تمتمات

بقلم
رفيق الشاهد
بورصة العيش في سوق الحياة (الجزء الأول : هل كل شيء يباع؟)
 هل كلّ شيء يباع ؟ هل لكلّ شيء ثمن؟  
في الواقع، كلّ شيء أمكن عرضه للبيع والشّراء وكلّ شيء وُضعت له سوق بعد أن تأكّد في الاعتقاد على لسان أحدهم «ما لا يشترى بالفلوس يشترى بفلوس كثيرة»، أنّ كلّ شيء يباع فعلا وأن لا شيء لا يشترى من سوق الفضيلة.
قد تختلف الأسواق في التّسميات حسب البضاعة ولكنّها تتّفق كلّها على مبدإ تبادل السّلع أي المعاملات التّجاريّة وإن كانت البضاعة نفسها عملة ماليّة مقابل عملة أخرى. وكلّ الأسواق باختلاف أنواعها الواقعيّة منها والافتراضيّة، تتطوّر بذاتها خاصّة بعد ظهور التّجارة البينيّة. 
من لم يسمع بسوق الأموال النّقديّة وأسواق القروض والدّيون وأسواق الفائدة؟ من لم يسمع بكساد سوق الكرامة رغم ندرتها بسوق الذّمم وكيف تُباع القيم في سوق الأخلاق كما تشترى الأسلحة في أسواق السّلام في زمن السّلم، ويباع العلماء والأطبّاء والمهندسون بأسوام بخسة في أسواق الخبرة والكفاءة، وأسواق الدّواب وأسواق العبيد أو (ما ملك اليمين)، وسوق السّعادة وأسواق المتعة، وكيف تشترى الرّفاهة من سوق الشّرف، وكيف تباع العفّة في سوق الرّذيلة وتباع تذاكر العبور إلى الجنّة في أسواق الورع والتّقوى.
 وها قد ازدهرت سوق السّخافة والنّذالة وأسواق السّقم والعلل، ولعلّ آخرتها أسواق العيش مقابل الحياة ....
اللّه سبحانه وتعالى رصد لكلّ من خلقه عمرا -﴿لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ﴾(الرعد: 38)- كتبه في سره عن بقية العباد. فيُروَى أنّه كتب لسيدنا آدم ألف سنة ولنوح ألف وأربع مائة وخمسين، في حين لم يعش سيدنا محمد ﷺ إلّا ثلاثا وستين سنة، ولم يتجاوز يحي أربعين عاما وعيسى أصغر الأنبياء -عليهم جميعا أفضل صلاة وأزكى سلام- ثلاثا بعد الثّلاثين ممّا يعدّون لا أكثر. أفلا يعني هذا أنّ العمر لا يُقاس بكثرة السّنين؟ 
***
في حيرتي يعوزني وضوح الفكرة الذي شوّش فكري اضطرابها، توقّفت طويلا متأمّلا حتّى تلقّيت محتوى على جدار مجموعة «روحي أنا» ترجمة للاسم الأصلي «Mon âme» منقولا عن صاحبه جازون لابوانت Jason Lapointe . أيقظت نشره رغبتي في مواصلة واتمام مشروع المقال الذي انطلقت فيه. جاء على لسان القلم لصاحب المحتوى أنّ عطاء الحياة أشبه بعطاء بنك مصرفيّ يضع على ذمّة الحريف رصيدا يوميّا بقيمة محدّدة تساوي 86400 دولارا شرط أن يستهلك منه ما شاء وأن يعيد للبنك ما تبقّى قبل نهاية اليوم وبداية يوم جديد ليضخّ له العطاء اليومي الجديد. والشّرط الثّاني الذي لا يتنازل عنه المصرفي أن يوقف العطاء متى شاء وأن يسحب في حينها من الحريف باقي الرّصيد بالتّمام. 
والمقاربة التي يبسطها صاحب المحتوى أنّ هذا الرّصيد اليومي هو ما يعادل 86400 ثانية ليحياها المرء في يومه ذاك ويعيش من خلال هذا الرّصيد اليومي ما استطاع. والوحدات الزّمنيّة التي لم تُعش تبقى غير مستهلكة وتسترجع آخر اليوم وقبل بداية يوم جديد بعطاء 86400 وحدة زمنيّة جديدة.
ويتساءل صاحب المحتوى «ماذا لو» اعتبر المرء الحياة بهذه الصّيغة كعطاء يومي بالشّروط المبيّنة. وأسأل أنا مرّة أخرى : «ما الفرق بين العيش والحياة.؟ وما قيمة الزّمن ووحداته محدّدة ومحدودة؟» ووجدتني أستفيق كلّ يوم وبين يديّ 86400 وحدة زمنيّة إضافيّة تنسكب من بين أصابعي الواحدة تلو الأخرى لا يمكنني إيقاف سيلها المتدفّق الذي لم يحصل لي أن انتبهت إليه قبل اليوم ولم اهتم به ولا بمجرى الأيام بفروعه. بل أصبحت اليوم مهموما، وهمّي الوحيد إيقاف هذا النّزيف الجارف الذي لم تصمد أمامه كلّ المحاولات. 
لا خاب من استشار ولا سبيل للمريض إلاّ في عيادة الطّبيب. وفي حيرتي لا أجد ضالّتي إلاّ عند مختصّ في العلوم الاقتصاديّة والماليّة وبالأخصّ تقنيات البورصة الماليّة. ووجدت ضالّتي عند الخبير «جازون» الذي أفادني أنّ الزّمن المُعيش هو ما أنفق في الاستثمار ليعزّز قيمة الزّمن وقيمة وحداته، أي بلغة المعاملات الماليّة ارتفاع قيمة الحياة في بورصة الوحدات الزّمنيّة. وأنّ وحدة الزّمن المعيش أغلى قيمة ذاتيّة من وحدة الحياة العاديّة التي يمكنها بذاتها أن ترتفع بفضل المبادلات أخذا وعطاء. فالأمّ مثلا تنفق من رصيدها الزّمني اليومي استثمارا في اتجاه واحد يغذّي ويقوّي قيمة الوحدة الزّمنيّة عند صغيرها.  وكلّ عامل بالفكر والسّاعد يبيع وحداته الزّمنيّة بقيمتها الإضافيّة ويشتري في المقابل وحدات زمنيّة عبر تلقّيه خدمات من الآخرين.
فهمت جيّدا من خلال حديثه إليّ أنّ المستثمر النّاجح هو الذي يجعل كلّ لحظة من رصيده الزّمني مُعيشةً وقيمتها الاعتباريّة في البورصة مرتفعة. وصرت أعتقد أنّ قيمة الإنسان بقيمة الزّمن الذي عاشه واستثمر فيه أي بقيمة مجموع وحداته في بورصة الوحدات الزّمنيّة. وما أطول الحياة ليتكدّس الزّمن طحين رحى عقارب السّاعة وسقيط غربال دقيق الدّقيقة وغربال الثّواني.
واقتنعت حتّى وجدتني أبحث في أمثلة تؤكّد ذلك، وكانت عديدة في التّاريخ القديم والحديث. فما سعر وحدة الزمن عند أبي القاسم الشّابي التي أنتجت:
« إذا الشعب يوما أراد الحياة *** فلا بد أن يستجيب القدر» ؟
لقد اشتغل وانشغل بكلّ وعي في هذا البيت وفي قصيدة إرادة الحياة بكاملها إلى حدّ الإرهاق والإنهاك. فما قيمة الوحدة الزّمنيّة لفترة النّوم التي لم تعد متوفّرة ولم تقتص ممّا تبقّى من الرّصيد الزّمني قبل استرجاعه طبقا لشرطي البنكي؟. 
إنّ العيش ذاكرة الحياة، أثرها وتاريخها أي ما تراكم من أحاسيس وأفعال في ملهاتها، وأنّ أدنى مراتب العيش تمام الحياة وأعلاها بحجم مآسيها. وما المآسي عند أبي القاسم إلاّ سبب العيش وعنوانه. من لم تكن له مأساة ليقتنص واحدة يعيش بها.