التجديد الحضاري

بقلم
د. محمد المجذوب
في تجديد مفهوم السنة
 إنّ دراسة السّنن في التّصوّر القرآني، يعني دراسة مآل وعاقبة الفعل الإنساني عبر الزّمان كنشاط يعبّر عن مشروع الاستخلاف البشري، فهو يعبّر عن تسخير الإنسان للكون ولأخيه الإنسان، وقبل ذلك يعبّر عن عبادة الإنسان للّه الواحد الأحد، ومن هنا نفهم معنى الحرّية والمسؤوليّة الأخلاقيّة لدى الإنسان، فهو يحقّق كامل حرّيته وإرادته إذا ما تماهي مع الهداية الإلهيّة المنزلة في الرّسالة، لأنّه عندئذٍ يستطيع التّحرّر من قوانين الجسد والاجتماع والكون، ويسمو عليها بهداية إلهيّة تستمد جذورها من كلمات اللّه، عندئذٍ يمتلك القدرة على الاطلاع الكامل على سنن الحياة والكون، ويستطيع من ثمّ توظيفها لصالح مثال الصّلاح واستخلاف اللّه في أرضه. 
 معنى ذلك أنّ فقه السّنن - وبالتّالي تحديد معنى السّنّة في معناه القرآنيّ النّهائي- هو ذلك الفقه الذي يجمع بين عالمي الغيب والشّهادة في آن واحد، بواسطة منهج راشد، دون أن يفصل بينهما، فيجعل لكلّ مجال ممارسة خاصّة به، لا يمكنها أن تكون برهاناً على الممارسة الأخرى. ولا يكون ذلك الفقه الاجتماعي التّوحيدي، إلاّ بالانطلاق من دلالة الوحي، ومن فقه سنّة الأوّلين التي وجه الوحي إلى دراستها واستخلاص العبرة منها، فالوحي هو العلم الذي يبحث عن ماهية الأشياء كما هي خارج الذّهن، كما يبحث عن كيفيّة حدوث الأفعال الأخلاقيّة والظّواهر الاجتماعيّة. فوظيفته معرفة الجوهر وحقيقة الوجود ككلّ وكأجزاء، كما يبحث في العلاقات والرّوابط بين الظّواهر الاجتماعيّة والوقائع الاجتماعيّة بعضها إلى بعض، معنى هذا إنّ حدود الفقه تتمثّل في معرفة كيفيّة حدوث الظّواهر الاجتماعيّة، أي تتمثّل في التّفسير الذي يرشد إلى الوصف في معرفة العلاقات الاجتماعيّة من معطيات التّطبيق، لينتهي أخيراً إلى سنن وقوانين خلقيّة تعرف بها الظّواهر الاجتماعيّة، وعن طريقها يتمّ التّنبؤ بمستقبلها ومعرفة مسارات الفقه، بمعنى معرفة السّنن التي تسخر بها الظّواهر الاجتماعيّة، ومعرفة طبيعة هذه السّنن والقدرة المطلقة الكامنة وراءها.
وفي هذا السّياق من التّناول القرآني لمعنى السّنّة، يطرح الخطاب القرآني كون أنّ سنن الرّسول والمرسلين هي من هذه الشّاكلة لسنن التّاريخ أعنى شاكلة سنن الصّلاح والهداية والإيمان في الكون، وهناك آية مفتاحيّة في جملة الآيات القرآنيّة، تعين الصّلة بين السّنة والنّبيّ وأمر اللّه، يقول تعالى: ﴿ما كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَّقْدُورًا * الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا﴾(الأحزاب:38-39). أي أنّها تربط بين السّنة النّبويّة في معناها الحقيقي وبين الاستجابة لفرائض اللّه تعالى من قبل الرّسول ﷺ في الرّسالة بقرينة «... رِسَالَاتِ اللَّهِ...»، وهي الاستجابة التي متى ما وجدت فهي عينها « السّنة» النّبويّة بألف ولام العهد، وهي في ذلك سنّة اللّه في خلقه، فالآية تضع الأوامر الإلهيّة على الرّسول ﷺ على مستوى بيان سنّة اللّه السّابقة في الأوّلين والسّابقين، بوصفها سنناً عامّة في الاجتماع البشري، تأخذ صفة القانون الاجتماعي الذي هو قانون عام على النّاس حتّى على الرّسل الكرام أنفسهم. 
وعلى هذا فإنّنا إذا أردنا إعطاء تعريف جامع لمعنى السّنة في الفقه الإسلامي، فإنّه يظهر في كونها «مجموعة الطّرق والقوانين الأخلاقيّة التي تسير وفقها حركة الوجود الإنساني وتتحرّك بمقتضاها الحياة، استجابة لهدى قرآني»، وبهذا تكون العلاقة بين القرآن والسّنة - كأصول للفقه الإسلامي- ليست علاقة تراتبيّة راسية، يأتي فيها القرآن في المرتبة الأولى والسّنة في المرتبة الثّانية، ولكنّها علاقة عضويّة، لا ينفصل أحدهما عن الآخر، كالعلاقة بين المعنى وأداة المعنى، فالصّلاة معنى وهيئة أدائها هي السّنة، أو كالعلاقة بين الحركة وأذرع نقل الحركة، أو كالعلاقة بين اليدين ووظيفة اليدين في الجسد، إذ لا غنى لأحدهما عن الآخر، أو هي كعلاقة القانون بالدّستور، تؤسّس على القرآن ولا تخرج عليه، إلاّ بقانون مؤقّت، يصدّقه القرآن الكريم بعد ذلك أو ينفيه. 
 والمعنى أنّ السّنة هي خروج بالسّياق القرآني من حيز الإمكان الايماني إلى حيز الفعل التّاريخي، أي من حيز النّص المكتوب إلى حيز الواقع المفعول، وهكذا فإنّ علاقة السّنة بالقرآن، كعلاقة المعنى بأداته، لأنّ سياقات الهداية في الحياة البشريّة تأتي مرتبة على درجات من جهة قوّتها العلميّة، ففي أعلاها يأتي القرآن وسنّته، التي سنّها الرّسول ﷺ، ثم تأتي سنن المجتمعات والجماعات، التي استجابت بها هي الأخرى إلى هدي قرآني ما، أو قد تأتي من جهة سنّة العقول وخبرتها إذا خلا الموضوع من هدي قرآني ما، ولا يجوز فيها للسّنة الصّادرة عن جهة دنيا أن تتعارض مع سنّة صادرة عن جهة عليا، دعك من أن تنسخها.