وبعد

بقلم
عبد الله البوعلاوي
نحو قراءة تدبرية لفقه السنن الكونية من خلال القرآن الكريم دعوة القرآن الكريم لفقه السنن الكونية (2)
 إنّ الحديث عن السّنن الكونيّة في القرآن الكريم دعوة إلى استقراء مختلف السّنن وأنواعها، سواء تعلّق الأمر بسنن التّاريخ أو السّنن الاجتماعيّة أو التّربويّة، لأنّ القرآن الكريم يؤسّس لمنهجيّة معرفيّة تجمع بين القيم التّعبديّة والقيم الحياتيّة، وكلاهما من أمر اللّه تعالى في خلقه.
إنّ حاجة الإنسان إلى فقه السّنن كحاجة الجسد إلى الطّعام والشّراب، فالوجود الفعلي للإنسان يتحقّق بإعمال العقل الذي يتمّ به التّكليف، وبه كرّم اللّه تعالى الإنسان وفضّله على سائر المخلوقات. يمنح هذا العقل الإنسانَ التّعامل مع الوجود في جلب ما ينفعه ودفع ما يضره، لأنّه قادر على الإنتاج المعرفي الذي يؤهّل الإنسان للقيام بمسؤوليّة الاستخلاف في الأرض بالقيم القرآنيّة، و«تقويم حياته بها، في ضوء الظّروف المحيطة، والمشكلات الطّارئة، والإمكانات المتاحة»(1).
لم يكن القرآن الكريم ليذكر المئات من الآيات التي تتحدّث عن مختلف مكوّنات الكون، لمجرّد التلاوة وتحصيل الأجر والثّواب وإنّما لأخذ الحكمة من تنوّعها واختلافها والتّفكّر في  اتساقها وكيفيّة تدبيرها، ثمّ الاستدلال بها على ربوبيّة الخالق وألوهيّته، بالإضافة إلى أنّها مسّخرة لهذا الإنسان بأمر من اللّه تعالى وحكمته، يقول اللّه تعالى: ﴿مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَٰلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ﴾(يونس:5)، فكلّ المخلوقات لها وظيفة في الكون وتتناسق فيما بينها، وتعتبر فضاء للتّفكّر والنّظر، يقول اللّه تعالى: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ ﴾( آل عمران:190) ، ويقول أيضا :﴿قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾(يونس:101). 
ولا يمكن لأيّ إنسان أن يُحدث تغييرا على مستوى النّفس والمجتمع دون فقه الواقع الذي يعيش فيه، والسّنن أو القوانين المتحكّمة في تاريخ البشريّة، وهي الغاية من إرسال الرّسل لتعيش تحت ظلّ رحمة العدل الإلهي. ولا يمكن أن تحقّق الأمّة الإسلاميّة الوسطيّة والتي تعني فيما تعني العدل والقوامة والشّهود الحضاري والشّهادة على النّاس إلاّ بفقه الكتاب الحقّ الذي أنزله اللّه تعالى ليكون رسالة البشريّة كلّها، يقول الله تعالى: ﴿وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَٰكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ وَيَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ﴾(البقرة:143). وقد اتفق كلّ من الطّبري وابن كثير والطّاهر بن عاشور والسّعدي رحمهم اللّه جميعا أنّ الأمّة الوسط تعني الخيار والعدل، وزاد ابن كثير رحمه اللّه الأجود كما زاد  ابن عاشور النّفاسة والعزّة. إنّ الأمّة الوسط فضّلها اللّه تعالى بتوسّطها في الدّين، فلا هم من أهل الغلو كالنّصارى ولا هم من أهل التّفريط»(2)، قال السّعدي: «لهذه الأمّة من الدّين أكمله، ومن الأخلاق أجلّها، ومن الأعمال أفضلها. ووهبهم اللّه من العلم والحلم، والعدل والإحسان، ما لم يهبه لأمّة سواهم، فلذلك كانوا «أُمَّةً وَسَطًا»، كاملين«ليكونوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ» بسبب عدالتهم وحكمهم بالقسط، يحكمون على النّاس من سائر أهل الأديان، ولا يحكم عليهم غيرهم، فما شهدت له هذه الأمّة بالقبول، فهو مقبول، وما شهدت له بالردّ، فهو مردود»(3).
إنّ فقه السّنن الكونيّة التي دلّ عليها القرآن فرصة لمعاودة الشّهود الحضاري وتحقيق سنّة التّدافع لإحقاق الحقّ وإزهاق الباطل، ولا معنى لوجود إنسان لا يتفاعل مع السّنن الكونيّة ولا يستفيد من حركتها ولا من تسخيرها له، كما عبر ذلك القرآن الكريم، قال اللّه تعالى:﴿وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ، إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾(الجاثية:13).
ينبغي للإنسان أن يستشرف المستقبل بفقه السّنن الكونيّة لأنّها سنن مطردة ثابتة لا تتبدّل ولا تتغيّر، وله من القدرات التي تؤهّله، وبما يملك الأدوات المتاحة له أن يحدث تغييرا إيجابيا، «وقد تكون حاجة المسلمين اليوم لفهمها وحسن التّعامل معها وتسخيرها للقيام بأمانة الاستخلاف وتعمير الأرض، أشدّ من حاجتهم للحكم التّشريعي الذي تضخّم وتضخّم حتّى كاد يشمل الإسلام بأبعاده كلّها، مع أنّ الحاجة إليه تأتي ثمرة لإعمال هذه السّنن»(4). 
تسهم القراءة المتدبّرة للقرآن الكريم لإدراك ما يدعو إليه القرآن الكريم ويأمر به على مستوى الفرد والجماعة، وما يتعلّق بالجانب الرّوحي في علاقة الإنسان بربّه، وما يتعلّق بالجانب المادّي في علاقة الإنسان بالكون وسننه. ولا يمكن للإنسان أن ينفصل عن الكون أو أن يخالف قوانينه من حيث تعاقب اللّيل والنّهار أو الفصول الأربعة. فكلّ من الإنسان والكون من خلق اللّه تعالى وبينهما سمات مشتركة من حيث العبادة والتّسخير، يقول الله تعالى:﴿إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَٰنِ عَبْدًا ﴾(مريم:93)، ومن حيث تسخير الكون وما فيه، يقول اللّه تعالى:﴿وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِى ٱلْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ إِنَّ فِى ذَٰلِكَ لَايآَٰتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾(الجاثية:13) . هاتان الآياتان وغيرهما كثير تنصّان على أنّ سنة اللّه تعالى جارية، فمن أخذ بها قادته إلى مستوى من التّغيير بحسب تفاعله معها، ومن تركها تركته وخذلته، يقول الله تعالى: ﴿فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا﴾(فاطر:43-44).
يوجّه القرآن الكريم الإنسان إلى النّظر في الأنفس والآفاق، فيمتد بصره وفكره إلى الآيات الكونيّة الدّالة من جهة على قدره اللّه تعالى وبديع صنعه والدّقّة في الخلق، ومن جهة أخرى ليجعل من الكون فضاء للتّجربة ويكون على وعي ويقظة تامّة في استشراف السّنن لقول اللّه تعالى:﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي ٱلآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ ٱلْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴾(فصلت:53)، والسّين في قول الله تعالى«سَنُرِيهِمْ» تفيد الاستقبال.
 في ظلّ غياب القراءة المتدبّرة للقرآن الكريم، انصبّ جهد المسلم في ارتباطه بالقرآن الكريم على حفظ سوره وفنون التّلاوة، وتوقّف العطاء القرآني بتعطيل إعمال العقل في نصوص الوحي عملا بحديث عبداللّه بن عباس أنّ رسول اللّه ﷺ قال: «من قال في القرآن برأيه» وفي رواية: «من غير علم، فليتبوأ مقعده من النّار»(5)، وتعطّل الاجتهاد، في حين أنّ الشّرع كتب الأجر على الاجتهاد حتّى في حالة الخطأ باستفراغ الوسع المطلوب، ولم يكتب الأجر على الخطأ وإنما على الاجتهاد. 
لقد أصبحت المدارس التّفسيريّة التي ظهرت في فترة تاريخيّة مقدّسة عوض النّص القرآني، وأرقى ما وصل إليه عقل المسلم، وأهملت الأمّة المسلمة التّعامل مع السّنن الكونيّة بالرّغم من كونها تشكّل جزءًا من حياتها اليوميّة، فهي اليوم تقتات على حساب غيرها من الأمم التي تطوّرت معارفها في  شتّى العلوم الكونيّة.
إنّ الإشكال الحاصل في التّعامل مع القرآن الكريم يكمن خصوصا في عدم تنزيل القرآن الكريم بما تمليه مشكلات الواقع، بالرّغم من أنّه يحتوي على الحلول المناسبة لقضايا الإنسان المختلفة، وأنّ مشكلات الإنسان هي هي في كلّ زمان ومكان. ولو أمعنا النّظر في أسباب النّزول والأحداث التي عالج بها القرآن الكريم مشكلات الإنسان في عهد الرّسالة لتَمَّ فقه الحالة التي علينا نحن اليوم وأمكننا فهم السّنن وكيفيّة تأثيرها في الواقع والتّحقّق منها وتنزيلها حسب المشكلات. 
يقصّ القرآن الكريم تأثير السّنن الكونيّة في الأمم التي خلت ﴿سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا﴾(الأحزاب:62)، هذه السّنن تتحقّق نهوضا وسقوطا في الأمم ولن تتخلّف. فقيمة العدل مثلا من القيم وسنة من السّنن التّغييريّة، بحيث أنّ أمّة من الأمم يمكن أن تستمر في الوجود حضاريّا أو تسقط بقدر تطبيقها في المجتمع، لأنّ السّنن فاعلة في الوجود، فلينظر الإنسان في قوّة تفاعله مع السّنن وليخش تعثّره أو تخلفه عنها،  فإنّها سنن جارية في دورتها لا تتوقّف ولا تنتظر أحدا. «ليس هناك فوضى في الكون، من ناحية البناء العلمي له، ومن ناحية الانطلاق الحضاري، سنن قائمة بيقين وسنن ثابتة، وقد انطبقت هذه السّنن على صاحب الرّسالة نفسه، نصرًا وهزيمة، فعندما قصّروا في اتخاذ الأسباب المطلوبة لاستكمال النّجاح في «أُحُد» هُزِموا، وقيل لصاحب الرّسالة: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ﴾(آل عمران:128) . وإذا استكملوا أسباب الانتصار انتصروا، وما يتصوّر أنّ أمّة من الأمم تُحابى أو تستثنى من هذه القوانين، وقد طّبقت هذه القوانين نفسها على أمّتنا خلال الأربعة عشر قرنًا من تاريخها»(6).
قد يدرك الإنسان بفطرته التّأثير المباشر للسّنن الكونيّة في حياته اليوميّة من تعاقب اللّيل والنّهار، ومن اختلاف درجة الحرارة والبرودة، ومن المدّ والجزر، ومن حياة نبات الأرض وموته إلى غير ذلك ممّا يألفه الإنسان، لكن غفلته عن تدبر هذه السّنن وفقهها  تفوت عنه الاستفادة في كونها تفتح له بابا إلى اليقظة والتّغيير الإيجابي في حياته، والجزاء يحصل من جنس العمل، يقول اللّه تعالى:﴿ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾ (الأنفال:51)، ويقول:﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرهُ ﴾(الزلزلة:7-8). فما أصاب الأمم وما يصيبها من أزمات في جميع ما يتعلّق بالحياة الإنسانيّة سياسيّا واقتصاديّا أو اجتماعيّا، كانت مسلمة أو غير ذلك يرجع بالأساس إلى عدم فقه السّنن الكونيّة. وقد نتفق على أنّ الأمّة المسلمة اليوم التي تبحث عن مخرج من أزمتها، تملك المنهج القويم الذي ترقى به إلى مستوى الحضارة الإنسانيّة؛ وهو القرآن الكريم؛ الذي يمتلك الهداية للتي هي أقوم، ويمتلك من الخصائص والتّوجيهات الرّبانيّة الخالدةالقادرة على معاودة النّهوض الحضاري والإنساني.
كان القرآن الكريم ينزل ليعالج مشكلة من مشكلات المجتمع سواء تعلّق الأمر بالجانب العقدي التّعبّدي أو الجانب الاجتماعي المادّي، هذا المنهج يجب مراعاته لحلّ مشكلات الإنسان اليوم، وفي كلّ زمان ومكان، لأنّ القرآن الكريم يملك خاصّية خلود الأحكام والقيم التي تصلح للإنسان. 
ما كان اللّه تعالى ليتحدّث عن الكون والقوانين المطّردة فيه والثّابتة من أجل التّرنّم بها أو نيل الأجر والثّواب فقط، ولكن أيضا من أجل أن يرقى بها الإنسان ليشكّل معها وحدة تعكس تفاعلا معرفيّا في فهم هذه السّنن والحياة من منظور تعبّدي، يقول اللّه تعالى:﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ، الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّار ﴾(آل عمران:190-191).
إنّ خلق السّموات والأرض واختلاف اللّيل والنّهار وسنن الكون العديدة والمختلفة والنّظام الإلهي الذي يحكمها بشكل  منتظم دقيق، والقوانين الفيزيائيّة والكيميائيّة والبيولوجيّة والفلكيّة، التي تحكم سير الأحداث وتتحكّم في ظواهر الكون بشكل عام يبعث في النّفس يقظة التّفكير وهمّة عالية للتّأمل في سير هذه المخلوقات واعتبارها سبيلا لاكتشاف العلوم التي تخدم الإنسانيّة.
إنّ فهم سنن الكون وقوانينه، يسهم في تطوير العلوم والتكنولوجيا ويحقّق التّقدّم العلمي والتّكنولوجي. إنّ الفهم الصّحيح  لقوانين الكون وسننه صغيرة كانت أو كبيرة يسهم في تطوير تقنيات جديدة واكتشافات مهمّة تؤثّر بشكل إيجابي في حياة الإنسان، خصوصا الإدراك الجيّد بسنن الطّبيعة وتقلّب مواسمها وحسن التّخطيط الذي يساعد بشكل كبير في استغلال مواردها الطّبيعيّة وتحسين الأمن الغذائي الذي يشكّل اليوم تحدّيا كبيرا للإنسانيّة مع تزايد السّكان.  
إنّ الحاجة اليوم في فهم سنن الكون يساعد الإنسان في اتخاذ القرارات المناسبة في  جيع المستويات الحيّة سياسيّا واقتصاديّا واجتماعيّا في فهم الواقع واستشراف المستقبل وحلّ  الأزمات التي تتخبط فيها البشريّة. 
إنّ فهم السّنن الكونيّة المطردة يشكل وقفة تأمّل حقيقيّة في الحفاظ على الكون ومقدراته بما يصلح للإنسان وليس تخريبه بشكل ينظر من خلاله الإنسان إلى الرّبح الذّاتي وتخريب البيئة والطّبيعة لحساب المنشآت الصّناعيّة. فالحفاظ على الكون يحفظ التّوازن الطّبيعي من الخراب، الذي دفع اليوم مؤسّسات إيكولوجيّة للتنبيه إلى خطر قادم يهدّد البشرية، خصوصا ما يتعلّق بالتّلوّث بسبب المياه العديمة وارتفاع نسبة المواد الكيميائيّة والنّوويّة المتسرّبة في المياه وارتفاع مستوى البحر بسبب ارتفاع متوسّط درجة حرارة الأرض إلى غير ذلك من المخاطر التي تهدّد البشريّة.. ويمكن القول إنّ الحاجة في فهم سنن الكون واحترامها يعتبر أمرًا مهمًّا للإنسان، حيث يساهم في تحسين حياته وحياة الآخرين، ويمهّد الطّريق أمام التّقدمّ والازدهار في مختلف جوانب الحياة.
إنّ كلّ ما يجرّب في واقع الإنسان من خير أو شرّ يعلمُه اللّه تعالى، وعلى الإنسان أن يتدبّر الأحداث لا أن يقف عند تكرارها، عليه أن يستعمل القوانين العلميّة المتاحة له  ويعتمد على المناهج العلميّة لتجاوز المشاكل وإيجاد الحلول، وينتج أفكارا تمنحه التّفوّق.  
إنّ الإنسان العاقل يكون على يقظة من هذه السّنن ويأخذ بجميع الأسباب الممكنة، ليكون على مقربة من دفع القدر بخير منه. ومن واجب المسلم أن يكون على علم بالسّنن الاجتماعيّة ليدفع قدرا بقدر أفضل منه، وأن لا يستسلم للأقدار التي يستطيع التّدخّل فيها والاستفادة منها لصالحه، فالأقدار ثلاثة أنواع، قدر استأثر اللّه به، لا يتطلّع عليه أحد من خلقه ولا يقدر عليه أحد، ويدخل في هذا النّوع من الأقدار السّنن الكونيّة ونواميس الكون وقوانينه، وهو فوق طاقة الإنسان وقدرته، فلا يستطيع رده أو دفعه.ومن الأقدار أيضا ما يجري على الإنسان من سنن تتعلّق بذاته ووجوده الاجتماعي، يمكنه أن يتدخّل فيها ويؤثّر فيها إيجابا أو سلبا، أمّا النّوع الثّالث فهو القدر الذي يدخل في استطاعة الإنسان بالفعل أو المنع.  وهذه السّنن تتدخّل إيجابا وسلبا في صياغة حياة الإنسان نهوضا وسقوطا. والقرآن الكريم حافل بالمناهج الدّعويّة التي سلكها والنّاظر المتأمّل في دعوات الرّسل والأنبياء يجدها حافلة بالأخذ بالسّنن الاجتماعيّة في تعاملهم مع أقوامهم، إذ سلكوا منهج التّدافع لاستيعابهم للواقع، فاستطاعوا بذلك تحقيق مشروعهم الدّعوي. 
ومن جملة الأقدار التي تصيب الإنسان؛ العطاء أو المنع في حياته فقر أو غنى، مرض أو عافية، جهل أو علم، وفرة الثّمرات أو أخذ بالسّنين... إلى غير ذلك ممّا يصيب الإنسان أو الأمّة من تقدّم أو سقوط حضاري، ممّا يوجب على الإنسان الأخذ بالأسباب في الحفاظ على النّعم وتجاوز المحن، فيعيش المؤمن بين عبادة الصّبر وعبادة الشّكر، فهو يعلم أنّ ما يصيبه لم يكن ليخطئه وما يخطئه لم يكن ليصيبه، يقول اللّه تعالى:﴿وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ﴾(الأنبياء:35)، والابتلاء سنّة من السّنن الجارية في الكون بما يحبّ الإنسان وبما يكره. ومن السّنن التي يجب فقهها ثنائيّة النّعم والنّقم فقد لا يألفها، ولا يلتفت إليها ويجهلها، ويعتبرها حينا مكسبا وحين عقابا، دون أن يستفيد من تقلّباتها. فما يصيب الإنسان من رخاء أو شدّة ومن جميع الصّفات التي يتمتّع بها الإنسان لا تخرج عن المشيئة الإلهيّة، والإنسان قادر - بما وهبه اللّه تعالى من مؤهّلات- أن يحقّق الرّخاء لنفسه أو أن يجلب الشّدّة والضّرر، وهذه سنّة من سنن اللّه الماضية في الخلق أجمعين، لكن في حال عموم الفساد وهيمنة الطّغيان على الصّلاح تتدخّل السّنن الإلهيّة لتوقف السّنن الكونيّة، فيصيب اللّه بعذابه الظّالمين. 
فلا يتحقّق فقه السّنن بالأمنيات، وإنّما ببذل الجهد الفكري واستنهاض للهمم واستشراف للمستقبل لا أن نقف متفرّجين على حالنا الذي لا نحسد عليه في جميع المستويات الحياتيّة، فالتّغيير الإيجابي تجديدٌ وتطورٌ يُفضي دائما إلى النّتائج الحسنة، وسنّة التّغيير تبدأ بإرادة التّغيير، من داخل النّفس وبإرادة قويّة تتمثّل في تغيير الوسائل، وتصميم وإصرار على الهدف والغاية. يقول تعالى:﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ ﴾(الرعد:11).
إنّ سنن اللّه تعالى تتحقّق في عباده في حال الإصلاح وفي حال الفساد، فاللّه تعالى عدل وعادل في قضائه لا ينقص النّاس من أعمالهم شيئا ولا يبخس عملَ عامِل قليلا كان أو كثيرا، حسنا أو سيئا. والجزاء من جنس المعاملة مع الخلق، من زرع شيئا وجده، وقد جعل اللّه تعالى لكلّ بذْرة ثمرة، والجزاء قاعدة شرعيّة وسنّة من سنن اللّه الكونيّة في خلقه في الدّنيا والآخرة، فيُجازي أهلَ الإحسان بالإحسان ويُوَفِّي عطاءه لهم تفَضُّلًا منه ﴿جَزَاءً مِّن رَّبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا﴾(النبأ:36)، ويجازي أهل المعصية ما يُوافِقُ أعمالَهم ﴿جزاءً وِفَاقًا﴾(النبأ:26) .
فما تعيشه المجتمعات من النّمو أو التّخلف ومن أنواع الابتلاءات ومن مصائب ومفاسد، مما اقترفته  أيديهم الجالِبَةُ للنّقم والمُزِيلَةُ للنّعم، يقول اللّه تعالى:﴿وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ ﴾(الشورى:30)، فبسبب تجرّع النّاس سموم المعصية التي أصبحت حالا وواقعا في النّفس وشيئا مُرضيا، لا ننكره ولا نستقبحُه، فغدوا لا يشعرون بالرّاحة ولا بالطّمأنينة، وأصبحوا يعيشون قلقا فكريّا مستمرا، وحيرة نفسيّة واضطرابا في الشّعور وكدرا في الضّمير وآفات في النّفوس، يعيشون أمراضا وأزمات، وخلافات وفتنا على جميع المستويات. إنّه مهما ارتقينا في سلّم الحضارة المادّية والتّقدّم والغنى والتّرف، ومهما حقّقنا من متاع الحياة الدّنيا ومهما اسْتَمْتعْنا بالشّهوات والملذّات، دون أن نتمسَّك بسنن اللّه الشّرعيّة، فلن تطمئْنَ نفوسُنا ولن ترتاح ضمائرُنا ولن يهدأ بالُنا، سنعيش فوضى في النّفس والمجتمع ونعيش قلقا مستمرا، ولا نشعر بالطّمأنينة  ولا راحة البال بل كدر وغمّ وهمّ، واضطراب في جميع مستويات الحياة سواء الرّوحيّة أو الماديّة.
من باب فقه السّنن أن نتأمّل فيما يصيب المجتمعات اليوم وما ينتشر من أمراض وقتل ونهب للثّروات ومن نشر الرّعب في المجتمع اقتصاديّا أو سياسيّا أو اجتماعيّا أو نفسيّا، بوعي أو من دون وعي، إنّما هو بما كسبت أيدي النّاس. وما تعيشه أيضا البشريّة من خلافات إنّما هو بقدر عطشها في الحصول على تحقيق المتعة المادّية الزّائفة، والشّعور بالأنانيّة في التّسلّط على النّاس واستنزاف أرزاقهم وثرواتهم.
الهوامش
(1) الشاكلة الثقافية، مساهمة في إعادة البناء، عمر عبيد حسنه، ص: 41، المكتب الإسلامي، بيروت، دمشق، عمان، الطبعة الأولى، 1414هـ 1993م
(2) جامع البيان عن تأويل آي القرآن لأبي جعفر ابن جرير الطبري(224-310هـ)،3/143، تحقيق محمود محمد شاكر وأحمد محمد شاكر، مكتبة ابن تيمية،  تفسير القرن العظيم  للإمام  أبي الفداء  الحافظ ابن كثير(ت774هـ)  1/83-274، دار الرشاد الحديثة الدار البيضاء1410هـ 1989م،التحرير والتنوير للشيخ محمد الطاهر ابن عاشور،12/14-15، دار التونسية للنشر،1984م،  تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، للشيخ عبدالرحمن  بن ناصر السعدي(1307-1372هـ)1/70، منتدى الثقافة، الطبعة  الأولى، 1435هـ 2014م
(3)   تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان للسعدي 1/70
(4)  كيف نتعامل مع القرآن؟ للشيخ محمد الغزالي ص: 63
(5) نقلا من كتاب  فضائل القرآن الكريم لمحمد بن عبدالوهاب، ص: 28، تحقيق فهم بن عبدالرحمن الرومي، مكتبة التوبة، 1417هـ 1997م
(6)  كيف نتعامل مع القرآن؟ للشيخ محمد الغزالي ص:64