارها ومصيرها ورهاناتها وحقّها في التّحدي والرّفض والمساءلة، وديمقراطي مع الآخر باعترافه به كآخر وكمختلف، لا من باب التّسامح والتّعايش وإنّما من باب الإيمان بالتّعدديّة في التّعاطي المجدي مع الأسئلة والتّحديات التي يطرحها الواقع بكلّ ما فيه من غنى وتعقيد. وديمقراطي مع المجتمع في تعامله معه باعتباره الصّورة الحيّة لنضالات الأفراد والجماعات وتوقها ومخاوفها ورغباتها ودأبها اليومي، وليس كحقل تجارب للأيديولوجيا وأوهامها ومشاريعها. وديمقراطي مع التّاريخ في النّظر إليه بصفته حركة وتحوُّلاً وصراعاً، وليس باعتباره مرآة لأفكار ومبادئ وأحكام الخطاب السّياسي وبرهاناً على صحّتها وتكراراً أبدياً لها. 
الأجدى لنا أن نعمل على أنفسنا لكي نتغيّر، بتفكيك جهلنا المضاعف بطبقاته السّميكة وغرفه المعتمة وصناديقه السّوداء. ونحن لا نفعل ذلك لكي نرضخ للغرب، بل لكي نحسن التّعامل معه، على الأقل بطريقة لا تعود علينا بالأضرار والخسائر، سواء بفتح الحوارات وإجراء المباحثات، أو بتغيير المعادلات وإنتاج التسويات. وذلك يتوقّف على ما نملكه ونصنعه ونقدر على إنجازه، أي على ما نجترحه من الإمكانات التي تتّسع معها الخيارات وتتغيّر الوضعيّات. فالواقع يتغيّر بخلق وقائع جديدة تتّسع معها رقعة الإمكان، بقدر ما تتغيّر طرق تعاملنا مع ذواتنا ومع الغير والعالم.