في العمق

بقلم
أ.د.عماد الدين خليل
مدخل إلى بناء الكون في المنظور القرآني (الحلقة السابعة)
 حول المنظور والمغيّب
إنّ الخلق الكوني ينطوي في حقيقة الأمر على بعدين لا ينفصل أحدهما عن الآخر: المنظور والمغيّب، ونحن إذا استطعنا أن نصل إلى نتائج مقاربة في تعاملنا مع المنظور، فإنّه يصعب علينا، بل يستحيل، الإحاطة علماً بالجانب المغيب ... ولكن، وكما أثبتت أحدث معطيات العلم في العصر الحديث وجود الغيب في صميم البناء الكوني وحضوره المؤكّد، فنحن بالتّالي لا نستطيع، وليس بمقدورنا أن ننفي كلّ ما تراه حواسنا من ظواهر وموجودات.
لقد أكّدت الكشوف الفيزيائيّة والكوزمولوجيّة الأكثر حداثةً، العمق الغيبي للظّواهر الطّبيعيّة الكبرى، وكيف أنّ العالم المادّي لا يعدو أن يكون قشرة سريعة الانكسار، فبعد تفجير القنبلة الذّريّة، ومن بعدها الهيدروجينيّة والنيوترونيّة، تأكّدت هذه الحقيقة، وأنّ ما وراء القشرة الهشّة، تحتها تماماً، على بعد خطواتٍ منها، مخفيّة عن العيان، ومنطوية في عالم الغيب، قوى هائلة تفوق التّصوّر، وتؤكّد الحقيقة القرآنيّة التي طالما أشار إليها كتاب اللّه مراراً وتكراراً، من أنّ عالم الغيب أشدّ ثقلاً وحضوراً من العالم المشهود. والظّاهرة لا تقتصر على الغيب الفيزيائي وحده –إذا صحّ التّعبير- ولكنّها تمتدّ لكي تشمل الخلائق كافّة، والقوى والطّاقات الهائلة التي ينطوي عليها الكون، مروراً بالملائكة والجان، ووصولاً إلى كلمة اللّه التي إذا أرادت شيئاً فإنّما تقول له: (كن فيكون)!
أيّة قوّة هائلة، مطلقة الاسار، غير محدودة، تنطوي عليها كلمة (كن) هذه؟! أيّة فاعليّة جبّارة لا يقف أمامها شيء، تملك هذه القدرة اللاّمحدودة على الخلق والإنشاء؟:  ﴿قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً﴾ (الكهف:109). ﴿وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدهُ مِن بَعْدهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ (لقمان:27).
والعقل البشري الذي لا يزال، رغم كشوفه المدهشة، طفلاً يحبو عند حافات الكون، لن يكون بمقدوره إدراك ما تعنيه كلمة (الغيب) وما تنطوي عليه من قوى خلاّقة هائلة غير محدودة ... هايزنبرغ وشرودنجر واينشتاين وبور وماكس بلانك، والفيزيائيّون والكوزمولوجيّون الذين جاءوا بعدهم، فتحوا في القشرة المنظورة ثغراتٍ ضيّقة جدّاً فرأوا الأعاجيب ... ترى ماذا لو رفع الغطاء كلّه؟ وما الذي سنراه؟!
إنّ إحدى الخصائص الأساسيّة التي تفرق الإسلام عن سائر المذاهب البشريّة تكمن في النّظرة إلى المعمار الكوني ... فالإسلام يراه بنياناً مركّباً يتضمّن المادّي واللاّمادّي، المنظور والغيب، الظّاهر والباطن، الذي يمكن أن نتعامل معه بالحواس، والذي لا يمكن التّعامل معه إلاّ بوسائط أخرى غير حسّية، بدءاً بالعقل وانتهاء بالوحي الإلهي، مروراً بقوّة الرّوح ... هذا بينما تراه المذاهب الأخرى بنياناً مسطّحاً ذا وجهٍ واحد ومضمون غير مزدوج، فهو ذلك البنيان المادّي المنظور، الظّاهر، الذي تقدر الحواس على التّعامل معه، والكشف عن أسراره ومعمياته!
يرى الإسلام في المعمار الكوني طبقتين، تبرز إحداهما بمواجهة الحواس وتغيب الأخرى عن الرّؤية المباشرة فقط، ولكنّها في حقيقة الأمر ليست موجودةً فحسب، أو مؤكّدةً فحسب، ولكنّها أكثر ثقلاً وحضوراً وتأثيراً في الصيغة النّهائيّة للمعمار الكوني، وفي المعطيات التي يتضمّنها بكلّ ما تحمله الكلمة من معنى ... وترى المذاهب البشريّة، التي بلغت أقصى حدّتها وتسطّحها (في المادّية الدّيالكتيكيّة) في المعمار الكوني طبقةً واحدةً ليس وراء كتلتها المادّية وجرمها الثّقيل ذي الذّرات والجزيئات والأحجام والمساحات أيّ شيء على الاطلاق ... والذي ينتمي لهذا الدّين يحتم عليه منذ اللّحظة الأولى أن يتجاوز هذه النّظرة الأحاديّة المسطّحة اللاّصقة بالمنظور، صوب العمق: البعد الآخر للمعمار الكوني، والتّيقن الكامل بأنّ هناك فيما وراء هذه الطّبقة المنظورة طبقة أخرى غير منظورة، لكنّها أكثر وجوداً وحضوراً وتأثيراً.
إنّه الغيب الذي يحيط بالطّبقة المرئيّة، يتخلّلها، يقف وراءها، يمتدّ إلى جذورها البعيدة ويتطلّع صوب الآفاق التي لا تطولها هذه الطّبقة مهما علت شرفاتها، وامتدت أدوارها في السّماء ... هذا الغيب الذي ينعكس حضوره على الوجود الكوني بأشكال وصيغ مختلفة، بدءًا من معجزة الخلق والتّشكّل التي يحقّق فيها الغيب حضوره بصيغة منظور مادّي، وانتهاء بدمار هذا المنظور وتفتّته عند يوم الحساب، وبفعل قوّة الغيب نفسه، مروراً بكلّ الصّيغ والمعطيات اللاّماديّة التي تملأ ساحة المعمار الكوني، تعجّ بها ردهاته وممرّاته وأروقته، بل إنّها تتخلّل جزئيّاته وذرّاته.
إنّ اللّه الخالق سبحانه وتعالى، والرّوح المنبعثة عن نفخة اللّه (جلّ في علاه)، والوحي الذي ينقل تعاليم السّماء للأرض، لئلاّ يضلّ الإنسان ويضيع ... كلّها من الغيب، وعلى المسلم أن يسلّم بها ويطمئن لها عقله وقلبه ووجدانه، لأنّ مجرد انتمائه للإسلام يعني قدرته على كسر جدار المرئي القريب، والطّموح بعيداً فيما وراءه صوب البعد أو الوجه الآخر للمعمار الكوني.
وإنّ الملائكة والجنّ والشّياطين هي من الغيب الذي يتحتّم أن نسلّم به، والذي يعكس تأثيراته المرئيّة وغير المرئيّة بما يؤكّد حضوره وفاعليته ... وأنّ طاقات الإنسان اللاّحسيّة، بما فيها الخيال، والتّذكّر، وما يسمّى بالحواس ما وراء الخامسة، وطرائق عمل العقل ... الخ لهي من الغيب الذي يتخلّل الإنسان نفسه ويمكّنه، في الوقت ذاته، من مدّ الجسور بينه وبين الطّبقة المغيبة من المعمار الكوني.
بل إنّ حركة الذّرّات المادّية نفسها، ما يجري في مساراتها غير المرئيّة، ونيوتروناتها وبروتوناتها، ما يتدفّق في فوتونات الأحزمة الضّوئيّة، ما يخفق في جذب المغناطيس وانبعاثات الكهرباء... لهي كلّها، بشكل من الأشكال، حالة غيبيّة لا زالت مستعصية، كالرّوح نفسها، على التّحليل النّهائي الذي يخضعها للمختبر ويجعلها أمراً مرئيّاً وملموساً... يتيح للإنسان أن يحيلها إلى المادّي المنظور.
إنّ الانتماء للإسلام يعني التّسليم بهذه الحقيقة حتّى قبل أن يؤكّدها العلم، وقبل أن تعبر عن نفسها عبر معطيات النّشاط البشري وأفعاله الحضاريّة ... يسلم بها لأنّ اللّه سبحانه وتعالى يقول بوجود الطّبقتين في معمار الكون ويخرج به عن خداع الحواس وأسر المحدود، والاعتقاد الضالّ بأنّ هذا المعمار لا يعدو أن يكون طبقة واحدة.
ومنذ الكلمات الأولى في كتاب اللّه نلتقي بهذه الحقيقة، هنالك حيث يرتبط الإيمان بالغيب بسائر الممارسات الإسلاميّة التي يتعاشق معها، بل حيث يغدو الأساس الذي تقوم عليه رؤية المسلم، ويستند إليه سلوكه اليومي، وتبنى عليه أنشطته ومعطياته ... تلك هي العلامة الفارقة، والإشارة الحاسمة، والحدّ الفاصل بين الإيمان وبين الكفر، بين الإسلام وبين سائر المذاهب والرّؤى والتّحليلات.
طبقتان في المعمار الكوني، فليس ثمّة بعد واحد، مسطّح، ممسوخ، كما يريد الوضّاعون أن يصوّروا، وإنّما هو البعد المركّب، الغائر والعميق الذي يعكس الحقيقة النّهائيّة كما خلقها اللّه سبحانه وتعالى، والذي يعبّر عن السرّ الإلهي الذي أودعه اللّه سبحانه وتعالى في هذا المعمار الهائل.
والقرآن الكريم نفسه، في مقابل هذا كلّه ينعى على الوضعيين رؤيتهم المسطّحة هذه، وعلمهم التّافه الهزيل، ونظرتهم القاصرة إلى الكون، فيصمهم بأنّهم: ﴿يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ...﴾ (الروم:7)، ومن ثمّ فإنّهم لا يرون إلاّ المرئيّات القريبة، وأمّا ما وراءها، من يتحكّم بها ويصوغها، فإنّهم عاجزون عن رؤيته، ومن أجل التّغطية على عجزهم هذا، على قصورهم وانحسارهم، يلجؤون إلى خدعة سهلة، لكنّها مكشوفة، فيرفضون الاعتقاد بوجود طبقة أخرى للمعمار الكوني، وعالم آخر غير العالم الذي تلمسه الأيدي، وتسمعه الأذان، وتراه العيون ... بل إنّهم يمضون، إلى ما هو أبعد من هذا، ومن أجل مزيد من التّضليل ومزيد من الاقتناع بصدق موقفهم في الوقت نفسه، فينظّرون رؤيتهم هذه، يفلسفونها ويقدّمونها في إطار مذهب أو نظريّة أو فلسفة، بل إنّ بعضهم يبلغ به الغرور أن يسعى لربطها بالعلم المختبري، رغم أنّ هذا العلم هو بحدّ ذاته أداة غير صالحة للحكم على الغيب، ورغم أنّه –عبر العقود الأخيرة- أخذ ينحني للبعد الغيبي، ويقرّ بثقله وحضوره في صميم النّسيج الكوني بصيغة أو بأخرى.
ذلك معنى أن نسلّم بحقيقة المعمار الكوني ذي الطّبقتين، وإلاّ فإنّ ألف فلسفة أو مذهب وضعي، أو تنظير، لا يفعل إلاّ بأكثر من أن يبني بين الإنسان وبين رؤيته العلميّة المؤمنة للكون، سدّاً من الخرافات والأوهام والأضاليل والأهواء والظنون ... ﴿وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً﴾ (النجم:28). 
سرّ السّماوات والأرض
ولأنّ اللّه (جلّ في علاه): ﴿... يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ...﴾ (الفرقان:6). يجيء فعله بكلمة (كن) قادراً على أن يصنع كلّ شيء ... على أن يفكّك ويشكّل ... على أن يهدم الكون ويبنيه من جديد في دقائق ولحظات، بل في جزء لا نقدر على قياسه من الزّمن ... (كن فيكون) وصدق جلّت قدرته وتعالت عظمته.
والحقّ أنّ في القرآن الكريم تعابير وكلمات، نمرّ به حيناً مروراً سريعاً، فلا ندرك بعدها الحقيقي ولا نمدّ أبصارنا في أعماقها المدهشة ... لكنّنا بين الحين والحين، ووفقاً (لوضعيتنا) الذّهنيّة والنّفسيّة، نتوقّف عند بعضها وعند ذاك ندرك المعنى الحقيقي لقوله تعالى: ﴿...تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ ...﴾ (الزمر:23). ﴿... الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ...﴾ (الفرقان:6). أيّ سرّ كبير هذا الذي يقوم عليه بنيان السّماوات والأرض؟ أي سرّ شامل رهيب هذا الذي يتخفّى وراء كتل الكون الرّهيبة الهائلة، وذرّاته الصّغيرة المتناهية على السّواء، أي سرّ عظيم هذا الذي يضبط وينظّم ويوجّه ويحرّك خلائق اللّه جميعاً في أبعد الآفاق وأقربها؟ أيّ سرّ عظيم هذا الذي يتفجّر بوجه الشّمس المحرق، ويتساقط به شلال الضّوء القمري الحالم، وتتنادى به وتتهامس وتومض نجوم السّماء؟ بل أي سرّ هذا الذي به نتنفّس، ونأكل، ونمشي، ونفكّر، وتخفق قلوبنا، وتهتز أرواحنا؟ ثمّ أيّ سرّ هذا الذي به وحده نضحك ونبكي، ونفرح ونحزن، ونحيا ونموت؟!
هل نقول –متجاوزين- إنّه سرّ التّكوين الرّياضي والطّبيعي للكون؟ والبيولوجي والفسيولوجي للحياة ... والنّفسي والميتافيزيقي للرّوح؟ ومن ثمّ فإنّ اللّه (جلّ في علاه) الذي يعلم هذا (السرّ)، اللّه الذي هو صانع هذا (السرّ)، قدير في أيّة لحظة، وبقوّة الكلمة المريدة، على أن (يفعل) ما يشاء تحليلاً وتركيباً، تثبيتاً وتغييراً، في أيّة من هذه المساحات الكبيرة الثّلاث الطّبيعة والحياة والرّوح. وهكذا نكون ساذجين، حمقى، بمجرّد أن نتساءل دهشين: كيف سيبعثنا اللّه من قبورنا، وكيف سيحاسبنا ويسوقنا إلى جنّة أو إلى نار؟!
إذا جاز لنا أن ننكر على رجل كهايزنبرغ؛ أو اينشتاين، أن يفجّر الذّرّة التّافهة ويدمّر بها أعظم مدن الأرض، لأنّه عرف (سرّها)، وإذا جاز للنّملة أو الدّودة أو الصّرصار أن ترفض مقدرة رجل مثل (مندل) على أن يتحكّم في ألوانها وخصائصها لأنّه عرف (سرّ) معطياتها الوراثيّة ... جاز لنا أن نتساءل بالسّذاجة نفسها: كيف سيبعثنا اللّه من قبورنا وكيف سيحاسبنا ويسوقنا إلى جنّة أو إلى نار؟ وإذا كانت قدرة اللّه سبحانه وتعالى لا تلمس ولا ترى فإنّ الطّاقة الدّماغيّة لأولئك العلماء لا تلمس هي الأخرى ولا ترى؟
ونعود مرةً أخرى إلى الآية القرآنيّة المعجزة: ﴿... الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ...﴾ (الفرقان:6) ... فإذا ما أتيح لكم، عبر لحظات الصّفاء النّفسي، والهزّة الرّوحيّة، والنّفاذ الذّهني، أن تتأمّلوا أبعد النّجوم في مساراتها وأحجامها التي لا يطالها الخيال، والتي ظلّت تمارس دورها ضبطاً وحركة ونظاماً، ملايين الملايين من السّنين الضّوئيّة، وإذا ما أتيح لكم أيضاً، عبر اللّحظات نفسها، أن ترقبوا قلب بني آدم، هذه المضغة الصّغيرة من اللّحم، وهو يدقّ بانتظام وطمأنينة عشرين أو ثلاثين أو أربعين ألف يوم، مما لا تبلغ عشر معشاره أدقّ وأعظم ساعة في العالم ... وإذا ما أتيح لكم أن تلحظوا النّبتة الصّغيرة وهي تشقّ قشرة الأرض لكي تستوي –بعد قليل- على سوقها، خضراء، مطمئنة معطاء ... إذا ما أتيح لكم هذا وذاك، ومئات غيره من مواقف الدّهشة والإعجاب والنّفاذ في صميم خلق اللّه وإبداعه وجماله، قدرتم على أن تقفوا أمام كلمات اللّه وجلين، مقشعري الجلود ... لأنّه جلّ جلاله: ﴿... الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ...﴾ (الفرقان:6)!!
إنّ الانقلاب الكوني الكبير يوم القيامة، قد يقرّبنا بعض الشّيء، تلك الآيات التي تحدّثنا عن انفطار السّماء، وانتشار النّجوم، وتكوير الشّمس، ودكّ الجبال، وتسجير البحار ... إنّ علينا أن نقف طويلاً عند عبارة (مفاتح الغيب) وعبارة (السرّ في السّماوات والأرض) ونتجاوز تسطيح التّفاسير القديمة، ونستدعي أكثر الكشوف الفيزيائيّة والكوزمولوجيّة جدّة وحداثةً، لكي ندرك جانباً من أبعادهما المدهشة والمذهلة، ولكي يتبيّن لنا –بحقّ- أنّ كتاب اللّه سبحانه وتعالى، وكما حدّثنا رسول اللّه ﷺ: «لا تنقضي عجائبه ولا يخلق على كثرة الرّد». «إنّ حقيقة الغيب من مقومات التّصور الإسلامي الأساسيّة، لأنّها من مقومات العقيدة الإسلاميّة الأساسيّة ومن قواعد الإيمان الرئيسيّة، وذلك أنّ كلمات (الغيب) و (الغيبيّة) تلاك في هذه الأيام كثيراً –بعد ظهور المذهب المادّي- وتوضع في مقابل (العلم) و (العلميّة). والقرآن الكريم يقرّر أنّ هناك (غيباً) لا يعلم (مفاتحه) إلاّ اللّه، ويقرّر أنّ ما أوتيه الإنسان من العلم قليل، وهذا القليل إنّما آتاه اللّه به بقدر ما يعلم هو –سبحانه- من طاقته ومن حاجته، وأنّ النّاس لا يعلمون –فيما وراء العلم الذي أعطاهم اللّه إيّاه- إلّا ظنّاً، وإنّ الظنّ لا يغني من الحقّ شيئاً. كما يقرّر سبحانه وتعالى أنّ اللّه قد خلق هذا الكون وجعل له سنناً لا تتبدّل، وأنّه علم الإنسان أن يبحث عن هذه السّنن ويدرك بعضها، ويتعامل معها في حدود طاقته وحاجته وأنّه سيكشف له من هذه السّنن في الأنفس والآفاق ما يزيده يقيناً وتأكّداً أنّ الذي جاءه من عند ربّه هو الحقّ، دون أن يخلّ هذا بسنن اللّه التي لا تبديل لها، بحقيقة (الغيب) المجهول للإنسان والذي سيظل كذلك مجهولاً» (1).
إنّ الذين يرفضون الغيب من الملاحدة والعلمانيّين، لا يفرّقون بينه كبطانة للكون والعالم والإنسان، كبعد آخر مؤكّد للوجود، بل كقاعدة لهذا الوجود، في أسبابه ومعطياته ونتائجه وغاياته النّهائيّة، وكعلم يقيني مطلق خاصّ بالذّات الإلهيّة، وبين الرّجم بالغيب، أي الموقف المتخبّط الضالّ الذي ينطوي على قبول النّتائج دون أسبابها، والغايات دون مقدّماتها، واعتماد الأساليب الملتوية النّقيضة –ابتداء- للعلم، والمنهج، والمنطق، والتّجريب، فيما يقودهم في كثير من الأحيان إلى الضّرب على غير هدىً في تحليل الظّواهر والأشياء، والوصول إلى استنتاجات لا تقوم على أيّ أساس من العلم اليقيني الصّحيح.
والقرآن الكريم يهاجم بصراحة هذا الأسلوب الملتوي، قبل وبعد أن يرفضه ملاحدة القرنين الأخيرين: ﴿...وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ ...﴾ (الكهف:22). وبالتّالي فهو يرفض كلّ ما يتمخّض عن (الرّجم بالغيب) من نتائج ومعطيات، ومن مذاهب ومبادئ وعقائد وضعيّة اتهمها الخصوم بأنّها معلّقة في سماء الأحلام، غير ممكنة التّطبيق على أرض الواقع، بسبب من قيامها على الظّنون والأوهام والتّخمينات الخاطئة، والأحلام والمثاليّات.
وكلّنا نذكر التّهمة التي وصم بها مهندسو المادّيتين الديالكتيكيّة والتّاريخيّة فلسفة (هيغل) عندما اطلقوا عليها لقب (الفلسفة المثاليّة) التي تمشي على رأسها، أي تحاول التّعامل مع الظّواهر والأشياء بشكل معكوس، واستبدلوها بالواقعيّة الاشتراكيّة التي تمشي على بطنها بحثاً عن لقمة العيش، وكأنّ الحياة لا تتجاوز إحدى اثنتين: العقل أو المعدة!!. كما أطلقوا على الاشتراكيّات التي لم تسلم قيادها لهم اسم (الاشتراكيّات الطّوباويّة) أي المثاليّة التي لا تستطيع أن تنزل إلى أرض الواقع، وهاجموا الغيبيّات وحاولوا إلغاءها نهائيّاً من القواميس.
وثمّة فرق كبير شاسع بين (الغيب) و (الغيبيّة) وفق هذه الرّؤية الضّبابيّة التي لا رصيد لها في عالم الواقع، وبين الغيب الذي يعدّ قاعدة التّأسيس الايماني في هذا العالم، ذلك أنّ اللّه سبحانه وتعالى الذي لا تدركه الأبصار هو من الغيب، وظاهرة النّبوة التي تتلقى التّعاليم عن اللّه سبحانه وتعالى، عبر الكتب المنزّلة من السّماء هي من الغيب، والجنّة والنّار هي من الغيب، والملائكة والجانّ والشّياطين هم من عالم الغيب، والقدر خيره وشره هو من الغيب ... الخ ... الخ ... بل إنّه حتّى الظّواهر العلميّة كالطّاقة والحركة والضّوء والجاذبيّة، هي في ماهياتها وليس في ظواهرها من الغيب.
ولقد وردت كلمة (الغيب) بهذه الدّلالات فيما يزيد عن الخمسين موقعاً في كتاب اللّه ... وكلّها تؤكّد المفاهيم نفسها التي تتعارض ابتداء مع ما ذهب إليه الغربيون وأتباعهم في تفسيرهم للغيب. ولكن إذا كان القرآن الكريم قد بنى التّصور الدّيني على أساس الغيب، باعتباره المصدر اليقيني للمعرفة، فإنّه أكّد في الوقت نفسه على ضرورة وأهمّية (التّجريب) واعتماد (الحواس) وتعميق صلة ( العقل) بما حوله في حقول النّفس والطّبيعة والعالم والحياة لاكتشافها وتسخيرها لخدمة الحضارة البشريّة ورقيها، وتحقيق فكرة (استخلاف) الإنسان على الأرض من أجل أداء دوره الحضاري فيها.
ونحن نجد هذه (المسؤوليّة) الملقاة على عاتق الحواس والعقل في الآية: ﴿وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً﴾ (الإسراء:36). وهنالك ما يزيد على خمسين وسبعمائة آية –على وجه التّقريب- دعت المسلمين إلى ضرورة اعتماد الطّاقات الحسّية والعقليّة والتّجريبيّة لاكتشاف قوانين الطّبيعة والحياة وتسخيرها لخدمة الإنسان، فيما قاد المسلمين إلى اكتشاف منهج البحث الحسّي التّجريبي الذي تدين له حضارة الغرب المعاصرة بالكثير الكثير، وفيما يؤكّده كبار مؤرّخي العلم من الغربيين أنفسهم، من أمثال (الدومييلي) الفرنسي و(جورج سارتون) الأمريكي.
الهوامش
(1) قطب، سيد. في ظلال القرآن، القاهرة: دار الشروق، ط35، 2005م، ج7، ص 1113-1114.