تمتمات

بقلم
رفيق الشاهد
هيروستراتوس مازال بيننا Héro stratus jamais oublié
 لست مختصّا في التّاريخ لأسمح لنفسي بالتّحدّث في الحضارة اليونانيّة أو مناقشة علاقتها بالحضارة الإغريقيّة التي امتدّت على ما يقارب الألف سنة وانتهت بموت الإسكندر الأكبر 323 عاما قبل الميلاد. ولكن لم يمنعني عدم التّخصّص من توفّر قليل من المعرفة حصلت لي كما تحصل لكلّ من اطّلع على بعض الآثار الأدبيّة والفنيّة للكتّاب القدامى، أو ما نقل عنهم عدد من الباحثين المعاصرين المهتمين بهذا الشّأن. يزداد كلّ يوم أعجابي بإنجازات فلاسفة ذلك العصر وعمق الفكر الذي نجد آثاره في كلّ المجالات: رياضيّات وعلوم اجتماعيّة وسياسيّة، وكذلك في مجال الفنون وبصفة خاصّة الشّعر.
فعلا أنا لا أفهم في التّاريخ ولا الحضارات القديمة ولا الحديثة، ولكنّني كمختصّ في الأرصاد الجويّة تعلّمت منذ الدّروس الأولى على مدارج الكليّة أنّ أسماء السّحب وتصنيفاتها باعتبار الأجناس والأصناف والأنواع وخصائص أخرى مثل الأصول والشّكل والعلو والارتفاع والعمق، إضافة إلى مميّزات أخرى معقّدة، إنّما هي لاتينيّة المصدر. ولكنّني اكتشفت مشتقّا جديدا كان يمكن أن يكون تصنيفا لفرع من فروع لجنس من أجناس السّحب يسمّى «بالستراتوس» والذي يشار إليه بــ «الرّهج» في النّسخة العربيّة للأطلس الدّولي للسّحب الصّادر عن المنظّمة العالميّة للأرصاد الجويّة. و«الرّهج» عبارة عن طبقة من السّحب رماديّة اللّون منتظمة القاعدة، ينجم عنها رذاذ أو ثلج أو حبيبات ثلجيّة. وتتفرّع عن هذا الجنس أصناف ثلاثة وهي الرّهج الأعلى «سيرو ستراتوس» (Sirro-stratus)  والمزني «ألتو ستراتوس» (Alto-stratus)  والركامي «ستراتو كمولوس» (Strato-cumulus). أمّا الصّنف الرّابع والجديد الذي لم يذكر في الأطلس الدّولي فهو ما يعرف بالهيرو ستراتوس (Héro-stratus) . 
بالتّأكيد لم ينسب هذا الاسم لا إلى أحد الأصناف ولا إلى فرع من فروع السّحب وإنّما لطقس من طقوس الأنفس البشريّة، حيث كان اسما لشخصيّة يونانيّة من عامّة النّاس أرادت فقط الشّهرة وتخليد اسمها بأعمال شنيعة. وعلى قدر شناعتها تكون شهرته. كان المسمّى «هيروستراتوس» مقيماً في مدينة «أفسوس» اليونانيّة القديمة، وقد أحرق معبد «آرتميس» في العام 356 قبل الميلاد، فأصبحت هذه الواقعة مِعلماً تاريخيّاً ومبحثا من مباحث العلوم الإنسانيّة. وألهمت الـ «هيروستراتية» التي أخذت مكانها في علم النّفس عديد المهتمين من بينهم  الكاتب «غريغوري غورين» الذي غاص فيها وفي هذا المصطلح الذي أصبح متداولا ويدلّ إلى من يميلون إلى التّسبّب بكوارث من أجل تخليد ذكراهم. 
وكم أصبح كثرا هؤلاء ضحايا الهيروستراتيّة. يا خيبة «غورين» وعقلاء اليونان لماّ لم يُنْس «هيروستراتوس» كما تمنّوا بل واصل اسمه نجما يخترق العصور ويبصم تاريخها، واليوم يتلألأ مصطلح الهيروستراتيّة في علم النّفس. ألم يقل «غورين»على لسان «هيروسترتوس»: «عندما أشعر بالقوّة سأبدأ في إدارة الأحداث والنّاس، عندها فقط سيجد الفلاسفة عذرا لكلّ ما حدث»؟
 فعلا صدق «غورين» وصدق قبله بطل مسرحيّته، لأنّ فلاسفة الأمس البعيد وفلاسفة اليوم القريب وجدوا أعذارا لكلّ ما حدث. وتأكّدت أنا على الأقل كم ظلّ الفكر البشري جامدا أمام حجم إنجازات الفلاسفة الإغريق. وفهمت جيّدا حتّى لم أعد استغرب البلاء المسلّط على شعوبنا العربيّة والإسلاميّة التي لم تعرف كيف تقرأ الفكر السّابق وتستفيد منه، بل أغلقت كلّ المنافذ وأحرقت كلّ الكتب. 
كم نسخة لهيروستراتوس ظهرت في العراق وفي سوريا وليبيا واليمن وفي تونس والمغرب ولبنان... الأكيد أنّ التّاريخ سيحفظهم في سجلات الأحداث السّيئة والكوارث التي حلّت ببلدانهم ومدنهم على غرار معبد «أرتميس» الذي لم يكن لي أن أعلم به لو لم يحرقه «هيروستراتوس الأول». 
كم كثر أصبح هؤلاء الهيروستراتوسيّين، وكم من الأموال جمعوا وأتلفوا، وكم عزّة نفس قبروا وكم من الشّرف أهدروا. شعارهم «الغاية تبرّر الوسيلة». والإشاعة الوسيلة المثلى التي أوصلتهم إلى الشّهرة فأشعرتهم هذه بالقوّة ومكّنتهم من إدارة الأحداث والتّصرّف في حياة النّاس واستعبادهم عبر ما أتيح لهم من فضاءات التّواصل الاجتماعي على الشّبكة العنكبوتيّة والقنوات التلفزيّة أدوات دعايّة لمن يدفع أكثر.
بورك في كلّ الفلاسفة الذين سبقوا، أعملوا معاولهم في عقول قاحلة، وألقوا فيها بذرة الحكمة. وبورك في اللاّحقين الذين نعوّل عليهم في استكمال نحت إنسانيّتنا حيث كانت شرقا وغربا. لم يُنْسَ «هيروستراتوس» وسيبقى بيننا طالما نصبنا تمثاله غيمة في سمائنا، وسنحيي ذكراه كلّما حجبت أشعة الشّمس عن بلدي.