بالمناسبة

بقلم
عبدالله منيوي
نظرات إصلاحية للطاهر بن عاشور في تفسير «التحرير والتنوير» (1/2)
 مقدمة
يعتبر القرآن الكريم دستور الأمّة الإسلاميّة الذي فيه نجاتها في الدّنيا والآخرة، لذا كان ولا يزال الاهتمام به من أولى أولويّات العلماء العاملين، وقد تعدّدت التّفاسير عبر التّاريخ محاولة بيان آياته وتفسيرها، فاختلفت أنواعها ومناهجها، بحسب السّياق التّاريخي والاجتماعي والفكري الذي عاش فيه المفسّر، فمنها من لم تكتب لها الشّهرة والتّداول ومنها من مَنَّ اللّه على صاحبها بالشّهرة والانتشار الواسع، ومن التّفاسير المعاصرة التي تعدّ الأوسع شهرة، والأعمق تفسيرا، نجد تفسير «التّحرير والتّنوير» للعلامة التونسي محمد الطّاهر بن عاشور.
فما هي مميزات هذا التّفسير، وما مدى اهتمام مؤلّفه بمعالجة القضايا الحضاريّة المعاصرة في ظلّ تطوّر الوقائع المجتمعيّة في وطنه خاصّة وفي البلاد الإسلاميّة بشكل عامّ؟
للإجابة عن هذا الإشكال عملت على تتبّع خطوات منهجيّة، حيث بحثت عن السّيرة الشّخصيّة والعلميّة للمفسّر، وكذا الوضع الاجتماعي والحضاري لوطنه من أجل معرفة القضايا الحارقة التي كانت سائدة في عصره، ملتمسا بعض الآيات التي يمكن استنباط العلاج لتلك القضايا وإيجاد الحلول لها، وقد قسّمت المقال على حلقتينّ، الأولى وتتضمّن مدخلا وفيه عرض للسّيرة الذّاتية للمؤلِّف ونبذة عنه، وكذا السّياق الاجتماعي والسّياسي الذي كان سائدا في تلك المرحلة.  ثمّ تطرقنا  إلى النظرة الإصلاحية للمؤلف في القضايا التربوية والعلمية.. وفي الحلقة القادمة سنستعرض رؤيته الإصلاحية الاقتصادية  ومواقفه من قضيّة المرأة ودفاعه عن العبادات في ظل تقليد الغرب، وسنأخذ الصيام أنموذجا.
مدخل
أولا: السّيرة الذّاتيّة العلميّة لابن عاشور:
يعتبر الشّيخ محمد الطّاهر بن محمد بن محمد الطّاهر بن عاشور، الإمام الضّليع في العلوم الشّرعيّة واللّغويّة والأدبيّة والتّاريخيّة، ولد سنة 1879م، والتحق بجامع الزّيتونة سنة 1892م بعد أن حفظ القرآن الكريم، وتعلم اللّغة الفرنسيّة، ودرَّس بالصّادقيّة سنة 1900م، وفي سنة 1904م سُمّي نائبا عن الدّولة لدى نظارة جامع الزّيتونة، فابتدأ أعماله بإدخال نظم مهمّة على التّعليم وعرضها على الحكومة فوقع تنفيذ شيء منها وأبقي الكثير منها في انتظار فرصة أخرى، وفي سنة 1908م سُمّي عضوا في تنقيح برامج التعليم وكتب تقريرا عن حالة التعليم فكان الاعتماد على لائحته، كما قدم لائحة في إيجاد تعليم ابتدائي إسلامي منظّم في المدن الخمس: القيروان، وسوسة، وصفاقس، وتوزر، وقفصة، وفي نفس السّنة سُمّي عضوا بالمجلس المختلط العقاري، وفي سنة 1913م اعتبر قاضيّا مالكيّا للجماعة، وبموجب ذلك دخل في هيئة النّظارة العلميّة المديرة لشؤون جامع الزّيتونة، وتقلّد مجموعة من المناصب في الجامع، ومن أهمّها منصب شيخ الإسلام المالكي سنة 1932م، واعتزله سنة 1951م، ليصبح عميدا للجامعة الزّيتونة في أبريل 1956م، فأدخل مجموعة من الإصلاحات المهمّة على نظام التّعليم ومنها إدخاله مواد جديدة كالفيزياء والكيمياء والجبر، من مؤلّفاته: «أصول الإنشاء والخطابة»، و«أليس الصّبح بقريب»، و«التّحرير والتنوير»، و«قصة المولد النبوي الشريف»(1) .الخ..
من خلال هذه السّيرة الموجزة، يتّضح جليّا أنّ شخصيّة الطّاهر بن عاشور ذات فاعليّة وحركيّة داخل مجتمعه. 
ثانيا: تفسير محمد الطاهر بن عاشور
كتاب «التّحرير والتّنوير» لابن عاشور، واسمه الكامل: «تحرير المعنى السّديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»، نشرته الدّار التّونسيّة عام 1984م في ثلاثين جزءا، ذكر مؤلفه في الجزء الأول مقدّماته العشر التي تبيّن منهجه في تفسيره، ثمّ شرع في تفسير الفاتحة وجزء من سورة البقرة، وباقي الأجزاء أكملت التّفسير لسور القرآن الكريم.
أمّا عن منهجه رحمه اللّه فقد بيّنه في مقدمته كما هي عادة العلماء في بيان الغرض من التّأليف والمنهج المتبع، فنجده يقول: «وَقَدِ اهْتَمَمْتُ فِي تَفْسِيرِي هَذَا بِبَيَانِ وُجُوهِ الْإِعْجَازِ، وَنُكَتِ الْبَلَاغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، وَأَسَالِيبِ الِاسْتِعْمَالِ، وَاهْتَمَمْتُ أَيْضًا بِبَيَانِ تَنَاسُبِ اتِّصَالِ الْآيِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ (...) وَلَمْ أُغَادِرْ سُورَةً إِلَّا بَيَّنْتُ مَا أُحِيطُ بِهِ مِنْ أَغْرَاضِهَا؛ لِئَلَّا يَكُونَ النَّاظِرُ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ مَقْصُورًا عَلَى بَيَانِ مُفْرَدَاتِهِ وَمَعَانِي جُمَلِهِ كَأَنَّهَا فِقَرٌ مُتَفَرِّقَةٌ تَصْرِفُهُ عَنْ رَوْعَةِ انْسِجَامِهِ وَتَحْجُبُ عَنْهُ رَوَائِعَ جَمَالِهِ .وَاهْتَمَمْتُ بِتَبْيِينِ مَعَانِي الْمُفْرَدَاتِ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، بِضَبْطٍ وَتَحْقِيقٍ مِمَّا خَلَتْ عَنْ ضَبْطِ كَثِيرٍ مِنْهُ قَوَامِيسُ اللُّغَةِ .وَعَسَى أَنْ يَجِدَ فِيهِ الْمُطَالِعُ تَحْقِيقَ مُرَادهِ، وَيَتَنَاوَلَ مِنْهُ فَوَائِدَ وَنُكَتًا عَلَى قَدْرِ اسْتِعْدَادهِ، فَإِنِّي بَذَلْتُ الْجُهْدَ فِي الْكَشْفِ عَنْ نُكَتٍ مِنْ مَعَانِي الْقُرْآنِ وَإِعْجَازهِ خَلَتْ عَنْهَا التَّفَاسِيرُ، وَمِنْ أَسَالِيبِ الِاسْتِعْمَالِ الْفَصِيحِ مَا تَصْبُو إِلَيْهِ هِمَمُ النَّحَارِيرِ، بِحَيْثُ سَاوَى هَذَا التَّفْسِيرُ عَلَى اخْتِصَارهِ مُطَوَّلَاتِ الْقَمَاطِيرِ، فَفِيهِ أَحْسَنُ مَا فِي التَّفَاسِير، وَفِيهِ أَحْسَنُ مِمَّا فِي التَّفَاسِير  وَسَمَّيتُهُ: تَحْرِيرَ الْمَعْنَى السَّدِيدِ وَتَنْوِيرَ الْعَقْلِ الْجَدِيدِ مِنْ تَفْسِيرِ الْكِتَابِ الْمَجِيدِ، وَاخْتَصَرْتُ هَذَا الِاسْمَ بِاسْمِ: التَّحْرِير وَالتَّنْوِيرِ مِنَ التَّفْسِير»(2)، فمن خلال هذا النصّ يتبيّن حجم المجهود الذي بذله الشّيخ من أجل تحرير هذا المؤلّف الضّخم، حيث كان يذكر مقطعا من السّورة ثمّ يشرع في تفسيره مبتدئا بذكر المناسبة ثمّ لغويّات المقطع ثمّ التّفسير الإجمالي ويتعرّض فيه للقراءات والفقهيّات وغيرها، وهو يقدّم عرضا تفصيليّا لما في السّورة ويتحدّث عن ارتباط آياتها، وما تحتويه من مقاصد، إلى غير ذلك.
ثالثاً: السياق التاريخي الذي عاش فيه ابن عاشور:
من المعلوم أن تونس نالت استقلالها عن الاحتلال الفرنسي رسميا سنة 1956م، ممّا يجعلنا ندرك أنّ الشّيخ ابن عاشور رحمه اللّه عاصر مرحلتين هامّتين في مساره العلمي، مرحلة الاحتلال ومرحلة الاستقلال.
وقد ظهر في فترة الاحتلال في الوطن العربي مجموعة من العلماء المناضلين المناهضين لهذه السّياسة، ومن أبرزهم الشّيخ الطّاهر بن عاشور ثمّ الشّيخ ابن باديس في الجزائر، وأيضا علال الفاسي في المغرب، حيث امتدّ عمل الأول في البحث والتّنظير والتّدريس على مدى ثلاثة أرباع القرن الماضي، في حين امتد جهاد الشّيخ ابن باديس بالقلم والتّبليغ طوال النّصف الأول من القرن الماضي، أمّا الأستاذ علال الفاسي فقد ركز عمله على الكفاح الميداني بجانب التّأليف قبل استقلال المغرب وبعده. 
وجه الاتفاق بين هؤلاء المصلحين الثّلاثة هو كونهم اتفقوا على إحياء الاجتهاد والتّجديد، وعلى تحرير مجتمعهم من مختلف مثبطات النّهضة، والتّحرّر من الاستعمار والتّخلّف والجهل، واتفقوا على إصلاح التّربية والتّعليم فأبلوا البلاء الحسن، رغم ما وجدوا من عوائق، والتي من أهمّها رفض الاستعمار الفرنسي لكلّ محاولات الإصلاح خصوصا في مجال التّعليم(3).
كما عرف الشّيخ الطّاهر بن عاشور بتأثّره بدعوة محمد عبده التي كان لها صدى في تونس، حتّى أنّه كان من أكبر المثقّفين ملازمة له عند زيارته لتونس سنة 1903م (4)، ويقول عن هذه العلاقة الشّيخ عبد الحميد بن باديس: «عرفت الأستاذ الطّاهر بن عاشور في جامع الزّيتونة، وهو ثاني الرّجلين اللّذين يشار إليهما بالرّسوخ في العلم، وبالتّحقيق في النّظر والسّمو، والاتساع في التّفكير، أوّلهما العلامة الأستاذ شيخنا «محمد النخلي» رحمه اللّه، وثانيهما الأستاذ الطّاهر بن عاشور» وكانا كما يشار إليهما بالصّفات التي ذكرنا، يشار إليهما بالضّلال، والبدعة، وما هو أكثر من ذلك، لأنّهما كانا يحبّذان آراء محمد عبده في الإصلاح، ويناضلان عنها، ويبثّانها في من يقرأ عليهما»(5).
وقد اهتم الشّيخ ابن عاشور بالقضايا الحارقة التي كانت سائدة في مجتمعه، خاصّة ما يتعلّق بالجانب التّربوي والدّيني، لذا نجد في تفسيره-الذي استغرق في إنجازه حوالي أربعين سنة -شذرات وتلميحات وأحيانا تفاصيل رأيه في مجموعة من الأحداث السّائدة.
المحور الأول: نظرات إصلاحية للقضايا التربوية والعلمية
يعتبر التعليم من أهم القضايا التربوية التي شغلت فكر العديد من المصلحين في القرن التاسع عشر، ويعد الطاهر ابن عاشور واحدا منهم ، حيث ألف كتابه «أليس الصبح بقريب» تناول فيه كيفية إصلاح التعليم، فكان النهوض بالعلم من بين الأولويات التي شغلت حياته، إذ كانت له رؤية خاصة عن العلم وأهميته، تتبين من خلال تفسيره لقوله تعالى: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ (الزمر: 9)، حيث تحدث مطولا عن أهمية العلم، واعتبره أخا للإيمان لأن كليهما نور ومعرفة وحق، وجعل الكفر أخا للضلال لأنهما ظلمة وأوهام باطلة، فقال: «ما تأملت مقاما اقتحم فيه عالم وجاهل إلا وجدت للعالم فيه من السعادة ما لا تجده للجاهل»(6)، وقد ضرب لذلك مثلا بمقامات ستة هي جل وظائف الحياة الاجتماعية، حيث جعل المقام الأول للعمل وهو من ثمار العلم، والمقام الثاني للسلامة من نوائب الخطأ لأن العلم يعصم صاحبه، والثالث مقام أنس الانكشاف، فالعالم تنكشف له الحقائق ، والرابع مقام الغنى عن الناس، والخامس الالتذاذ بالمعرفة، والسادس صدور الآثار النافعة في مدى العمر(7)، وهذه المقامات كلها من ثمار العلم، لذا حث على طلبه، واعتبر أن التعليم هو بوابة العلم، لذا دعا إلى إجبارية التعليم، وأن الأسرة ينبغي أن تجبر أطفالها وتشجعهم على التعلم دون تمييز بين الذكور والإناث، فالجميع ينبغي أن يحصل على مفتاح النور الذي سيضيئ حياته مستقبلا، خاصة في ظل تراجع الحضارة الإسلامية وانتشار الجهل والتخلف بين فئات المجتمع بسبب الاستعمار والفقر والتهميش الذي كانت البلدان الإسلامية تعيشه.
كما كان يرفض طريقة التعليم السائدة في بلاده، التي كانت تعتمد المقاربة بالمضامين، أي أنها تهتم بالحفظ وحشو الأدمغة، فاعتبر أن العلوم التي تدرس في الزيتونة إضاعة للوقت(8)، فدعا إلى مواكبة العصر والاهتمام بالعلوم العقلية وبتطور العلوم، فعمل على توضيح هذه الرؤية التعليمية في تفسيره، حتى يعود قارئ القرآن على ضرورة فهم ما توصل إليه العلم من اكتشافات، واعتبر أن التفسير العلمي مهم في جميع المجالات، ومن ذلك الاعتماد على الأدلة العقلية فقال: «وأن بعض مسائل العلوم قد تكون أشد تعلقا بتفسير آي القرآن، كما تفرض مسألة كلامية لتقرير دليل قرآني مثل برهان التمانع لتقرير معنى قوله تعالى: ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَآ ءَالِهَةٌ اِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَٰنَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ﴾ (الأنبياء:22)، وأيضا قوله تعالى ﴿اَفَلَمْ يَنظُرُوٓاْ إِلَي السَّمَآءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَٰهَا وَزَيَّنَّٰهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوج﴾ (ق:6) فإن  القصد منه الاعتبار بالحالة الشاهدة، فلو زاد المفسر ففصل تلك الحالة وبين أسرارها وعللها بما هو مبين في علم الهيأة كان قد زاد القصد خدمة. وإما على وجه التوفيق بين المعنى القرآني وبين المسائل الصحيحة ظن العلم، حيث يمكن الجمع. وإما على وجه الاسترواح من الآية، كما يؤخد من قوله تعالى: ﴿وَيَوْمَ نُسَيِّرُ اُلْجِبَالَ وَتَرَي اَلَارْضَ بَارِزَةٗ وَحَشَرْنَٰهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمُ ٓأَحَدا﴾ ( الكهف 46) أن فناء العالم يكون بالزلازل، ومن قوله تعالى: ﴿ إِذَا اَلشَّمْسُ كُوِّرَتْ﴾، أن نظام الجاذبية يختل عند فناء العالم، وشرط  كون ذلك مقبولا، أن يسلك فيه مسلك الإيجاز فلا يجلب إلا الخلاصة من ذلك العلم»(9)، فالآيات التي تدعو إلى التفكر تجعل من إعمال العقل واجبا على المفسر، وهذا يعني الاستفادة من تطور البحث العلمي من أجل تفسير بعض الظواهر، فكأني بالشيخ يدعو إلى تكامل العلوم الشرعية والعلوم المادية والطبيعية، فيتم استثمار علوم الحياة والأرض وعلوم الفيزياء في شرح هذه الظواهر الموجودة في القرآن الكريم، الأمر الذي لم يكن موجودا قبل ابن عاشور، ولم يقبل أيضا بشكل كبير بعده، وربما الأمر يعود إلى أن الاكتشافات العلمية ليست دقيقة ولا نهائية، فكم من اكتشاف تم تفنيده بعد اكتشاف جديد آخر، ومع ذلك فإن الشيخ دعا إلى الاستفادة من هذه الاكتشافات العلميّة لفهم الآيات المتعلقة بالكون، والتي لم يتم تفسيرها بشكل كبير قديما، لهذا  فإن قارئ «التحرير والتنوير» يجد العديد من الآيات التي مثلت هذا التكامل بشكل واضح، فمن الآيات التي اعتمد فيها التفسير العلمي نجد:
في تفسيره لقوله تعالى: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ ( البقرة: 164) يقول: «المقصود من هاته الآيات إثبات دلائل وجود الله تعالى ووحدانيته ولذلك ذكرت إثر ذكر الوحدانية لأنها إذا أثبتت بها الوحدانية ثبت الوجود بالضرورة»(10) ، ثم بعد التطرق لمعنى الآيات يذكر نكتا مهمة في الجانب العلمي حيث يقول: «وفي الآية عبرة علمية لمن يجيء من أهل العلم الطبيعي وذلك أن جعل الماء نازلا من السماء يشير إلى  أن بخار الماء يصير ماء في الكرة الهوائية، فعندما يلامس الطبقة الزمهريرية و في هذه الطبقة يصير زمهريرا عندما تقل حرارة أشعة الشمس»(11)، فيوضح كيفية تكون المياه في السماء بعد تبخرها، ثم نزولها إلى الأرض.
وكذلك يشير إلى الرياح وكيفية تكوينها فيقول: «ولأهل العلم في ذلك أيضا موضع عبرة أعجب وموضع نعمة، وذلك أن سبب تصريف الرياح أن الله أحاط الكرة الأرضية بهواء خلقه معها، به يتنفس الحيوان وهو محيط بجميع الكرة بحرها وبرها متصل بسطحها ويشغل من فوق سطحها ارتفاعا لا يعيش الحيوان لو صعد إلى أعلاه وقد خلقه الله مؤلفا من غازين هما (النتروجين والأكسجين) وفيه جزء آخر عارض فيه وهو جانب من البخار المائي المتصاعد له من تبخر البحار ورطوبة الأرض بأشعة الشمس، وهذا البخار هو غاز دقيق لا يشاهد، وهذا الهواء قابل للحرارة والبرودة (...) وحرارته تأتي من أشعة الشمس (...) ولما كانت الحرارة من طبعها أن تمدد أجزاء الأشياء فتتلطف بذلك التمدد كما تقرر في الكيمياء»(12).
 ويفسر قوله تعالى: ﴿وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاٗ شِدَادا﴾ (النبأ:12) فأراد «بالسبع الشداد: السموات (...) فيجوز أن يراد بالسبع الكواكب السبعة المشهورة بين الناس يومئذ وهي: زحل والمشتري والمريخ والشمس والزهرة وعطارد والقمر(...) وهذا ترتيبها بحسب ارتفاع بعضها فوق بعض بما دل عليه خسوف بعضها ببعض حتى يحول بينه وبين ضوء الشمس التي تكتسب بقية الكواكب النور من شعاع الشمس، وهذا المحمل هو الأظهر لأن العبرة بها أظهر لأن المخاطبين لا يرون السموات السبع ويرون هذه السيارات ويعهدونها دون غيرها من السيارات التي اكتشفها علماء الفلك من بعد وهي (ستورن  نبتون أورانوس)»(13).
 فأثر الجانب العلمي في شخصية ابن عاشور ظاهر في تفسيره، حيث نجد أن اهتمام الشيخ بالتعليم والانفتاح على العلوم العقلية واضح في مختلف كتاباته ومنها تفسير التحرير، وهذا دليل على مواكبته لتطور الحضارة الإنسانية بشكل عام، ومن ثم يمكن القول بأن تجليات الإصلاح الحضاري واضحة في شرحه للآيات، باعتبار أن البوابة لأي انطلاقة حضارية جديدة لا يمكن أن تكون خارج نطاق العلم. فحاجة المسلمين اليوم إلى التسلح بسلاح العلم مع العودة إلى الوحي الشريف. (يتبع)
الهوامش
(1) ينظر، تراجم المؤلفين التونسيين، محمد محفوظ، ج 3، حرف العين، من ص 304 إلى ص 307. 
(2) تفسير التحرير والتنوير، محمد الطاهر بن عاشور، ج 1، ص 8. 
(3) ينظر: ماهدون من المغرب العربي في النصف الثاني من القرن العشرين، محمد بلبشير الحسني، ص17-19.
(4) التجديد والإصلاح في فكر ابن عاشور، عمار الطالبي، ص31.
(5) شيخ الإسلام لتونس يقاوم السنة ويؤيد البدعة ويغري السلطة بالمسلمين، عبد الحميد بن باديس، ص 138.
(6) التحرير والتنوير، ج24، ص 349.  
(7)  نفسه، ص350/351.
(8) لمزيد من التفصيل ينظر: بحث في الموضوع بعنوان (الطاهر بن عاشور ودور المعلم في الإصلاح والتنوير) ،خالد بشير،15يونيو2017، مجلة التنويري، Altanweeri.net
(9) التحرير والتنوير، المقدمة الرابعة، ج1، ص 43.
(10) التحرير والتنوير، ج 2، ص77.   
(11) التحرير والتنوير، ج 2، ص 83.
(12) التحرير والتنوير، ج2، ص 85. 
(13) التحرير والتنوير، الجزء الأخير، تفسير سورة النبأ، ص22/23.