الدولة في الحديث النبوي

بقلم
الهادي بريك
الحلقة الرابعة - الخروج على الدولة
 يستخدم الأقدمون كلمة الخروج التي يعنون بها ما نعنيه نحن اليوم المعارضة. والخروج (كالمعارضة) إمّا أن يكون مسلّحا بالقوّة أو سلميّا. شهد التّاريخ الأمرين معا. مرّ معنا في الحديث المتّفق عليه عن إبن عمر أنّ من بنود البيعة لرسول اللّه ﷺ ألاّ ينازع الأمر أهله إلاّ أن يكون للمنازع فيه برهان من اللّه سبحانه. وورد مثل ذلك ـ أو تبيينا له ـ في حديث آخر أخرجه مسلم عن أمّ سلمة أنّه ﷺ قال: «سيكون أمراء فتعرفون منهم وتنكرون. فمن عرف برئ ومن أنكر سلم. ولكن من رضي وتابع. قال الصّحابة: أفلا نقاتلهم؟. قال ﷺ : لا. ما صلّوا». وفي حديث آخر قال ﷺ فيما أخرجه مسلم عن عوف إبن مالك «خيار أئمّتكم الذين يحبّونكم وتحبّونهم، ويصلّون عليكم وتصلّون عليهم، وشرارهم الذين يبغضونكم وتبغضونهم وتلعنونهم ويلعنونكم. قيل : أفلا ننابذهم بالسّيف؟ قال : لا، ما أقاموا فيكم الصّلاة. وإذا رأيتم من ولاتكم شيئا تكرهونه فأكرهوا عمله ولا تنزعوا يدا من طاعة». الصّلاة هنا ـ من الأمراء على النّاس ومن هؤلاء على الأمراء ـ معناها الدّعاء لهم. 
وقال ﷺ في حديث آخر أخرجه أحمد وأهل السّنن الأربعة والحاكم عن أبي سعيد الخدريّ وآخرين:«أفضل الجهاد كلمة حقّ عند سلطان جائر». وقال في موضع آخر فيما أخرجه الحاكم عن جابر: «سيّد الشّهداء حمزة ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله».  وقال في موضع آخر ﷺ فيما أخرجه أبوداوود عن أبي بكرة وأصحاب السّنن: «إنّ النّاس إذا رأوا الظّالم فلم يأخذوا على يديه أوشك اللّه أن يعمّهم بعقاب».
ولا بدّ لنا ـ حتّى نتوخّى المنهج الصّحيح لمعرفة الحكم الصّحيح في القضيّة ـ من معرفة تعاليم القرآن الكريم في هذا الأمر من جهة ومعرفة عمل الصّحابة الكرام عليهم الرّضوان من جهة أخرى. ذلك أنّ القرآن الكريم هو الذي يؤسّس لكلّ هذه القضايا، والنّبوّة مكلّفة بالتّبيين، والصّحابة هم خير من وعوا ذلك وخير من نزّلوه. إنّما أهلك الهالكين الإبتسار والإجتزاء، أي الفهم الموضعيّ لا الموضوعيّ. 
عالج القرآن الكريم قضيّة الإنكار على الدّولة الظّالمة بالأمر به، حتّى قال سبحانه: ﴿وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ﴾(هود:113) . وأخبرنا عن بني إسرائيل ـ حتّى نجتنب ما فعلوه ـ كيف أنّه سبحانه غضب عليهم كلّ الغضب لمّا كتموا بعض ما أنزل اللّه. وأورد في ذلك في سورة البقرة وحدها آيتين متشابهتين جدّا في المبنى متّحدتين في المعنى وفي سياق قريب قال فيه ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَىٰ مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَٰئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ﴾(البقرة: 159).
التّعاليم القرآنيّة إذن واضحة صريحة في وجوب الإنكار على الدّولة كلّما إقترفت ظلما لنا فيه من اللّه سبحانه برهان صحيح صريح. مبدأ الإنكار، وسيلة الإنكار وآماده شيء آخر يخضع للتّقديرات. كيف تصرّف الصّحابة؟ حتّى مع بطش سفّاح بني أميّة (الحجّاج الثّقفيّ) لم تتأخّر أسماء بنت أبي بكر (زوج الزّبير إبن العوّام وأمّ عبد اللّه) عن قول الحقّ في وجه ذلك السّفاح الذي قتل أحد خير التّابعين من الفقهاء، وهو سعيد بن جبير، وهي صحابية. وما قتل إبن جبير إلاّ لمعارضته الحجّاج. وعلى ذلك المنوال سار العلماء والفقهاء. 
وما اشتهر من هذا شيء مثل إشتهار معارضة الإمام أحمد بن حنبل لبعض خلفاء بني العبّاس في قضية خلق القرآن الكريم، ولم تلن له قناة إذ عذّب ونكّل به. ومثله الإمام مالك إذ أفتى بعدم جواز طلاق المكره على خلفيّة سياسيّة التقطها بنو العبّاس، ولم يفتهم أنّه يعارض ملكهم. وأنجى اللّه الإمام الشّافعيّ بحذقه الكلام، إذ جيء به مع تسعة من المعارضين فقتلوا جميعا. وكان أبو حنيفة يزوّد المعارضين بالمال. هذا أمر لا خلاف عليه إذن، مبدأ الإنكار والمعارضة. ولذلك قال ﷺ فيما مرّ بنا «ولكن من رضي وتابع» أي أنّ التّثريب يقع على من رضي بظلم الحاكم الجائر وتابعه عليه، أمّا من أنكر فقد سلم كما قال ﷺ في الحديث ذاته. كرّر ﷺ أمر الصّلاة مرّتين عندما سئل من الصّحابة «هل نقاتلهم أو هل ننابذهم بالسّيف». مرّة قال : لا، ما صلّوا. ومرّة قال : لا، ما أقاموا فيكم الصّلاة. 
الصّلاة إذن معيار لعدم مباشرة معارضة مسلّحة. والمقصود هو إقامة الصّلاة فينا وليس مجرّد الصّلاة، لأنّ صلاة الدّولة ورجالها وإقامتها دليل على حرصهم على أكبر شعائر الإسلام وعلى عموده الذي بدونه لا حديث عن الإسلام. وليس لنا أن نتسلّق القصور حتّى نعرف إن كان رجال الدّولة يصلّون أم لا. ويمكن فهم ذلك اليوم على نحو نتبيّن فيه موقف الدّولة ورجالها من شعيرة الصّلاة ذاتها. ليس مطلوبا منهم إقام الصّلاة في النّاس، ولكن عندما تكون الصّلاة موقّرة عندهم فإنّهم يحرصون على توفير المناخات المناسبة لها. ولكن عندما تكون الدّولة ورجالها ضائقة بالصّلاة وبالمساجد وبمكبّرات الصّوت التي تزعج المترفين والفاسدين في الهزيع الأخير من اللّيل، فليس لك أن تدافع عن إسلاميّة تلك الدّولة أو رجالها. ولكنّ الأصرح من ذلك كلّه قوله ﷺ «أنّ أفضل الجهاد هو كلمة حقّ (وفي رواية : عدل) عند سلطان جائر». الجور سلوك إجتماعيّ وإقتصاديّ وسياسيّ. الجور هو العدوان على حقوق الإنسان أو التّمييز العنصريّ أو الجهويّ أو حتّى الدينيّ أو المذهبيّ. فإذا كانت الصّلاة معيارا لإسلاميّة الدّولة ورجالها فإنّ السّلوك الإجتماعيّ للدّولة معيار لعدلها أو جورها. وكلاهما مبرّر لمعارضتها منابذة باللّسان والقلم والجمعيّة والمنظّمة والحزب على الأقلّ. بل إنّه أرشدنا ﷺ إلى سنّة إجتماعيّة هنا، وهي أنّ عدم معارضة الدّولة الجائرة مؤذّن بنزول غضب اللّه سبحانه. ويأخذ غضب اللّه سبحانه صورا كثيرة.
ومن هنا نتبيّن أنّ من البراهين التي جعلها اللّه سبحانه مسوّغات للخروج على الدّولة إستهانة رجالها بالصّلاة والمساجد وما يمتّ إلى الإسلام ومقدّساته بصلة. وأنّ الجور المنافي للعدل سواء كان سياسيّا أو إجتماعيّا أو إقتصاديّا هو مثل ذلك. وذلك هو ما فقهه عبد اللّه بن الزّبير بن العوّام، ومثله الحسين بن علي بن أبي طالب، وأسماء بنت أبي بكر، وسعيد بن جبير وغيرهم كثيرون بما أضحى معلوما من الدّين بالضّرورة. جرى ذلك في الأيّام التي كانت الدّولة تعترف بالمرجعيّة العليا للشّريعة الإسلامية، فكيف بنا اليوم ولا تكاد تظفر بدولة مسلمة واحدة تعترف بذلك. فمن اعترف بذلك كتابة خالفه بشكل صحيح صريح عملا. وما هو الموقف من الدّولة التي تسخر من ذلك كلّ السّخرية وتلاحق المطالبين بذلك والعاملين له؟ والحديث كلّه ليس عن المختلف فيه ولا عن المستحبّ، بل عن المتّفق عليه بلا أيّ خلاف قطعا مقطوعا وعن الواجبات الكبرى والعظمى، وليس عن مرغوبات. ولكن هل يكون ذلك الخروج سلميّا أو مسلّحا؟ 
لا بدّ لنا هنا من تردّد بين نصّين نبويّين : النّص الذي ينهى عن حمل السّلاح ضدّ المسلمين. والنّص الذي يأمر بمنابذة الدّولة بالقوّة عندما تخرق الصّلاة أو ما في حكمها أو تجور جورا فاحشا. هناك تعارض ظاهريّ واضح. الأمر هنا يعود إلى التّقدير السّياسيّ الذي يتولاه الذين يستنبطونه من أهل الذّكر في هذا الحقل. والضّابط هنا هو ضابط واحد، وهو عدم خوض أيّ تغيير مسلّح يفضي إلى منكر مثل المنكر الذي نحن فيه أو منكر أكبر منه، ذلك أنّ درء المفاسد أولى من جلب المصالح عند التّعارض. 
وعندما توافقت كلمة المصلحين اليوم أو تكاد على أنّ حمل السّلاح ضدّ الدّولة العربيّة الحاضرة لا يقره الإسلام فإنّما هو تغليب لإجتهاد صحيح مفاده أنّه لا تستطيع اليوم قوّة ـ عدا القوّة العسكريّة النّظامية ـ دحر الدّولة التي حقّها المعارضة المسلّحة بسبب وجود برهان لنا من اللّه. ذلك أنّ الدّولة اليوم تتقوّى بأمور مهمّة منها:الدّعم الخارجيّ، فهي دولة تابعة ومحميّة. وتتقوّى كذلك بالقوّات المسمّاة صلبة، أي الجيوش والقوى الأمنيّة الحاملة للسّلاح، ومن ذا فإنّه لم يعد يسعنا عدا المعارضة السّلمية. وقد رأينا بأمّ أعيننا كيف فاءت الثّورات العربيّة التي تمّت عسكرتها ـ بحسن نيّة أو بسوئها ـ بسرعة.
والخلاصة من هذا هي أنّ مقاومة الدّولة الظّالمة ظلما بيّنا سواء في المستوى الثّقافيّ أو الإجتماعيّ أو الإقتصاديّ أو السّياسيّ هي مقاومة مشروعة، ولكنّها مشروطة بالطّبيعة السّلمية بسبب إنخرام الموازين بشكل كامل لصالح الدّولة. وتأخذ تلك المعارضة أشكالا لا تكاد تحصى وكلّها مندرجة ضمن الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، وضمن النّصيحة التي فيها حديث صحيح أنّها تكون للّه ولرسوله ولأئمّة المسلمين وعامّتهم، وضمن فعل الخير والإصلاح ومختلف مفردات المعجم التّغييريّ الذي عجّ به القرآن الكريم ومثل ذلك السنّة النّبويّة وأحسن الصّحابة تنزيله ومن بعدهم من كان في إثرهم من العلماء والفقهاء والمصلحين. عندما فقه هذا فقيه من أكبر فقهاء الأمّة بلا نزاع حتّى سمّي بسبب ذلك (سلطان العلماء ـ وهو العزّ بن عبد السّلام) فإنّه لم يتردّد في سوق المماليك الذين يحكمون الأمّة في تلك الأيّام بأسرها إلى أسواق النّخاسة ليباعوا على خلفية أنّهم عبيد ليس لهم من الأمر شيء، وذلك عندما طعنوا بعض الطّعن العمليّ في بعض أحكام الشّريعة. 
أمّا مبدأ التّغيير بالقوّة فليس مدانا من حيث المبدأ، ذلك أنّ الحديث جاء به من جهة وأنزله الصّحابة فعلا. ما قام به السّبط الحسين مثلا عليه الرّضوان عمل مشروع ومطلوب. ولا أحد يثرّب عليه فيه. عدا أنّ الموازين كانت منخرمة كلّ الإنخرام لصالح الأمويين في العراق. تلك تقديرات سياسيّة وإجتهاديّة يظلّ الإختلاف حولها دوما يغذّ السّير إلى النّاس غذا. لا يحمّل الإسلام إذن بسبب التّعارضات الظّاهرية في الحديث إثم عدم البيان في قضية الخروج على الدّولة التي تخاصم الإسلام. 
القرآن الكريم الذي هو حاكم على الحديث نفسه واضح كلّ الوضوح وصريح كلّ الصّراحة في أولوية المقاومة والمجاهدة ولكن بتقدير سياسيّ رصين أن يتنزّل منكر مثل المنكر المراد تغييره أو منكر أشدّ منه. والحديث المتعارض ظاهريّا فحسب لو قرئ قراءة موضوعيّة جامعة مقاصديّة ـ لا موضعيّة مجتزأة مبتسرة وسائليّة فحسب ـ فإنّه يفيدنا أنّ المقصد الأسنى من الأمر بالصّبر والطّاعة هو وحدة الصّف الإسلاميّ ضيقا بالإختلاف فتذهب ريح الأمّة تمزّقا ويلتقمها العدوّ المتربّص لقمة سائغة. والأمر بعد حفظ ذلك المقصد الأعظم متردّد تقديرا سياسيّا من أهله وفي محالّه المعروفة بين طاعة للدولة في حدود لا تخرج عن معصية اللّه سبحانه وبين مقاومة لها بالوسائل التي لا تفضي إلى منكر جديد في حدود حفظ وحدة الصّف كذلك مرّة أخرى. وبين تلك الطّاعة وتلك المقاومة مسافات من العلم والفقه والوعي والتّقدير الحسن. أمّا الشّطط على طريقة (تنظيم القاعدة) أو تنظيم (داعش) قتالا للدّولة بالسّلاح فلا طعم للإسلام فيه. ومثله الشّطط على طريقة (المداخلة أو الجامية) التي أنشأتها بعض النّظم الخليجيّة لستر عوراتها وبحثا عن شرعيّة دينيّة مفقودة. الإسلام وسطيّ معتدل متوازن في كلّ شعب من شعبه دقّت أو جلّت.