بالمناسبة

بقلم
عبدالله منيوي
نظرات إصلاحية للطاهر بن عاشور في تفسير «التحرير والتنوير» (2/2)
 المحور الثّاني: الرّؤية الإصلاحيّة الاقتصاديّة
يعتبر المال أحد الضّروريات الخمس التي جاءت الشّريعة الإسلاميّة لحفظها، لأنّ حفظه يسهم في حفظ نظام الأمّة واستدامة صلاحها وبناء حضارتها؛ ولهذا اعتبره مالك بن نبي أحد المكوّنات الأساسيّة لمعادلته الحضاريّة، والنّاظر في تفسير «التّحرير والتنوير» يجد البعد الحضاري لمقوم المال حاضرا بقوّة، ونمثّل لذلك بقوله تعالى:﴿وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً ﴾(النساء: 5)، حيث فسرها قائلا: «المال عند التأمّل تلوح فيه حقوق الأمّة جمعاء لأنّ في حصوله منفعة للأمّة كلّها، لأنّ ما في أيدي بعض أفرادها من الثّروة يعود إلى الجميع بالصّالحة. فمن تلك الأموال ينفق أربابها ويستأجرون ويشترون ويتصدّقون، ثم تورث عنهم إذا ماتوا، فينتقل المال بذلك من يد إلى غيرها، فينتفع العاجز والعامل والتّاجر والفقير وذو الكفاف، ومتى قلّت الأموال في أيدي النّاس تقاربوا في الحاجة والخصاصة، فأصبحوا في ضنك وبؤس، واحتاجوا إلى قبيلة أو أمّة أخرى وذلك من أسباب ابتزاز عزّهم، وامتلاك بلادهم، وتصيير منافعهم لخدمة غيرهم، فلأجل هاته الحكمة أضاف اللّه تعالى الأموال إلى جميع المخاطبين ليكون لهم الحقّ في إقامة الأحكام التي تحفظ الأموال والثّروة العامّة»(1)، وفي قوله تعالى: ﴿ ولَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾( البقرة:188)، والأموال جمع مال وهو «ما بقدره يكون قدر إقامة نظام معاش أفراد النّاس في تناول الضّروريّات والحاجيّات والتّحسينات بحسب مبلغ حضارتهم حاصلا بكدح»(2)، وفي قوله تعالى: ﴿وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا﴾ (الإسراء: 26-27) يقول الشيخ: «والتّبذير: تفريق المال في غير وجهه، وهو مرادف الإسراف، فإنفاقه في الفساد تبذير، ولو كان المقدار قليلا، وإنفاقه في المباح إذا بلغ حدّ السّرف تبذير، وإنفاقه في وجوه البرّ والصّلاح ليس بتبذير. وقد قال بعضهم لمن رآه ينفق في وجوه الخير: لا خير في السّرف، فأجابه المنفق: لا سرف في الخير، فكان فيه من بديع الفصاحة محسن العكس. ووجه النّهي عن التّبذير هو أنّ المال جعل عوضا لاقتناء ما يحتاج إليه المرء في حياته من ضروريّات وحاجيّات وتحسينات. وكان نظام القصد في إنفاقه ضامن كفايته في غالب الأحوال بحيث إذا أنفق في وجهه على ذلك التّرتيب بين الضّروري والحاجّي والتّحسيني أمن صاحبه من الخصاصة فيما هو إليه أشدّ احتياجا، فتجاوز هذا الحدّ فيه يسمى تبذيرا بالنّسبة إلى أصحاب الأموال ذات الكفاف، وأمّا أهل الوفر والثّروة فلأنّ ذلك الوفر آت من أبواب اتسعت لأحد فضاقت على آخر لا محالة لأنّ الأموال محدودة، فذلك الوفر يجب أن يكون محفوظا لإقامة أود المعوزين وأهل الحاجة الذين يزداد عددهم بمقدار وفرة الأموال التي بأيدي أهل الوفر والجدّة، فهو مرصود لإقامة مصالح العائلة والقبيلة وبالتّالي مصالح الأمّة»(3)، هكذا دعا ابن عاشور إلى إعادة النّظر في الخلل الحاصل نتيجة عدم توزيع المال بشكل عادل بين المواطنين، فالتّبذير الذي لا يهتم الأغنياء به هو إضاعة لحقوق الفقراء.
 وهنا أتذكّر قول ابن العربي المعافري: «الأغنياء والولاّة مفرطون، وعلى سبيل التّقصير سائرون؛ فإنّ كلا الطّائفتين قد حازت من الأموال ما لو أُمِرَّت على وجه الحقّ والرّفق بالطّائفتين- أعني: الأغنياء والفقراء- من الخَلق لما ظهرت خصاصة، ولا هلك أحد هُزْلا، ولا ذهبت الأديان، ولا عوقبوا بالهرج، ولكنّهم حجبوا نعمة اللّه التي بأيديهم فحجب اللّه ما في خزائن رحمته عنهم»(4)، فعدم التّوازن في تقسيم الأموال بين النّاس يسبّب الكثير من المشاكل الاجتماعيّة والسّياسيّة والاقتصاديّة..
وفي هذا السّياق تطرّق ابن عاشور أيضا لقضيّة الرّبا التي انتشرت في البلاد الإسلاميّة بشكل كبير إبّان الاستعمار، فقال في تفسيره لقوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾ (البقرة:275)، «نظّم القرآن أهمّ أصول حفظ مال الأمّة في سلك هاته الآيات. فبعد أن ابتدأ بأعظم تلك الأصول وهو تأسيس مال للأمّة به قوام أمرها، يؤخذ من أهل الأموال أخذا عدلا ممّا كان فضلا عن الغنى فقرضه على النّاس، يؤخذ من أغنيائهم فيردّ على فقرائهم، سواء في ذلك ما كان مفروضا وهو الزّكاة أو تطوّعا وهو الصّدقة، فأطنب في الحثّ عليه، والتّرغيب في ثوابه، والتّحذير من إمساكه، ما كان فيه موعظة لمن اتعظ، عطف الكلام إلى إبطال وسيلة كانت من أسباب ابتزاز الأغنياء أموال المحتاجين إليهم، وهي المعاملة بالرّبا»(5) 
فتأثّر الدّول الإسلاميّة اقتصاديّا بعد استعمارها من طرف الغرب كان واضحا، حيث أصبحت تابعة له، ومن ثمّ انتشرت المعاملات الرّبويّة، فتساءل النّاس عن موقف الشّرع من هذه المعاملات، -وهذا الإشكال لازال مستمرا إلى يومنا هذا- وقد كان لابن عاشور رأي مقاصديّ في الموضوع، يتّضح من خلال تفسيره للآيتين 130 - 131 من سورة آل عمران ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً  وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ﴾. يرى الشّيخ أنّه « بعدما صارت سيادة العالم بيد أمم غير إسلاميّة وارتبط المسلمون بغيرهم في التّجارة والمعاملة، وانتظمت سوق الثّروة العالميّة على قواعد القوانين التي لا تتحاشى المراباة في المعاملات، ولا تعرف أساليب مساواة المسلمين، دهش المسلمون وهم اليوم يتساءلون وتحريم الرّبا في الآية صريح، وليس لما حرّمه اللّه مبيح، فيرى أنّه لا مخلص من هذا المضيق إلاّ أن تجعل الدّول الإسلاميّة قوانين ماليّة تبنى على أصول الشّريعة في المصارف والبيوع وعقود المعاملات المركّبة من رؤوس الأموال وعمل العمّال وحوالات الدّيون، وهذا يقتضي إعمال أنظار علماء الشّريعة والتّدارس بينهم في مجمع يحوي طائفة من كلّ فرقة كما أمر اللّه تعالى»(6)، ولو أنّ علماء المسلمين أخذوا برأي الشّيخ ابن عاشور لما بقيت المسألة معقّدة الى يومنا هذا، فنحن نرى تخبّط المسلمين في هذا الموضوع خاصّة بعد ظهور البنوك التّشاركيّة.
ولم يغفل الشّيخ عن إبراز مقاصد تحريم الرّبا برؤية مقاصديّة فيقول: «ويمكن أن يكون مقصد الشريعة من تحريم الربا البعد بالمسلمين عن الكسل في استثمار المال وإلجائهم إلى التشارك والتعاون في شؤون الدنيا فيكون تحريم الربا ولو كان قليلا مع تجويز الربح من التجارة والشركات ولو كان كثيرا تحقيقا لهذا المقصد»(7) ، وهذا باب من أبواب نماء الاقتصاد، بالإضافة إلى الآيات التي تحثّ على استثمار المال وعلى إخراج الزّكاة وغيرها من الأمورالمرتبطة بالمال، وقد فصل القول في تفسير هذه الأمور حيث تطرّق لبيان معنى قوله تعالى: ﴿مَّآ أَفَآءَ اللَّهُ عَلَيٰ رَسُولِهِ مِنَ اهْلِ الْقُريٰ فَلِلهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبيٰ وَالْيَتَٰميٰ وَالْمَسَٰكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَي لَا يَكُونَ دُولَةَ بَيْنَ الَاغْنِيَآءِ مِنكُمْ وَمَآ ءَاتيٰكُمُ اُلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهيٰكُمْ عَنْهُ فَانتَهُواْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ (الحشر: 7) فقال إنّ: «تفاصيل من علم الاقتصاد السّياسي وتوزيع الثّروة العامّة ونعلل بذلك مشروعيّة الزّكاة والمواريث والمعاملات المركبة من رأس مال»(8)، فالقرآن الكريم مليء بالآيات التي يمكن أن تكون أساسا لعلم الاقتصاد الإسلامي، إذا ما تمّ تنزيلها على أرض الواقع، دون الحاجة إلى اتباع الغرب في معاملاتهم الماليّة.
المحور الثّالث: المرأة في الفكر الإصلاحي لابن عاشور 
لقد عانت المرأة في القرون المتأخّرة معاناة حقيقيّة، خاصّة مع انتشار الجهل والأمّية والابتعاد عن منابع الإسلام، فحرمت المرأة من الحقوق التي كلفها لها الإسلام، وتمتّعت بها في فترة زمنيّة سابقة كما هو الشّأن في صدر الإسلام أو في الأندلس، ففي القرن التّاسع عشر كان ممنوعا تعليم النّساء أو المطالبة ببعض حقوقهن خاصّة في المغرب العربي، فبرز مجموعة من العلماء يطالبون بإعادة هذه الحقوق لهن، لذا كانت قضيّة المرأة قضيّة حارقة في ذلك العصر، إذ لم يكن من السّهل الانتفاضة على العادات السّائدة لقرون طويلة، فظهر في المغرب علاّل الفاسي  وهو من المدافعين الأوائل عن حقوق المرأة  وخاصّة حقّها في التعليم، و ظهر في  تونس شيخنا محمد الطّاهر بن عاشور الذي اهتم بالمرأة كثيرا، وبيّن دورها في بناء مجتمع حضاري ومتقدّم، فيقول في تفسيره للآية: ﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَة وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ (البقرة:228)، «ودين الإسلام حريّ بالعناية بإصلاح شأن المرأة، وكيف لا وهي نصف النّوع الإنساني والمربّية الأولى التي تفيض التّربية السّالكة إلى النّفوس قبل غيرها، والتي تصادف عقولا لم تمسّها وسائل الشرّ، وقلوبا لم تنفذ إليها خراطيم الشّيطان، فإن كانت تلك التّربية خيرا وصدقا وصوابا وحقّا، كانت أوّل ما ينتقش في تلك الجواهر الكريمة، وأسبق ما يمتزج بتلك الفطر السّليمة»(9)، فالمرأة هي التي تسهر على تربية الأجيال لذا وجب الاهتمام بتربيتها وتعليمها لتتمكّن من صناعة المصلحين لأحوال الأمّة. ويضيف مبرزا مكانة المرأة «ودين الإسلام دين تشريع ونظام فلذلك جاء بإصلاح حال المرأة ورفع شأنها لتتهيّأ الأمّة الدّاخلة تحت حكم الإسلام إلى الارتقاء وسيادة العالم»(10)، وهذه دعوة صريحة لإعادة النّظر في حال المرأة في عصره.
كما بيّن بعض حقوق المرأة في معرض تفسيره للآية الكريمة: ﴿وَلَمَّا وَرَدَ مَآءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّة مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَٰنِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّيٰ يُصْدِرَ الرِّعَآءُ وَأَبُونَا شَيْخ كَبِير فَسَقيٰ لَهُمَا ثُمَّ تَوَلّيٰٓ إِلَي الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَآ أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْر فَقِير﴾ (القصص:23)، فقال: «وفي إذنه لابنتيه بالسّقي دليل على جواز معالجة المرأة لأمور مالها وظهورها في مجامع النّاس، إذ كانت تستر ما يجب ستره، فإن شرع من قبلنا شرع لنا إذا حكاه شرعنا ولم يأت من شرعنا ما ينسخه»(11)، فعمل المرأة والقيام بشؤونها ليس عيبا، خاصّة في عصر ابن عاشور الذي حرمت المرأة فيه من أمور كثيرة، مثل التّعليم والتّطبيب وزيارة الأهل، والمطالبة ببعض الحقوق، لذا اهتم الشّيخ  بحياة المرأة، ودافع عن حقوقها، وهناك عدّة فتاوى له مرتبطة بشأنها مثل فتوى اللّباس والزّينة(12).
المحور الرّابع: الدّفاع عن العبادات في ظلّ تقليد الغرب: الصّيام نموذجا
ومن بين القضايا التي شغلت رأي المجتمع التّونسي، قضايا مرتبطة بالهويّة الإسلاميّة، وذلك بسبب خطابات الرّئيس الحبيب بورقيبة التي كانت مثيرة للجدل، ففي خطابه سنة 1962م دعا إلى منع الصّيام، وفي خطابه 1964م حاول منع التّونسيين من الحجّ بحجّة إهدار الأموال، وفي خطاب 1981منع ارتداء الحجاب، وفي خطب أخرى منع صلاة الفجر، ودعا اللاّجئين الفلسطينيّين إلى عدم التّمسّك بالعاطفة والاعتراف بقرار التّقسيم الذي صدر سنة 1947م، وغيرها من الخطابات التي استفزّت الشّعب والعلماء، فرغم انتهاء الاستعمار العسكري، إلاّ أنّ الاستعمار الفكري بقي راسخا في العديد من الزّعماء، فالحبيب بورقيبة درس بجامعة السّوربون، وتأثّر بالحضارة الغربيّة التي تعتبر أنّ التّطوّر الحضاري مرتبط بالجانب المادّي فقط وبكميّة الإنتاج ، لذا اعتقد أنّ صوم المسلمين في رمضان يعطّل الأعمال، ومن ثمّ تتراجع حركة الإنتاج، ولذلك طلب من الفقهاء وعلى رأسهم الشّيخ ابن عاشور أن يقوموا بإصدار فتوى بجواز إفطار العمّال في شهر رمضان، لكنّ الشّيخ رفض الخضوع للحاكم(13)، وتغيير أوامر اللّه عزّ وجل، لأنّ الصّيام ركن من أركان الإسلام، ويتجلّى هذا التّشبّث بأوامر اللّه من خلال تفسيره لآيات الصّيام مبرزا القصد والغرض من هذه العبادة، ففي قوله عز وجل: ﴿يَٰٓأَيُّهَا الذِينَ ءَامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَي الذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾(البقرة: 183) يقول: «حكم الصّيام حكم عظيم من الأحكام التي شرّعها اللّه تعالى للأمّة، وهو من العبادات الرّامية إلى تزكية النّفس ورياضتها، وفي ذلك صلاح حال الأفراد فردا فردا، إذ منها يتكون المجتمع»(14)، فالإسلام جاء لهداية النّاس أجمعين وهؤلاء النّاس يشكّلون مجتمعات مختلفة، وصلاحها مرتبط بصلاح الأفراد، لذا نجد أنّ الصّيام من العبادات التي تزكّي الإنسان الفرد وتهذّب نفسه «فالقصد الشّرعي من الصّوم ارتياض النّفس على ترك الشّهوات وإثارة الشّعور بما يلاقيه أهل الخصاصة من ألم الجوع واستشعار المساواة بين أهل الجدّة والرّفاهيّة وأهل الشّظف»(15)، فمن شأن الصّيام أن يجعل المجتمعات متماسكة بشكل أكثر، وذلك حين يصبح الإنسان الغنيّ يحس بجوع الفقير، ومن ثمّ فالصّيام لا علاقة له بمردوديّة الإنتاج بل من شأنه أن يجعل الإنسان أكثر نشاطاً وخفّة، وذلك حين يتخلّص من الدّهون التي تترسّب في جسده فتصبح سببا في السّمنة والأمراض، ومن ثمّ فإنّ حجّة الرّئيس هي حجة واهية، ولعلّه لو وجد من يخاف منه ويطبق قراره لضاع ركن من أركان الإسلام في تونس.
وتجدر الإشارة إلى أن ابن عاشور عمد إلى استعمال الفلسفة  في تفسير هذه الآية -وذلك لكونه درس المنطق والفلسفة في الجامعة – ومن ثمّ كان تفسيره مقنعا للجميع، فقد قال في أهمّية الصّيام وكونه فرصة للإقلال من الطّعام والحصول على نشاط الجسم: « كان حكماء اليونان يرتاضون على إقلال الطّعام بالتّدريج حتّى يعتادوا تركه أياما متوالية، واصطلحوا على أنّ التّدريج في إقلال الطعام تدريجيّا لا يخشى منه انخرام صحّة البدن، أن يزن الحكيم شبعه من الطّعام بأعواد من شجر التّين (...) وفي حكمة الإشراق للسّهروردي (وقبل الشّروع في قراءة هذا الكتاب يرتاض أربعين يوما تاركا للحوم الحيوانات، مقلّلا للطّعام منقطعا إلى التّأمل لنور اللّه»(16)، وذلك حتى يصبح الإنسان سليم الفكر معافى في بدنه من السّموم، فتصفو نفسه للتّأمل والفهم، وهذا ما أكّده الشّيخ ابن عاشور قائلا: «فالاقتصاد في إمداد القوى الحيوانيّة وتعوّد الصّبر، فيحصل للإنسان دربة على ترك شهواته فيتأهّل للتّخلّق بالكمال»(17)، فيصبح الإنسان أكثر نشاطا وليس العكس، ومن ثمّ لا يوجد سبب في ترك هذه الفريضة أبدا إلاّ لمن كان مريضا أو مسافرا، وذلك ضمن الرّخص التي أتاحها اللّه للمسلمين.
وهكذا استطاع ابن عاشور الوقوف ضدّ الرّئيس وإقناع النّاس، والفضل يرجع لمكانته في البلاد، وتكوينه العلمي والفلسفي الذي جعله يخاطب في تفسيره مختلف النّاس، فالذين يؤمنون بالأدلة العقليّة (البرهانيّون) سيجدون تفسيره لمقاصد الصّيام تدلّ عليها الحكمة والعلم كذلك، والخطابيّون خطب فيهم عبر المذياع خطبة قصيرة حيث ذكر آية الصّيام وختم بصدق اللّه العظيم وكذب بورقيبة، وأنهى هذا الجدال.
الهوامش
(1) التحرير والتنوير، ج4، ص.ص234 - 235 
(2) التحرير والتنوير، ج 2، ص187.
(3) التحرير والتنوير، ج 15، 79.
(4) سراج المريدين، ج1 ، ص.ص 76-75.
(5) التحرير والتنوير، ج3، ص78. 
(6) التحرير والتنوير، ينظر: تفسير الآية 131من سورة آل عمران، ج 2، ص87. 
(7)نفسه.
(8) التحرير والتنوير،ج1 ص 43.
(9) التحرير والتنوير، ج 2، ص400.
(10) التحرير والتنوير، ج 2، ص401.
(11) التحرير والتنوير، ج 20، ص 102. 
(12) لمزيد من التفاصيل يمكن العودة إلى كتاب «فتاوى الشيخ الإمام محمد الطاهر بن عاشور»، جمع وتحقيق: محمد بن ابراهيم بورقيبة، مركز جمعة المساجد للثقافة والتراث، دبي، ط1 ،2004م، ص34/33.
(13) قال الشيخ في معرض حديثه عن الحاكم الفاسق» وقال جمهور أهل السنة لا يخلع بالفسق والظلم وتعطيل الحدود، ويجب وعظه وترك طاعته فيما لا تجب فيه طاعة وهذا مع القدرة على خلعه، فإن لم يقدر عليه إلا بفتنة وحرب فاتفقوا على منع القيام عليه وأن الصبر على جوره أولى من استبدال الأمن بالخوف وإراقة الدماء» ولهذا نجد ابن عاشور عارض الحاكم فيما يجب معارضته دون خوف منه، وهذا القول أورده في تفسير الآية 124 من سورة البقرة (معنى الإمام)، في الجزء الأول ، ص707.
(14) التحرير والتنوير، ج2، ص 154.
(15) التحرير والتنوير، ج2، ص 160. 
(16)نفسه.
(17) نفسه.