الأولى

بقلم
فيصل العش
الحرية في القرآن الكريم رؤية الشيخ العلامة «محمد الطاهر بن عاشور»
 يعتبر ابن عاشور من العلماء والمفكرين القلائل في عصره الذين لا يرون عمليّة الإصلاح تستقيم بدون طرح التّقليد والتماس الاجتهاد، فأمّا التّقليد فلا يطرح إلاّ برفض فكرة الاعتقاد بأفضليّة فهم السّلف الصّالح وقراءاتهم للنّص الدّيني، وأمّا الاجتهاد فلا يكون إلآّ بالعودة المباشرة إلى النّص المؤسّس (القرآن). وبهذا التوجّه أسّس إبن عاشور بناء معرفيّا جديدا في التّعامل مع النّص القرآني، عماده الاجتهاد وعدم الجمود عند فهم القدماء،  لأنّ ذلك مؤذّن بخراب العقل المسلم، وتكريس لواقع التخلّف والضّعف والهوان، وهذا ما دعاه إلى القول: «إنّا متى اقتصرنا في تعليمنا على ما أسّسه لنا سلفنا ووقفنا عند ما حدّدوا رجعنا القهقرى في التّعليم والعلم...»(1) ، أمّا الاجتهاد فقد أصبح فرضا وحاجة ضروريّة، باعتبار تبدّل الأحوال والأزمان وما يترتّب عنه من تبدّل حاجات الفرد والمجتمع وتغيّر عوائد النّاس ومشاغلهم. نتيجة لهذا التوجّه، تجنّد العلامة ابن عاشور لاستنطاق آيات القرآن الكريم والنّظر فيها بعين عصره، فكانت الثّمرة تفسير «التّحرير والتّنوير» واعلان الحرّية مقصدا من مقاصد الشّريعة الإسلاميّة. وفي هذا يقول: «ومن قواعد الفقه قول الفقهاء: “الشّارع متشوّف للحريّة” واستقراءُ ذلك واضحٌ من تصرّفات الشّريعة التي دلّت على أنّ من أهمّ مقاصدها إبطال العبوديّة وتعميم الحرّية»(2). 
فما هو مفهوم الحرّية عند ابن عاشور، ولماذا اعتبرها مقصدا من مقاصد الشّريعة وما هي أصنافها؟ وهل هي مطلقة أم مقيّدة ؟ 
***
للحرّية عند إبن عاشور معنيان، الأول قديم مضادّ للرقّ والعبوديّة، والثّاني حديث، استعمل بعد أن تُرجمت كتب الثّورة الفرنسيّة (1789م) وهو بمعنى« عمل الإنسان ما يقدر على عمله حسب مشيئته لا يصرفه عن عمله أمر غيره»(3) وهذا يدلّ على أنّ إبن عاشور لم يتوقّف في تعريفه للحرّية عند المدوّنة العربيّة القديمة بل أبدى وعياً جديداً بمسألة الحرّية برهن عليه باعتماد المدوّنة الحداثيّة والإحالة إلى روّادها. والحرّية بكلاّ المعنيين حسب ابن عاشور «وصف فطري نشأ عليه البشر وبه تصرّفوا في أول وجودهم على الأرض، حتّى حدثت بينهم المزاحمة، فحدث التّحجير» (4). 
فالحريّة عند ابن عاشور هي أهمّ ثمار الفطرة الإنسانيّة؛ فالفطرة عنده أصلٌ كليّ تنبني عليه مجموعةٌ من المقاصد من أهمّها مقصد الحريّة؛ ولأن الإسلام دين الفطرة فقد انطلق إبن عاشور من القرآن الكريم ليبيّن أنّ الحرّية أصل من أصول الإسلام الذي جاء ليرفع إصر العبوديّة عن الناس  ويحرّرهم من التّكاليف الشّاقّة والقيود التي كان يفرضها السّدنة والقادة عليهم(الأسر والأغلال):«وإذ قد كان الإسلامُ دين الفطرة كما وصفه اللّه تعالى بقوله: ﴿فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا﴾ (الروم: 30)، فكلُّ ما هو من أصل الفطرة فهو من شُعَب الإيمان ما لم يمنعه مانع. ويزيد إعرابًا عن كون الحريّة من أصول الإسلام قولُه تعالى في وصف محمد ﷺ ووصف أتباعه: ﴿الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ﴾ (الأعراف: 157). فالإصر هو التّكاليف الشّاقّة، والأغلال غير الإصر، فهي مستعارة للعبوديّة التي كانوا عليها في الجاهليّة، وهي عبوديّة الأصنام وسَدَنَتِها، وعبوديّة الملوك، وعبوديّة القادة أصحاب المرابيع (جمع مِرباع؛ وهو ربع الغنيمة كان يأخذه سيدُ القبيلة حين يغِير بها)» (5). 
جاء إبن عاشور ليعلن أنّ الحريّةَ أصلٌ يجبُ أن يمتزجَ بروح الإنسان وهي «خاطرٌ غريزي في النّفس البشريّة، فيها نماء القوى الإنسانيّة من تفكير وقول وعمل، وبها تنطلق المواهب العقليّة متسابقة في ميادين الابتكار والتّدقيق؛ فلا يحقّ أن تُسام بقيد إلاّ قيداً يدفع به عن صاحبها ضَرّاً ثابتاً، أو يجلب به نفعاً (6)... «والحرّية بهذا المعنى حقّ للبشر على الجملة؛ لأنّ اللّه لمّا خلق للإنسان العقل والإرادة، وأودع فيه القدرة على العمل، فقد أكنّ فيه حقيقة الحرّية، وخوّله استخدامها بالإذن التّكويني المستقرّ في الخلقة»(7) فحقيقة الحرّية التي هي حقّ النّاس جميعا مرتبطة بعقل الإنسان وإرادته، وبهذا المعنى حسم ابن عاشور النّقاش حول أصل الحرّية ومصدرها: أهو الخلقة الأولى للأفراد وما يعتريها من نزوع إلى حرّية التّصرّف واتباع هوى النّفس وميولاتها، أم العقل والنّظر العقلي والعمل بمقتضاهما؟ 
والإنسان لا يستطيع أن يفكّر إلّا وهو حرّ، ولا يستطيع أن يتكلّم بما يريد غير خائف ولا وجل إلاّ وهو حرّ، ولا يستطيع أن يعمل العمل الذي ينفع النّاس إلّا وهو حرّ، فبالحرّية - حسب إبن عاشور -يحدث النّماء لقوى التّفكير والقول والعمل. يقول في هذا الصدد : «الحريّة هي حِلْية الإنسان وزينة المدنيّة فيها تنمى القوى وتنطلق المواهب. وبصَوْبها تنبت فضائل الصدق والشّجاعة والنّصيحة بصراحة الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، وتتلاقح الأفكار وتُورِق أفنانُ العلوم» (8)  
ويربط إبن عاشور الحرّية بالمساواة ويجعلها فرعا مترتبا عليها، ويستنتج من ذلك أن الحرّية مقصد من مقاصد الشّريعة الإسلاميّة : «لمّا تحقّق أنّ المساواة من مقاصد الشّريعة الإسلاميّة، لزم أن يتفرّع على ذلك أنّ استواء أفراد الأمّة في تصرّفهم في أنفسهم مقصد أصليّ من مقاصد الشّريعة، وذلك هو المراد بالحريّة» (9) وبهذا المعنى يترتّب على تقرير المساواة بين النّاس أن يكون هؤلاء المتساوون أحراراً، ولا يجوز أن يكون بعضهم أكثر حرّية من بعض ولا أن يكون بعضهم أقلّ حرّية من بعض.
***
يقسّم الطاهر بن عاشور الحريّة إلى ثلاثة أصناف، هي: حرّيّة الاعتقاد، وحرّيّة القول، وحرّيّة العمل. فأمّا حرّيّة الاعتقاد فيراد بها حسب تعريفه «الاعتقاد فيما وراء الحسّ، وهو المعبر عنه في الإسلام بالإيمان بالغيب، ويعبر عنه الفلاسفة بما بعد الطّبيعة أو ما وراء الطّبيعة أو الإلهيّات» (10)
واعتبر إبن عاشور قوله تعالى: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾(البقرة: 256) «دليلا واضحا على إبطال الإكراه على الدّين بسائر أنواعه، لأنّ أمر الإيمان يجري على الاستدلال، والتمكين والنّظر، وبالاختيار»(11). وهذه الحرّية عنده: «أوسع الحرّيات دائرة؛ لأَّن صاحب الاعتقاد مطلق التّفكير فيما يعتقده ويجول منه حسب خواطره، ولا يحدّدها له إلاّ الأدلّة والحجج، فهي له وازع يقف عند تحديده باختيار دون إكراه..»(12) ويمكن القول أنّ الحريّة مناط التّكليف بالواجبات الدّينيّة إلى جانب العقل والعلم والاستطاعة، بل هي مُقدّمة على باقي المناطات. فالإنسان في الإسلام -حسب -إبن عاشور- له حرّية الاختيار على أساس من القناعة، يحمل بموجبها النّتيجة والمآل؛ وذلك لتنافي الإكراه مع طبيعة العقيدة نفسها: ﴿ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾ (يونس: 99)
وأمّا حرّية القول (الفكر وعرض الأفكار) فهي «أن يجهر المفكّر برأيه، ويصرّح بما يراه صوابًا ممّا يأنس من نفسه أنّه يحسن الإصابة فيه، قال اللّه تعالى: ﴿وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى﴾ (الأنعام: 152). ولا شكّ أنّ قول العدل تكرهه النّفوسُ التي يقمعها الحقّ، ولذا كان الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر من أكبر شُعب الإيمان» (13). ضمن الإسلام حسب إبن عاشور حرّية عرض الأفكار واختار لها شكلا مميّزا يقوم على التّناظر والحجاج عوض المغالبة والإرهاق ﴿ ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ (النحل: 125) (14) لذلك دعا إبن عاشور إلى احترام الأفكار المختلفة من دون سخريّة أو استهزاء لأنّ احتقار أفكار الغير وعدم احترامها مدخل إلى ضمور الإبداع، فقال: «أمّا احترام الفكر فحقّ على كلّ صاحب فكر أن يقابل فكر غيره بالاحترام دون السّخريّة والهزو؛ فإنّ الاسترسال على ذلك يجبن الذين تخلّقت فيهم مبادئ العقل النّظري عن الإعلان بما وُهِبوه؛ خشية الاستهزاء والاستسخار»(15) «إنّا نعني باحترام الفكر أن لا يتعرَّض لصاحبه الشّخصي بالطّعن والاستخفاف» (16) . 
إنّ أهليّة الأمّة لدخول عصر التّنوير،بنظر إبن عاشور، تمرّ عبر احترام الآراء والتّسامح عند الاختلاف. «من أكبر الأسباب في تقدّم الأمّة بعلومها وقبولها لرتبة التّنوير وأهليتها للاختراع في معلوماتها أن تشبّ على احترام الآراء على الوجه الذي وصفنا من قبل» (17) 
وأمّا حريةُ العمل فهي «تتعلّق بعمل المرء في خويصته، وبعمله المرتبط بعمل غيره. فحرّيةُ العمل في الخويصة، مثل تناول المباح والاحتراف بما شاء، وأن لا يُجبَر على أن يعمل لغيره، إلّا إذا تعيّن عليه عملٌ من المصالح العامّة، أو ما فيه حفظُ حياة الغير، مثل الدّفاع عن الحوزة، وحراسة الثّغور، وإنقاذ الغريق، وخدمة مَنْ تتعين عليه خدمتُه، وإعطاء الزّكاة، ونفقة القرابة» (18)
***
رغم مكانته في الفقه علماً ومنصباً، فإنّ الشّيخ ابن عاشور لم يعالج مسألة الحرّية علاجا فقهيّا بل كان علاجا حضاريّا بروح تجديديّة قبل كلّ شيء، حيث تكرّرت مفردات كالحرّية والتّحرير والتّنوير والتّقدّم والمدنيّة والنّهضة والرّقيّ، وكانت مفاتيح أساسيّة في جميع كتاباته في المسألة . 
ورغم أهمية الاجتهاد وعمق التّأصيل الشّرعي والتّاريخي الذي قام به في كتابيه «مقاصد الشّريعة الإسلاميّة» و«أصول النّظام الاجتماعي في الإسلام» في مبحث الحرّية معتبراً إياها مقصداً أساسيّاً من مقاصد الشّريعة، وفي الوقت الذي دافع فيه عن حرّية المعتقد، وأنزل قوله تعالى ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾ منزلة الدّليل الواضح على إبطال الإكراه على الدّين بسائر أنواعه، لم يسمح إبن عاشور للمسلم بتجاوز حرّية الاعتقاد خارج دائرة الشّرع، لأنّ ذلك بنظره يفظي إلى انحلال الجامعة الاسلاميّة «أمّا حرّية اعتقاد المسلم فهي محدودة له بما جاء به الدّين الإسلامي ممّا تتكوّن جامعة المسلمين بالاتفاق على أصوله» (19). كما دافع عن قتل المرتدّ الذي اختار أن يغيّر معتقده بكلّ حريّة. فقد ذهب ابن عاشور إلى وجوب قتل المرتد منحازا إلى ما أسماه «إجماع الصّحابة» من دون تقديم دليل من القرآن، واعتبر أنّ الدّاخل في الإسلام بحريّة في اعتقاده يصير غير حرّ في الخروج منه، وإن اختار الخروج وجب قتله، لأنّه إن بقي حيّاً أصبح دليلاً وهميّاً على عدم صحّة الدّين: «فإذا ارتدّ أحد عن الإسلام جملة بعد أن كان من أهل الملّة فقد نقض العهد الذي دخل به في الإسلام، فيستتاب ثلاثة، فإن لم يتب قتل تطهيرا للجامعة من عروق الأدواء المهلكة لها»!! (20) 
الهوامش
(1) ابن عاشور، أليس الصبح بقريب، الشركة التونسية للتوزيع تونس، ص 179
(2) ابن عاشور، مقاصد الشريعة الإسلاميّة، تحقيق ودراسة محمد الطاهر الميساوي، دار النفائس ط2، 2001، ص.ص 391-392
(3) ابن عاشور، أصول النظام الإجتماعي في الإسلام،ط2، الشركة التونسية للتوزيع،جويلة 1985، ص 160
(4) نفسه، ص 162
(5) جَمْهَرةُ مَقَالَاتٍ وَرَسَائِل الشَيْخِ الإِمَامِ مُحَمَّدٍ الطَّاهِر ابْنِ عَاشُور جمعها وقرأها ووثقها محمد الطاهِر الميسَاوي، المجَلّدُ 2، دار النفائس للنشر والتوزيع - الأردن، ط.1 - 2014م، ص591
(6)  ابن عاشور، أصول النظام الإجتماعي في الإسلام، مصدر سابق ص 163
(7) نفسه، ص 169
(8) نفسه، ص 170
(9) ابن عاشور، مقاصد الشريعة الإسلاميّة، مصدر سابق ص 390
(10) ابن عاشور، أصول النظام الإجتماعي في الإسلام، مصدر سابق ص 170
(11) ابن عاشور، تفسير التحرير والتنوير، الجزء 3، الدار التونسية للنشر، تونس، 1984، ص 20 
(12) ابن عاشور، أصول النظام الإجتماعي في الإسلام، مصدر سابق ص 171
(13) جَمْهَرةُ مَقَالَاتٍ وَرَسَائِل الشَيْخِ الإِمَامِ مُحَمَّدٍ الطَّاهِر ابْنِ عَاشُور، مصدر سابق، ص 596 
(14) لمزيد التوضيح انظر تفسير الآية في  التحرير والتنوير  ج14 ، ص.ص 325-332
(15) ابن عاشور،احترام الأفكار، مجلة السعادة العظمى عدد 18، في 16 رمضان 1322 ،  ص 274 
(16) نفسه،  ص 275 
(17) نفسه،  ص 276 
(18) جَمْهَرةُ مَقَالَاتٍ وَرَسَائِل الشَيْخِ الإِمَامِ مُحَمَّدٍ الطَّاهِر ابْنِ عَاشُور، مصدر سابق، ص 700 
(19) ابن عاشور، أصول النظام الإجتماعي في الإسلام، ص 171 
(20) نفسه، ص 171