التجديد الحضاري

بقلم
د. محمد المجذوب
معاني الحرية والمشيئة في الإسلام
 تظهر المبادئ والأعراف الأخلاقيّة، والتي هي أساس مقولات الحرّيّة عبارة عن هداية ووصايا وإلزامات وتعاليم وتوجيهات، كونها تتحوّل وجدانيّاً إلى مقاصد ودوافع ونوايا، فإنّها هي التي توجد الأفعال الحرّة في الإنسان أو تنفيها، وبالتّالي فإنّه يجب أن تستند الحرّية على الأخلاق لا العكس.
ومن ثمّ فإنّ الإشكال الأساسي الذي يُطرح هنا هو: كيف يمكن تعيين العلاقة بين ما تفرضه الإلزاميّات الأخلاقيّة والإنسانيّة كواجبات، وبين الحرّية كأساس لكلّ فعل إنساني؟، أي كيف يمكن للإنسان أن يوفّق في أفعاله، بين الحرّية والأخلاق أو لنقل بين الإرادة والإلزام الأخلاقي، كمقصد للفاعليّة الإنسانيّة الحرّة؟.
إنّه ولمّا كان المقصد الأخلاقي ليس معنىً أمبريقيّاً، وأنّ قيمته الأخلاقيّة لا تتحدّد في الأفعال الخارجيّة التي نراها فحسب، بل في النّوايا والدّوافع والمعاني الوجدانيّة الدّاخليّة القبليّة في الإنسان، كمقاصد أخلاقيّة لهذه الأفعال أو تلك والتي تعتبر مرئيّة بالنّسبة للإنسان ذاته، فإنّ الفعل الإنساني يستقي قيمته من المقصد الأخلاقي المتلازم معه، كون أنّ التّعلّق بالمقصد الأخلاقي لا يكون مستقلّاً عن مضمون الفعل الإنساني الحرّ الذي قلنا أنّه فعل أخلاقي في المقام الأول. 
 ودلالة ذلك أنّه لا يمكن لنا أن نستخلص قيمة الحرّية من معنى الذّاتيّة الإنسانيّة لوحدها لأنّها ببساطة غير موجودة على الهيئة المجرّدة والمستقلّة لوحدها عن بيئتها العقديّة والأخلاقيّة ... الخ، وبذلك فإنها لا تستطيع أن تمنح الحجّية المنطقيّة التي تجعل من الأفعال الإنسانيّة إلزاماً أخلاقيّاً عامّاً وشاملاً وخالصاً، طالما كان المقصد الأخلاقي أمرا قبْليّا مختلطا بـ ، ونابعا من، ومع، الرّؤية والمبادئ والمعتقدات الأخلاقيّة مهما اختلف مصدرها، كونها هي التي تضع شروط الأفعال الإنسانيّة وقيودها وحدودها وطبيعتها إستنادا إلى الدّوافع الأخلاقيّة التي تدفعه إلى القيام بأفعال الإرادة الحرّة. 
ومن هنا فإنّ الأفعال الحرّة الإراديّة عند الإنسان دائماً ما تتشكّل في ثنايا هذه البنيات والعناصر، والتي هي مقاصد أخلاقيّة في التّهذيب والتّربية وبناء الرّؤية النّهائيّة للإنسان وغايتها وفي التّحليل النّهائي. 
وهكذا فإن المقاصد الأخلاقيّة في الأساس في الأفعال، سواء أكانت الأفعال الأخلاقيّة المرتبطة بالإرادة والنّية الإنسانيّة التي تروم نتائج نفعيّة وجزاء نفعيّا دنيويّا فحسب، أو كانت استجابة لنداء ضمير الإيمان الخالص باللّه تعالى ... الخ، فإنّ المقاصد الإنسانيّة في المعنى الأخير ستكون ذات قيمة أخلاقيّة ما موجّهة للفعل الذي اعتبرناه حرّا. 
أما وقد ثبت تهافت وسطحيّة معنى الحرّية الفرديّة في المشروع الحداثي الوضعي بوصفه مشروعاً وضعيّاً إنسانويّاً تاريخانيّاً، والذي عماده أخلاق البراغماتيّة اللّذة، فهو وعلى مستوى فرص أفضليّة التّعدديّة الأخلاقيّة في العالم، لا يملك إمكانيّة التّعالي بمعنى الإنسان والكرامة والأخلاق والحقوق الإنسانيّة حتّى يجلب للإنسان معنى الحرّية والكمال والكرامة والاعتراف والحقوق. كون أنّ الحرّية الإنسانيّة هي وليدة المقاصد والنّوايا الأخلاقيّة، لا مجرّد تبريرات عقلانيّة أو فلسفيّة، واعتبار ذلك يعود الى أنّ المقصد الأخلاقي -الذي هو ذو طبيعة وجدانيّة وأخلاقيّة وليس مقصداً تجريبياً ولا براغماتياً أو غرائزياً أو نفعياً بالكامل- سيكون مستقلّا إلى حدّ كبير عن الاكراهات والغايات الواقعيّة لوحدها، كونه متّسم بالطّابع الأخلاقي الغائي الكلّي للإنسان، فيكون تصرّف الإنسان الحرّ عندئذ مطبوعا بطبيعة الرّؤية الأخلاقيّة النّهائيّة له، تلك التي تسمح بها قواه الإدراكيّة كرؤية للوجود.
وعندئذ يصبح المبدأ الأخلاقي هو الأساس الذي تخرج منه كلّ الأفعال الإراديّة الحرّة المختلفة والمتجدّدة فينا وفي كلّ حين، كون أنّ الإنسان لا يمكنه الفصل بين إرادته التي يريدها حرّة، وبين مبادئ الأخلاق والأفكار والمشاعر والعادات التي ينتمي إليها، كونها المشاعر والأحاسيس التي تنتج عن الأحوال الأخلاقيّة والوجدانيّة والضّميريّة الذّهنيّة والنّفسيّة الخاصّة به وبحياته، وعلى رأسها الأخلاق الدّينيّة، والتّقاليد العرفيّة، والفعاليّات الاجتماعيّة، والقيم المهنيّة، والمشاعر الجمعيّة والممارسات التّلقائيّة من أي نوع كانت. وبإمكاننا إذن القول إنّ الفعل الإنساني الحرّ لا يكتسب قيمته، إلاّ إذا كان صادراً عن مقصد ما، ووجه الاحتجاج في ذلك أنّ كلّ تصرّف للإنسان يقتضي الالتزام بالنّية والمقصد الأخلاقي المسبق الذي يحدّده، وبذلك سيكون المقصد الأخلاقي والنّية والدّافع الضّميري، هو منطلق تحليل الأفعال الإراديّة الحرّة انطلاقاً من معنى النّوايا والدّوافع في تلك المقاصد. 
وهكذا فإنّ كون المبادئ والأعراف الأخلاقيّة، هي عبارة عن هداية ووصايا وإلزامات وتعاليم وتوجيهات، تتحوّل وجدانيّاً إلى مقاصد ودوافع ونوايا، فإنّها هي التي توجد الأفعال الحرّة في الإنسان أو تنفيها، وبالتّالي فإنّ الحرّية يجب أن تستند على الأخلاق لا العكس، وبما أنّ كونيّة الإلزاميّة الأخلاقيّة في كمالها، لا تكون إلّا من خلال مبدإ متعالٍ، وهو ما لا يكون إلاّ عندما يكون معنى المتعالي نابعاً من هداية اللّه ووصاياه وتعاليم الأنبياء والرّسل المتعالية، فإنّ الحرّية الحقيقيّة ستكون مرهونة بشرط التّماهي مع هذه الأخلاق الإلهيّة. 
وعندها يعلو بمبدأ الايمان والحقّ على أخلاق الفردانيّة والأنانيّة، كما يعلو بمبدأ المساواة والعدالة الإلهيّة عن ثنائيّة الأنا والآخر، وبالنّتيجة تغيير هامّ في وضعه الإنساني، بعلو كرامته بمقصد الإيمان والتّعالي على نوازع الأهواء والشّهوات والغرائز البهيميّة الحيوانيّة التي يمكن أن تؤثّر سلباً في طبيعة أفعاله الحرّة، عندما يتماهى مع هداية اللّه المتعالية التي تتعالى بإرادته الحرّة إلى مصاف الكمال والحرّية والفضيلة. وبذلك تظهر أهمّية الإلزام بالرّؤية الكونيّة الأخلاقيّة الإلهيّة، كمنشئ للمقصد الإنساني الرّاشد العاقل المريد، بما يعني أنّ فهم الأفعال الإراديّة للإنسان، وقد نشأت وتزكّت وتربّت بواسطة الهداية الإلهيّة المتعالية للوجود الأخلاقي، نابعة من رؤية كونيّة أخلاقيّة شاملة، وعندها بإمكان المبادئ الأخلاقيّة القائمة على معنى التّعالي الإلهي والكرامة الإنسانيّة، أن تؤسّس الدّوافع والمقاصد والنّوايا السّامية لمقبل مشروع أفعال وتصرّفات الإنسان الحرّة في المستقبل. 
ولذلك فنحن نطرح قيمة الحرّية، لا باعتبارها مسألة ميتافيزيقيّة، أو كمسألة مشكوك في أمرها، تحتاج لحجج الإثبات والنّفي كما هو الحال في القول الفلسفي الوضعي، وإنّما نطرحها على مستوى حاجة الإنسان إلى التّعالي بهدي اللّه المتعالي، وهي بهذا المعنى ليست مسألة معطاة، ولكنّها حالة قيد التّحقّق والتّكوّن، كونها حالة تهذيب وتربية وثقافة متّصلة من قبل الإنسان لنفسه متحرّراً من نوازع الهوى والضّلال والشّهوات، تقصد إلى التّماهي مع حالة الفطرة التي ولد عليها، والتي هي عرضة للفساد بفساد الأحوال العقديّة والاخلاقيّة والاجتماعيّة التي من حوله، فيعمد إلى استعادتها في كلّ أوان. 
والمعنى أنّ المشيئة بهذا المعنى تحرير للإنسان والاجتماع للتّماهي بالمثل الإلهيّة والإيمانيّة المضمّنة في الرّسالة المنزّلة من قبل اللّه تعالى. ومن هنا يكون الرّبط بين المشيئة والإنسان والاجتماع، فالإنسان والاجتماع لا معنى لهما، بدون ارتباطها باللّه تعالى، ذلك أنّ الإيمان باللّه والخضوع له، هو الضّمانة النّهائيّة التي تجعل الإنسان يتحرّر من سائر أشكال المعبودات الأخرى، وبالتّالي يعطي الإنسان والاجتماع المعنى والغاية. إنّ المشيئة في القرآن هي المسؤولية، وبدونها لن تكون هنالك مسؤوليّة أبداً، ولن يكون هنالك معنى لدعوات الأنبياء صلّى اللّه عليهم وسلم جميعاً.