الدولة في الحديث النبوي

بقلم
الهادي بريك
الحلقة الخامسة - الدولة الإسلامية دولة إجتماعية
 هذا التّركيب (دولة إسلاميّة) لم يرد مطلقا في الوحي، ولا حتّى في خطاب الصّحابة وفي الأجيال الثّلاثة الأولى المشهود لها نبويّا بالصّلاح. ليس المعنى من ذلك أنّ الإسلام لا يطمح إلى إنشاء كيان سياسيّ يحمي الأمّة وينمّيها وييسّر لها أداء رسالتها، لا. أبدا. فما ورد من تعليمات سياسيّة وقضائيّة وماليّة وغيرها في القرآن الكريم إنّما هي لإنشاء كيان سياسيّ ييسّر قيامها. ولذلك أمر القرآن الكريم بإقامة ذلك الكيان (سمّه دولة إن شئت، ولكنّ الإسلام لا يحفل بالأسماء والعناوين) من باب ما لا يتمّ الواجب إلاّ به فهو واجب. إقامة العدل ـ الذي هو المقصد الأعظم من الوحي كلّه ـ لا يتمّ إلاّ بقوّة سلطان، وقس عليه تعليمات كثيرة. ولكنّه لم يدع مباشرة إلى إقامة ذلك الكيان، وتلك هي سياسة التّشريع في الإسلام. ولكنّ النّبيّ المكلّف بالتّبيين قام بإنشاء ذلك الكيان أوّل ما توفّرت له أسبابه، أي بعد هجرته مباشرة : إذ توفّرت الأرض والحرّية والأمّة. ثمّ بدأت أسباب القوّة تتراكم يوما من بعد يوم. ومن لم يفقه أنّ إقامة كيان إسلاميّ سياسيّ جدير بإقامة الحقّ والعدل والحرّية والكرامة وبثّ الدّعوة إلى اللّه سبحانه فهو لا يريد أن يفقه لعيب فيه وليس لعيب في الوحي. ولكن في مقابل ذلك لم يحرص الإسلام أيّ حرص على الأسماء والألقاب والعناوين ليقول هذه دولة إسلاميّة أو خلافة أو إمارة أو ملك شرعيّ. من يستقرئ الإسلام من مصدريه اللّذين ينطقان بإسمه (القرآن والسنّة) يجد حرصا شديدا على إنفاذ مقاصد الإسلام في الشّأن العامّ، ولا يجد أوعية موضوعة يجب عليه إختراعها، أو أسماء تجب عليه رعايتها. وعندما يقوم ذلك الكيان فيؤدّي رسالته فلا حرج عليك أن تخلع عليه أيّ إسم أو عنوان، إذ العبرة ـ هنا ـ بالمقاصد والمعاني، لا بالأشكال والمباني. 
ممّا يستنبط من الحديث النّبويّ أنّ الدّولة في الإسلام تقوم على الوظيفة الإجتماعيّة في أبعادها الماليّة والإقتصاديّة والإستثماريّة لأجل إرساء قيم العدل والقسط بين النّاس والمساواة بينهم تكافؤا في فرص العمل والكسب. من ذلك قوله ﷺ ممّا أخرجه مسلم عن أبي هريرة: «أنا أولى بكلّ مسلم من نفسه. فمن ترك مالا فلورثته ومن ترك دينا وضياعا فإليّ وعليّ». وهو يتكلّم هنا ﷺ بمقام الدّولة. أنا: معناها بصفتي السّياسية ومقتضاها أنّ هذا المقام يتولاه كلّ من يرث في الدّولة الإسلاميّة شيئا من المسؤوليّة. المعنى هو أنّ الدّولة في الإسلام تتحمّل ديون النّاس الذين عجزوا عن أدائها وتقوم على الإنفاق على عائلاتهم المعرّضين للضّياع من بعد موتهم. كيف لا، ومن مصارف الزّكاة التي تقوم عليها الدّولة جباية وصرفا (ضمن ديوان العاملين عليها) : الغارمين وهم المدينون الذين عجزوا عن تسديد ديونهم. كما قال ﷺ في موضع آخر ممّا أخرجه أبو يعلى عن أبي سعيد الخدريّ «لا قدّست أمّة لا يعطى فيها الضّعيف حقّه غير متعتع». المتعتع : هو المؤذى. إلى هذا الحدّ تصل قيمة العدل في الإسلام حيث لا عبرة لأمّة ـ حتّى لو كانت الأمّة الإسلاميّة المستخلفة في الأرض ـ لا ترسى فيها دعائم العدل الماديّ كاملة. 
هل أمّتنا اليوم مقدّسة بهذا المعنى؟ أبدا. أينما حللت وإرتحلت شرقا وغربا تمتلئ الأرض بالمساجد، ولكن قليلا ما تجد عدلا وقسطا. تجد من يطوي جوعا ويموت من شدّة المرض والأوبئة المعدية وجيرانهم تستبدّ بهم التّخمة. تجد الكلاب والقطط في قصور المترفين في البلاد الإسلاميّة مدلّلة تأكل ملء أشداقها ولها أوراق هويّة رسميّة وأطفال المسلمين لا يجدون كتابا أو كرّاسا أو قلما يخرجون به من ظلمات الأمّية. حتّى الخطباء قليلا ما تسمع من بعضهم هذا الحديث، لأنّه حديث لا يرضي السّلطان. أجل. إلى هذا الحدّ تكون قيمة العدل في الأمّة. معيار تقديسها من لدن القدّوس سبحانه هو إقامة العدل بين النّاس،فإذا كثرت المساجد وكثر المصلّون وظلّ القهر كما هو فاعلم أنّها عبادة لا علاقة لها بالإسلام الذي جاء به محمّد ﷺ. جاء في السّيرة الصّحيحة أنّه عليه السّلام كان يؤوي أهل الصّفة في مسجده، فيه يبيتون وفيه يقيلون، وفيه يقيمون، وفيه يأكلون، وفيه يشربون، وفيه يصلّون. وهم من فقراء المسلمين ومنهم الصّحابيّ الكريم الذي قدّ اللّه سبحانه فؤاده حاسوبا إلكترونيّا لا يهمل شيئا سمعه (ابوهريرة وإسمه : عبد الرّحمان بن صخر). كما ظلّ ﷺ يحثّ على قيمة التّضامن والتّكافل حتّى قال فيما أخرجه الشّيخان عن النّعمان بن بشير: «مثل المؤمنين في تواددهم وتعاطفهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا إشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسّهر والحمّى». وقال في موضع آخر يحشد فيه المسلمين إلى قيم العدل والقسط وبناء صفّ واحد مرصوص متكافل فيما أخرجه الشّيخان عن أبي موسى الأشعريّ «رحم اللّه الأشعريين كانوا إذا أرملوا في الغزو جمعوا ما عندهم ثمّ إقتسموه بينهم بالسّوية، فأنا منهم وهم منّي». منهج إقتصاديّ تكافليّ إجتماعيّ حقيقيّ.  التّكافل فريضة إسلاميّة لا تقلّ شأنا أبدا البتّة عن أيّة فريضة تعبّدية أخرى. أليست الزّكاة إحدى المباني الخمسة للإسلام؟ أليست الزّكاة فريضة ماليّة لأجل إرساء قيم التّكافل؟ لو لم يكن في الإسلام غير هذا لكفاه دينا إجتماعيّا يسعى إلى إرساء نظام إقتصاديّ تكافليّ إجتماعيّ. لم تكن مشكلتنا مع الإسلام يوما مشكلة علم أو مشكلة نقص في تعليماته. مشكلتنا واحدة دوما وهي مشكلة الهوى الذي يصرفنا عن لزوم الحقّ، مشكلة الأثرة والأنانية القاتلة. وما زاد الطّين بلّة أنّنا تأثّرنا بالنّزعة المادّية للحضارة الغربيّة التي تحتلّ منّا عقولا كثيرة.
من مهمّات الدّولة في الإسلام كفالة المحتاجين بصفة عامّة ومنهم المحتاجون إلى النّكاح، ولذلك قال ﷺ فيما أخرجه التّرمذيّ عن أبي هريرة: « ثلاث حقّ على اللّه عونهم : المجاهد في سبيل اللّه والنّاكح الذي يريد العفاف والمكاتب الذي يريد الأداء». قوله : حقّ على اللّه يعني حقّ على الأمّة، لأنّ الأمّة مكلّفة بإنفاذ أوامر اللّه سبحانه قدر المستطاع. والأمّة مكلّفة بتشييد كيان سياسيّ يقوم على شأنها، فهي الدّولة إذن. الدّولة في الإسلام إذن مكلّفة برعاية هذه الحاجات الثّلاث التي ترصّ الصفّ وتلبّي المقاصد العظمى : حاجة الجهاد تحريرا لبلاد محتلّة، فأيّ قيمة لبلاد محتلّة؟ وكيف تستقبل تعليمات دينها وهي محتلّة؟ وحاجة الزّواج عند الرّجال والنّساء، سواء بسواء. أجل. على الدّولة تخصيص جزء من ميزانيتها لإنكاح المؤهّلين لذلك. في ذلك عفاف لهم وللمجتمع وخنق للرّذيلة وتجفيف لمنابعها وللجريمة بصفة عامّة، وفي ذلك تكثير لعدد المسلمين، وفي ذلك تعارف بين النّاس، والتّعارف من أكبر مقاصد الإسلام، وفي ذلك تعمير للأرض، وحاجة تحرير العبيد. ولذلك نجح الإسلام في غضون عقود قصيرات في تجفيف منابع الرّق، إذ رتّب على العاصي كفّارات منها تحرير الرّقيق. 
ظلّ المسلمون يحرّرون العبيد في أصقاع الأرض كلّها حتّى نشأت خلافة إسلامية كاملة عمّرت قرونا وعليها عبيد، وهي دولة المماليك. 
صندوق الزّكاة في الإسلام يقوم على مثل هذه الحاجات. ولذلك قاتل الخليفة أبوبكر عليه الرّضوان المسلمين في اليمامة لمّا منعوه هو ـ بصفته السّياسيّة ـ الزّكاة التي كانوا يؤدّونها إلى رسول اللّه ﷺ. ذلك أنّ الدّولة في الإسلام هي من تأخذ الزّكاة وجعل اللّه لها ديوانا أسماه هو بنفسه سبحانه (ديوان العاملين عليها) وذلك حتّى يتحصّل هذا الدّيوان على أسباب قوّته وإستمراريته ورساميله البشريّة والماليّة. والمقصد منه ليس سوى تعميق قيمة التّكافل الإجتماعيّ بين النّاس. ليس خطبا منبريّة تتحرّك بها العيدان فحسب، وليس تحريضات وترغيبات فحسب، ولكن بقوّة الدّولة، وبتفريغ ديوان كامل، ولذلك قال الذي قال بحقّ : «ليس هناك أمّة حاربت لأجل حقوق الفقراء والمساكين عدا الأمّة الإسلاميّة بقيادة أبي بكر. وليس هناك أمّة زجّت برجالها ونسائها في أتون الحرب والموت لأجل حقوق المحتاجين إلاّ الأمّة الإسلامية». 
أجل. لهذا الحدّ هي قيمة التّكافل الإجتماعيّ، ولكنّا غافلون، غافلون حتّى الثّمالة، بل حتّى النّخاع. ألمانيا دولة إجتماعية بالدّستور، ونحن أحرى بأن نكون كذلك بالدّستور وبالواقع. دولة الفاروق إبن الخطّاب عليه الرّضوان كانت دولة إجتماعيّة بالعمل. دستورها هو القرآن الكريم والسّنة. القرآن والسنّة صريحان في أولويّة الفريضة الإجتماعيّة : على الفرد والأسرة والدّولة، سواء بسواء كلّ فيما يليه. زكاة المال فريضة، زكاة الفطر واجبة، وواجب على الأمّة جمعاء قاطبة تمويل المشروعات التي لا بدّ منها لتحقيق تحرّرها وإستقلالها وقوّتها ومنعتها وحماية بيضتها وتعليم أبنائها وبناتها وبلوغ سؤددها.
 في المال حقّ سوى الزّكاة كما قال الفقهاء، ولكن كلّ ذلك للدّولة الشّرعية العادلة. ولو غضضنا الطّرف عن شرط الشّرعية لأسباب معلومة فلا أقلّ من كون الدّولة التي يصرف إليها كلّ ذلك عادلة، أي أدنى إلى العدل. إذ العدل قيمة ليس لها نهاية. كانت دولة الفاروق دولة إجتماعيّة إذ فرض للعجزة ـ حتّى من اليهود الذين هم مواطنون فيها وكبرت سنّهم ـ رواتب قارّة من بيت المال. بل فرض الفاروق لكلّ مولود جديد في دولته منحة مالية. كثير من التّغطيات الإجتماعيّة التي يتباهى بها الغرب اليوم أصلها إسلاميّ وتحديدا ممّا إستلهمه الفاروق من الدّستور القرآنيّ الكريم ونفّده. الصّفة الإجتماعيّة للدّولة الإسلاميّة لا تعني فتح الأبواب على مصراعيها في وجه الرّأسماليّة الجشعة والعولمة الشّرهة لتضحى البلاد مرتعا خصبا ينهل منه الغربيّون الغزاة الموادّ الخام ينقلونها إلى مصانعهم ويحوّلونها إلى منتجات ثمّ يكرهوننا على إقتنائها بقروض ربويّة مجحفة وبأسعار جنونيّة.  وليست الصّفة الإجتماعيّة لدولة الإسلام تعني تأميم الدّولة لقيم الحرث صناعة وزراعة وفلاحة ليظلّ النّاس عبيدا لديها يشتغلون بأجر. الصّفة الإجتماعيّة للدّولة في الإسلام تعني ترتيب علاقة إنتاجيّة وإستثماريّة بين المجتمع وبين الدّولة على أساس يشجّع العمل والتّنافس فيه من جهة، وعلى أساس تأمين التدخّل الحكوميّ فريضة لا حسنة لأجل رعاية المحتاجين من جهة أخرى. يمكن أن يسمّى ذلك : الإقتصاد التّكافليّ، تكافلا بين الدّولة وبين المجتمع، وتكافلا بين النّاس أنفسهم، وتكافلا بين القطاعات الثّلاث الكبرى المعروفة (الصّناعات الثّقيلة والمتوسّطة ـ القطاع التّحويليّ ـ القطاع الخدماتيّ). ولكنّ الأمّة اليوم محرومة من غشيان القطاع الأوّل الذي يؤمّن إستقلالها السّياديّ الذي يؤمّن بدوره إستقلالها الإقتصاديّ، ويترك لها القطاع الخدماتيّ لتكون حدائق خلفيّة تؤمّن الإستمتاع للرّجل الأبيض، أو ضيعات للمادّة الخام من مثل الذّهبين الأحمر والأسود (الذّهب والبترول) وتكون الأمّة بأسرها عبيدا وإماء لدى البنك الدّوليّ. الصّفة الإجتماعيّة لدولة الإسلام لا تعني عدم إحتضان إقتصاد السّوق القائم على معركة العرض مع الطّلب، وهو منهج قام عليه السّوق النّبويّ ذاته. إذ قال ﷺ ـ فيما أخرجه الخمسة إلاّ النّسائيّ عن أنس بن مالك ـ  لمّا دعي إلى التّسعير (إنّ المسعّر هو اللّه سبحانه). أي : ربط هذا النّشاط الإقتصاديّ مرّة أخرى باللّه سبحانه من جهة، وأشار عليهم بأنّ معركة العرض والطّلب هي من تحدّد السّعر.