مواضيع حارقة

بقلم
حسن الطرابلسي
أوروبا: قلعة محاطة بالأسوار والأسلاك الشائكة
 بعد جدل طويل وصلت دول الاتحاد الأوروبي إلى تشديد قانون اللّجوء. وأضافت بذلك حاجزا قانونيّا يحول دون وصول المهاجرين غير الشّرعيّين إلى أوروبا. ووافقت على إنشاء مراكز إيواء على الحدود الخارجيّة بالإضافة إلى بناء أسوار عالية وحواجز من الأسلاك الشّائكة المحصّنة. وبهذه الإجراءات تحوّلت القارّة العجوز إلى قلعة محكمة الإغلاق. فقوانين اللّجوء المشدّدة ومراكز الإيواء إلى جانب الأسوار الطّبيعيّة تزايدت منذ 2015 بشكل لافت للنظر. إنّ انتشار سياسة الأسوار العالية يذكّرني بالإمبراطور الرّوماني أدريان الذي أسّس لهذه السّياسة عند بنائه لسوره الكبير.
ما هي حقيقة سور هادريان (76ـ138 م)؟
أصبح هادريان قيصرا لروما بداية من سنة 117 م إلى سنة 138م وبعد توليه الحكم تخلّى عن سياسة التّوسّع في الشّرق وحرص على تأمين حدود الإمبراطوريّة الرّومانيّة. ولذلك بني جدارا في شمال إنجلترا بين سنتي 122-128 م عرف تاريخيّا باسمه. واستطاع بذلك بناء التّحصينات الحدوديّة لحماية مقاطعة «بريطانيا» الرّومانيّة في شمال إنجلترا. ويربط السّور بين بحر الشّمال والبحر الأيرلندي. وبلغ طوله 118 كم، وجهّز بـ 320 برجًا، و17 قلعة رومانية، و80 بوابة، ووصل ارتفاعه إلى 4.50 مترًا وعرضه إلى 3 أمتار. وكان الهدف من هذا السّور حماية الحدود الشّماليّة للإمبراطوريّة الرّومانيّة من القبائل التي كانت تسكن إسكتلندا في الشّمال وكذلك لتثبيت الحدود الرّومانيّة. وبهذه الطّريقة ضمن الرّومان حماية الحدود، فانتهت الغارات التي تأتي من الشّمال وأصبح لا يسمح بالدّخول إلاّ عبر البوّابات المحدّدة للتّجار والمسافرين مجرّدين من أسلحتهم وتحت مراقبة الجيش الرّوماني.
وما أشبه اللّيلة بالبارحة، فلقد تجدّد في السّنوات الأخيرة بناء الأسوار والأسلاك الشّائكة على طول الحدود الخارجيّة للإتحاد الأوروبي.
الأسوار القانونية 
لئن كان سور هادريان، سورا مادّيا، فإنّ الأسوار التي كبّلت أوروبا تجاوزت هذا البعد المادّي إلى بعد آخر لا يقلّ أهميّة، وهي الأسوار القانونيّة، وأشهرها قانون اللّجوء. فالمتابع لهذا القانون يكتشف أنّه يتّجه إلى التّضييق والمحاصرة ويفقد يوما بعد يوم بريق الأنوار والإنفتاح الذي وضع من أجله. فقانون اللّجوء الذي تأسّس في الإتحاد الأوروبي على أرضيّة مبادئ حقوق الإنسان وثَبَّت مبدأ التّضامن الأوروبي البيني، ظلّ يفقد تدريجيّا بعده الإنساني المنفتح ليتّجه نحو التّشدّد في صياغاته والتّضييق في تطبيقاته. فاتفاقية دبلن Dublin System/Dublin-Konvention تمّ التّوصّل إليها في يونيو/جوان 1990، ولكنّها لم تدخل حيّز التّنفيذ إلاّ سنة 1997، وتمّ تعديلها في مناسبتين الأولى سنة 2003، والثانية سنة 2013، فيما عرف بلائحة دبلن III. وقد تضمّنت تلك اللائحة  فقرة مهمّة مفادها أنّ أوّل دولة عضو يصلها طالب اللّجوء ويتم فيها تخزين بصمات الأصابع أو تقديم طلب اللّجوء تكون هي المسؤولة عن طلب اللّجوء. وهكذا فإنّ إجراءات دَبلن نصّت على تحديد دولة واحدة بالأراضي الأوروبيّة مسؤولة على طلب اللّجوء للحدّ من الهجرة الثّانويّة داخل الإتحاد الأوروبي والتحكّم فيها. كما تم في مرحلة لاحقة الاتفاق على تأمين الحدود الخارجيّة من الهجرة غير الشّرعيّة والإتجار بالبشر ومنع تسلّل الإرهابيّين إلى أوروبا بتأسيس منظمة فرونتيكس Frontex (الوكالة الأوروبيّة لمراقبة حدود الاتحاد الأوروبي) سنة 2004. غير أنّ تدفّق اللاّجئين سنة 2015 وعجز اليونان عن الإلتزام بإجراءات دبلن، ثمّ وصول أفواج جديدة من اللاّجئين غير الشّرعيّين إلى إيطاليا في السّنتين الأخيرتين ومطالبتها لبلدان الإتحاد بالتّضامن معها لمنع وصول هؤلاء اللاّجئين إلى كثير من الدّول الأوروربيّة، وأساسا إلى ألمانيا باعتبارها وجهة أساسيّة للمهاجرين، جعل مطلب تعديل إجراءات نظام دَبلن يتزايد يوما بعد يوم.
وبعد جدل طويل توصّل وزراء داخليّة الإتحاد الأوروبي يوم 8 حزيران/جوان 2023 إلى الإتفاق على تشديد قوانين اللّجوء، وعلى إنشاء مراكز على الحدود الخارجيّة للاتحاد يتمّ فيها دراسة ملفات اللّجوء وعلى تسريع ذلك، كما فرضوا نوعا من التّضامن الأوروبي على الدّول التي ترفض استقبال اللاّجئين. وبناء عليه فإنّ المهاجر الذي يأتي من دولة تصنّف على أنّها آمنة، سيتمّ مستقبلا نقله مباشرة إلى مراكز ايواء على الحدود الخارجيّة. وهذه المراكز «أشبه بمراكز الإعتقال الجماعي» حسب وصف جمعيّات مناصرة لللاّجئين. وهناك يتمّ التّحقّق في غضون اثني عشر (12) أسبوعًا ما إذا كان لدى مقدّم الطّلب فرصة للّجوء. إذا لم يكن كذلك، يتمّ ترحيله على الفور.  وقد وصفت منظمة «برو آزيل» PRO ASYL هذه القرارات بأنّها «صفقة تفويت في حقوق الإنسان» في قراءة صدرت على صفحتها يوم 9 جوان 2023(1). ورغم أنّ كلّ هذه القرارات لا تزال تحتاج إلى مصادقة البرلمان الأوروبي إلاّ أنّ العديد من المتابعين يعتبرون أنّه لن يحدث على الأرجح تعديل يذكر فيها، غير نقطة استثناء العائلات والقصر كما تطالب الحكومة الألمانيّة.
مراكز الإستقبال الحدوديّة: الإختلاف يبدأ من التّسمية
لئن تحدّث المسؤولون الحكوميّون وممثلو الإتحاد الأوروبي على «مراكز استقبال اللاّجئين على حدود الاتحاد الأوروبي» فإنّ معارضيهم من الأحزاب والمنظّمات وجمعيّات حقوق الإنسان والمهاجرين يصفونها بأنّها «مراكز اعتقال اللاّجئين» وليس استقبالهم. وتنتشر هذه المراكز على الحدود البريّة أساسا. وهكذا تصبح فرص المهاجرين ضئيلة، على الأقل إحصائيًّا، في الحصول على اللّجوء. والهدف من ذلك هو الحيلولة دون دخولهم أراضي الاتحاد الأوروبي. فتخضع طلبات لجوئهم لفحص سريع من أجل تسهيل عودتهم إلى بلدهم الأصلي أو إلى بلد العبور. 
وأغلب التّقارير التي اطلعت عليها، سواء كتبها صحفيّون أو منظّمات لحقوق الإنسان أو حقوق اللاّجئيين، تجمع على أنّ هذه المراكز، سواء منها الجاهزة أو التي هي بصدد البناء، خاصّة في اليونان، تخلو من كلّ ما يحفظ كرامة الإنسان. ولكن لو تمّ بناء هذه المراكز «وفقًا للقانون السّاري، الذي يتضمّن بالفعل معايير استقبال إلزاميّة، لا يمكن أن تصل الأمور إلى حالات مشابهة للحريق الذي اندلع سنة 2020 في معسكر المأساة اليوناني موريا في جزيرة ليسبوس. إلاّ أنّ الظّروف الكارثيّة كانت مقصودة سياسيًّا للتّرهيب وزرع الخوف كما تقول منظمة «برو آزيل»، وتضيف في تقريرها الذي أشرنا إليه سابقا أنّ الوضع لن يتغيّر «لأنّ ضمان ظروف إنسانيّة لائقة على الحدود الخارجيّة لن يكون في مصلحة دول الحدود الخارجيّة».
الأسوار العالية والأسلاك الشّائكة
لم يكن أحد يتوقّع أنّه في الزّمن الذي تفتح فيه الحدود بين الدّول الأوروبيّة لتجعل الإتحاد الأوروبي نموذج الإنفتاح أن نشهد انتكاسة كما نراها اليوم. فلقد كان تدفق اللاّجئين بأعداد كبيرة سنة 2015 بمثابة الزّلزال الذي نقض كلّ ما رفعته القارّة العجوز من شعارات برّاقة. ولذلك فإنّنا اليوم نرى أسوارا طبيعيّة وبشريّة تنتشر على طول الحدود الخارجيّة الأوروبيّة (2)، وأصبح مشهد الأسوار العالية والأسلاك الشّائكة مشهدا شبه عادي. 
وهكذا لم يعد الحديث عن هذه القضيّة كمسألة تاريخيّة نبحث عنها في المعاجم التّاريخيّة، مثلما هو الحال مع صور هادريان أو صور الصّين العظيم، وإنّما أصبحنا نقرأها في الصّحف اليوميّة ونتداول صورها في مختلف وسائط التّواصل الأجتماعي. ورغم أنّ هذه الأسوار والأسلاك الشّائكة مكلّفة مادّيا وغير مجدية عمليّا في أغلب الأحيان، إلاّ أنّ الواقع يثبت أنّها تتزايد. وقد وصلنا إلى درجة تراجع فيها بعض سياسيو الإتحاد الأوروبي، عن مواقفهم الرّافضة لهذه السّياسة إلى التّصريح بأنّها ممكنة، بل وأصبح الحديث اليوم عن أنّ المفوضيّة الأوروبيّة يمكن أن تتحمّل قسطا من تكاليفها. 
وتقع معظم هذه الأسوار على الحدود الخارجيّة للاتحاد الأوروبي: في دول البلطيق، في شرق أوروبا ووسطها وجنوب شرق أوروبا. ويتجاوز ارتفاع هذه الحواجز المتر الواحد وهي معزّزة بالأسلاك الشّائكة وبتكنولوجيا المراقبة الحديثة والقوارب السّريعة والمروحيّات والطّائرات بدون طيار والسّفن الحربيّة. كما يغلق الاتحاد الأوروبي حدوده الخارجيّة عبر وكالة حماية الحدود فرونتكس. ولضمان فاعليتها يتمّ الإعتماد بشكل متزايد على الجيش. ولتبرير ذلك، يُقال أنّ الأمر يتعلّق بمكافحة مهرّبي البشر. 
وهكذا تحوّلت أوروبا إلى قارة مُسيّجة بحدود محصنة وأسوار عالية، ومحكمة الإغلاق بقوانين تتعارض مع حقوق الإنسان، تجاوزت في قسوتها سور هادريان الشّهير. فرغم ما في سور هادريان من قسوة إلاّ أنّه كان به ثمانون بوّابة، تسمح للحركة التّجارية والبشريّة بشكل معقول من السّيولة والفاعليّة.
الهوامش
(1) Ausverkauf der Menschenrechte: Deutschland stimmt für Aushebelung des Flüchtlingsschutzes; in:1
 https://www.proasyl.de/news/ausverkauf-der-menschenrechte-deutschland-stimmt-fuer-aushebelung-des-fluechtlingsschutzes
  A(2) Grenzzäune waren in Europa lange tabu – jetzt wachsen sie überall in die Höhe; in:1
 https://www.nzz.ch/international/wo-und-wie-sich-europa-an-den-grenzen-mit-zaeunen-abschottet-ld.1655941