وبعد

بقلم
محمد القوماني
تقاعد الدنيا ومعراج الآخرة كيف نتعقّل مسار حياتنا فنتفهم الموت ولا ننزعج منه؟
 في الذكرى الخامسة لإحالتي على شرف المهنة/ التّقاعد (جويلية 2018) أستحضر تدوينة نشرتها بالمناسبة  على حسابي بالفايس بوك. وممّا جاء فيها: «قضيت ثلاثة عقود ونصف في التّدريس بالتّعليم الثّانوي والعالي وبالتّعاون الفنّي وبلغت أعلى السلّم المهني. وقد تشرّفت بهذه المهنة وأرجو أن أكون قد شرّفتها. ولو استقبلت من أمري ما استدبرت لفضّلتها على غيرها(...) ويهمّني أن أختم هذه التّدوينة بالإشارة إلى أنّه لمّا كان العمل تحقيقا للذّات، وواجبا وشرفا، واختيارا حرّا، فإنّ الوظيفة التي نكسب منها قوتنا تبدو أقرب للاضطرار، وقد تضيّق على أعمال أخرى أو لا تسمح بها. وإنّ مرحلة التّقاعد إذا أطال اللّه تعالى في عمرنا وأمدّنا بالصّحة الجسمانيّة والعقليّة والنّفسيّة، تتيح لنا فرصة اختيار الأعمال والأدوار التي نختارها بعد نضج، ويسرّنا أن نختم بها حياتنا». وأعود اليوم لهذا المعنى الأخير، الذي كان ماثلا بقوّة في تفكيري، لأعمّق فيه النظر بعد فترة من التأمّل ليست بالقصيرة، ولأضيف إليه معاني جديدة استقرّ عليها تفكيري في هذه المرحلة. والتي أوجزها في اعتبار الولادة خروجا إلى كَبَدِ الحياة الدّنيا، والموت معراجا إلى الحياة الٱخرة. وأنّ الحياة الثّانية أولى من الأولى. وأنّ تقاعدنا المهني في دنيانا يمنحنا إيلاء ٱخرتنا ما تستحقّ منّا. وأنّنا حين نتعقّل مسار حياتنا نتفهّم الموت أكثر ونتهيّأ له ولا ننزعج منه. وإليكم التّفاصيل.
الموت نقيض للولادة، وليس نقيضا للحياة كما يتبادر إلى الفهم في أغلب الاستعمالات السّائدة. فالموت ليس نهاية الحياة بل نهاية دنيانا التي تبتدئ بولادتنا. إذ الحياة في عقيدة المؤمن فيها دنيا فانية وفيها آخرة خالدة. وإنّ من أهمّ أركان إيمان المسلم بعد توحيد اللّه تعالى الإيمان بالغيب وجوهره عقيدة المَعاد. ومن الأوصاف القرآنيّة الجامعة للمؤمنين عقيدة وسلوكا قوله تعالى:﴿يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْمُنكَرِ وَيُسَٰارِعُونَ فِى ٱلْخَيْرَٰاتِ وَأُوْلَٰٓئِكَ مِنَ ٱلصَّٰالِحِينَ﴾(آل عمران:114) بل إنّ أهمّ إضافة نظرية للدّين، كل دين، في فلسفة الحياة هو الإيمان بالخلود في الحياة الآخرة. وهذه إحدى نقاط قوّة الدّين وإحدى وظائفه الأساسية وسرّ بقائه عبر تاريخ الإنسان.
كنتُ كلّما شعرت بأنّ الموت يقترب منّي، على غرار فترة جائحة كوفيد 19، حين عشنا لحظات غير مسبوقة، يكاد تستوي فيها فرص الحياة أو الموت. حيث يحاصرنا فيروس كورونا القاتل، فتُحبس أجسادنا بين جدران منازلنا، وتحبس أنفسنا التّائقة إلى المطلق في أجسادنا المشدودة للشّهوات، ويبدو الموت أسوأ ما ينتظرنا أو يتربّص بأحبّتنا. في تلك الفترة حيث بدت الحاجة أكيدة إلى أن نتفكّر في أفق أرحب، باستدعاء الرّوحانيّة الإيمانيّة التي تقوّي العزم وترفع من المعنويات والمناعة. وأن نحاول كسب المعركة الفرديّة ضدّ الموت بالتّحرّر الذّاتي من الخوف منه، وحسن الاستعداد له بحسن الخاتمة. كانت تحضرني في تلك الفترة خاصّة، وحين أفقد عزيزا عليّ إلى الأبد بصفة عامّة، قناعة بأنّ «الحياة ليست في نهايتها سوى معركة خاسرة ضدّ الموت». وكثيرا ما ردّدت ذلك لبعض الأصدقاء أو كتبته أحيانا. 
كيف لا تبدو الحياة الدّنيا كذلك، ونحن بعد الولادة في حضانة الوالدين صغارا، أو في مرحلة التّعويل على ذواتنا شبابا وكهولا، أو في رعاية الأبناء عند الشّيخوخة والعجز، نفعل كلّ ما في وسعنا حتى نعيش بلا أوجاع ولا معاناة و«حتى لا نموت». فنتخيّر أكلنا وشربنا ما استطعنا. ونتوقّى من الأمراض أو نتداوى منها. ونستنبط ما يريحنا من الفراش والغطاء. ولكن يظلّ الموت يطاردنا ويصطادنا في النّهاية. ومثلما قال من قبل الشّاعر ابن نباتة السّعدي: 
ومن لم يمت بالسّيف مات بغيره  ***  تعدّدت الأسباب والموت واحد.
وإذا كنّا إلى حدّ الٱن، لا يمكننا عمل أيّ شيء لرد ّالموت نهائيّا، فإنّه بوسعنا أن نعدّل رؤيتنا لموضوع الموت، لنتصالح أكثر مع عالمنا ونتوازن في تفكيرنا ونطمئن في حياتنا الدّنيا ونُحسن خاتمتنا. وبالعودة إلى موضوع اهتمامنا الأصلي أروم الإشارة إلى أنّنا بعد الولادة نكون أكثر انشدادا للحياة الدّنيا ونعمل كل شيء حتى نؤمّنها على أحسن صورة، حسب المراحل كما أسلفنا. ومن هنا أقدّر أنّ العمل، أيّ عمل، بما هو كسب للمعاش، هواختيار وتحقيق للذّات كما يقال، ولكنّه قبل ذلك وبعده، هو اضطرار لدفع الموت بتوفير أسباب الحياة من أكل وشراب ودواء ولباس وغيرها. وفي هذا السّياق يمكن أن نفهم الٱية: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ﴾(البلد: 4). وقد ذهبت أغلب التّفاسير إلى البذل والتّعب والمكابدة والشّقاء وما يفيد هذه المعاني في تأويل الكَبَد.
ولا يخلو هذا الشّقاء  الدّنيوي من مُتعة كما يفيد القرآن أيضا:﴿قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ﴾ (الأعراف:24) مع التّحذير من أن يأخذنا غرور الحياة الدّنيا إلى طرق الكسب المحرّم على غرار الظّلم والغشّ وأكل أموال النّاس بالباطل. ومع التّنبيه أيضا إلى أنّ متاع الدّنيا لا يمثّل شيئا ذا بال أمام المتاع الأكبر في الجنّة. ولذلك أردف القرآن: ﴿وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾(آل عمران:185) فهو متاع فان وغارّ  لمن ركن إليه وظنّ أنّ الدّنيا نهاية ولا معاد بعدها. وإضافة إلى الوجوه المشروعة للتمتّع بالحياة الدّنيا، قد نسطّر ببعض أعمالنا فيها إسهاما في الحضارة الإنسانيّة أو أمجادا تخلّدنا وأخرى تظلّ صدقة جارية بعدنا.
هذا عموما شأن الحياة الدّنيا بعد الولادة كما استقرّت عليه تجربتي الذّاتية العمليّة والنّظريّة. لكن بعد التّقاعد يتغيّر الأمر تماما، وقد يحصل ذلك بالتّدريج كما في المرحلة التي بعد الولادة. فبعد التّقاعد المهني نخرج من الالتزامات الاضطراريّة لتأمين الحياة الدّنيا، (مقتضيات العمل) ونتكئ على جراية ممّا ادّخرنا من ضمان اجتماعي كمصدر قار للمعاش، لنفسح المجال إلى اهتمامات كانت مُؤجّلة أو مصادرة. وأستثني هنا بالطّبع المستضعفين من النّاس، الذين لا تقاعد مهني لهم أصلا، أو يضطرّون للعمل بعد التّقاعد، لتأمين عيشهم. فأولئك يظلّ كدحهم من أجل قوتهم، عبادة مفضّلة عن غيرها. تقرّبهم إلى ربهم وتزيد في ميزان حسناتهم.
فقد مضى زمان كاد يكون فيه التّقاعد متزامنا مع أجل الموت. وبتنا اليوم نستفيد من تحسّن معدّلات الأعمار بتطوّر الطبّ ووسائل العيش وتحضّر الإنسان، حتّى صارت مرحلة ما بعد التّقاعد جزءا هامّا من أعمارنا. نواصل فيها أخذ حظّنا من دنيانا. ويمكن أن نخوض خلالها تجارب جديدة عمليّة أو فكريّة أو علميّة أو غيرها. ونستمتع فيها بالطّبيعة او بالموسيقى أو بالسّياحة أو حتّى بالرّياضة إن رمنا. ولكن نظلّ خلال هذه المرحلة أقرب في مشاغلنا العمليّة والذّهنيّة إلى استحضار نهاية الحياة الدّنيا، والتّهيُؤ لبداية الحياة الآخرة بمعراج الموت، مع ازدياد شعورنا بالنّقص المستمر والمتسارع في أعمارنا، وضعف أبداننا. كما نستشفّ ذلك من التّجربة الذّاتيّة العمليّة والنّظريّة، وأيضا من التّأمّلات في تجارب الآخرين. 
لا يوجد فصل كامل بين الدّنيا والآخرة في فهمنا للإسلام. «ومن لا معاش له، لا معاد له» كما أُثر عن الإمام علي عليه السّلام. فهما متكاملتان، وتدفع كل منهما باتجاه الأخرى. ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ﴾ (القصص:77). ومن المأثور بالغ الدّلالة في هذا المعنى أيضا «اعمل لدنياك كأنّك تعيش أبدا واعمل لآخرتك كأنّك تموت غدا». وهذا الوصل العقدي الثّابت بين داري الدّنيا والآخرة، لا ينفي خصوصيّة التّعاطي معه في الحياة العمليّة للمؤمن. فكلّ وبلاؤه. ولكن التّفرّغ من المهنة «الدّنيويّة» بعد التّقاعد، قد يتيح من الوقت والأعمال للاهتمام بالآخرة ما لم يكن متاحا من قبل. 
وبقدر ما يكون الإقبال على الدّنيا كبيرا بعد الولادة، يتراجع بعد التّقاعد الإقبال على زينتها ويتكثّف التّفكير بالموت وما يليه. فيكون المؤمن أكثر زهدا في المتاع وأكثر تحرّيا للحلال. وتعلو روحانيّته  ويغلب تديّنه على دنياه. فيصير أشدّ حرصا على تدارك ما فاته من التمتّع بشعائر الإسلام على غرار أداء الصّلاة في أوقاتها وفي جماعة وفي الجامع ما أمكن. والسّعي أكثر للعمرة والحجّ ما استطاع إلى ذلك سبيلا. والاجتهاد في الذّكر والنّوافل والصّدقات. ويستحضر أكثر فأكثر ما يفيده عموم القرآن من أنّ الدّنيا ليست سوى مزرعة إلى الآخرة ومقدّمة لها. ولذلك لا يهتم بها الدّين إلاّ بقدر ما هي كذلك. إذ تظلّ الآخرة أهمّ كما تنصّ الآية صراحة  و﴿الْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ﴾. (الأعلى:17) وإن كنّا في الغالب وللأسف نقرأ هذه الآية أو غيرها من  آيات القرآن، دون أن نلقي لها بالا، أو لا تطابق فيها أفعالنا أقوالنا. فمن الولادة حتّى التّقاعد تكون الدّنيا مشغلنا الأساسي ومقدّمَة عن آخرتنا عموما. وهذا التّعميم لا يلغي الاستثناء وخصوصيّة تجارب البعض بالطّبع.
وممّا يعزّز لدينا أفضلية الآخرة، أنّها دار الخلود في الجنة لمن أحسن عملا وثقل ميزان حسناته، في مقابل الحياة الفانية. وفيها تُرفع الحجب عن الغيب وتتكشّف الأسرار التي تدركنا الموتُ دون بلوغها. ﴿فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ﴾ (ق:22). وفي الأثر المشهور أيضا « الناسُ نيامٌ فإذا ماتوا انتَبهوا». وفي الآخرة يلقى المؤمن ربّه ﴿يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ».(الانشقاق:6). ويلتقي بمن يشتاق إليهم ممّن تقدّم أو تأخّر من الرّسل والأنبياء عليهم السّلام والصّدّيقين والشّهداء وحسُنَ أولئك رفيقا من عظماء العالم من فلاسفة وعلماء ومفكرين وأدباء وفنانين ومبدعين وغيرهم. وما أجمله من لقاء.
وبتبيّن خصوصيّة زمنَي الدّنيا والآخرة والفوارق والتّقاطعات بينهما، نخلص إلى وضوح أكبر في أنّ الموت نقيض الولادة وليس نقيض الحياة كما قدّمنا. بل الموت في النّهاية مسار يقضم عمرنا المحدود، ويمكننا تعقّله أو تعديله. وليس الموت فقط لحظة لا يسعنا شهودها ولا التأثير فيها. وهذا المعنى يحفّزنا على حسن استغلال زمن دنيانا، لكن أيضا يجعلنا أكثر تقبّلا للموت. فنتفهّم الانزعاج من الموت قبل التّقاعد، الذي وصفه القرآن بالمصيبة. ونكون أكثر تهيُؤا له إن جاء «طبيعيّا» بعد التقاعد. وقد رُوي في قصّة احتضار خاتم المرسلين محمد ﷺ بعد السّتين من عمره وهو يفارق أهله وأصحابه الذين أحبّهم وأحبّوه،  أنّه آخر ما ردّده عند سكرات الموت «بل الرّفيق الأعلى.. بل الرّفيق الأعلى..».
ختاما. هذه الطّمأنينة التي اجتهدنا في الإمساك بها من خلال محاولة تعقّل مسار حياتنا، والذي قد نتقاطع فيه مع البعض، هل تلغي قلقنا المعرفي والوجودي الذي لا يتوقّف؟ أم يظلّ ذو العقل يشقى في النّعيم بعقله على حدّ  قول المتنبّي؟ فنحن حين نكتب ونبني بالجمل أفكارا، لسنا دائما متيقّنين من المقدّمات والمصطلحات. وبعض العبارات تبدو أقرب إلى الممكنات الذّهنيّة منها إلى الحقائق والوقائع. فنحن على سبيل المثال لا نختار ولادتنا، ولكن نتحمّل تبعاتها. ونحن فعليّا غير معنيّين بحدث موت جسدنا لأنّنا لا نعيش تلك اللّحظة وما يليها، ولكن لا ننفكّ نهتمّ بالموت. ونحن نتحدّث عن مسار حياة وعن عمل اخترناه وعن ماض نستدبره وربما لا نرى مانعا في استئنافه إن أمكن، وعن.. وعن.. وكلّها تظلّ فرضيات. إذ يدركنا الموت ونحن لم نحسم مسألة الحرية والقدر في أذهاننا. وهل كنا أحرارا فعلا فيما حصل معنا في حياتنا أم كنا أقرب إلى أدوار في مسرحية معدّة مسبقا؟ كما أنّنا قد نرتاح لتجربة دينية أو روحية أو عملية، لكن ما أدرانا بغيرها، ممّا لم نجرّب بل لم نبذل حتى الجهد في ذلك؟
أُدرك أنّ الكتابة عن الموت ثرية وعميقة جدا قديما وحديثا، ولست أمسك بتطوّراتها وتعقيداتها وثرائها  في الأدبيات الإنسانية الجديدة خاصة. ولذلك تبقى هذه الكتابة ذاتية ومحدودة، موضوعا وسياقا ومعرفة. ويبقى «الحديث ذو شجون» والحقيقة أكبر من الإمساك بها متلبّسة. ونبقى في الأخير أبناء زماننا وتظلّ نصوصنا وليدة لحظتها.