في العمق

بقلم
أ.د.عماد الدين خليل
مدخل إلى بناء الكون في المنظور القرآني (الحلقة السادسة)
 انتهى عصر الوثنيّة العلميّة
لقد انتهى العصر الذي اتخذ العلم فيه إلهاً، عصر الوثنيّة العلميّة التي مسّخت الإنسان وأذلّته، وحوّلته إلى مجرّد تابع ذليل للقوانين والنّظريّات، بل إلى مجرّد ناتج عرضي تافه مشتق من آلات رياضيّة هائلة لا عقل لها ولا غاية. إنّه حتّى العلماء المتعصّبين للنّظرة القديمة، حتّى هؤلاء لم يعودوا يرتاحون لهذا التّصوّر الشّنيع: الإنسان وهو يتحوّل إلى ناتج عرضي في كون لا هدف له ولا غاية ... لقد انتهى عصر الإيمان بتفاهة الإنسان، وأخذ العلم –وقد جاوز طفولته وخطا نحو الرّشد- يقود البشريّة نحو الحريّة، متجاوزاً بها عصر العبوديّة الرّهيب، وأنّ هذا المصير الأكثر إضاءةً لاقى ترحيباً وتهليلاً من بعض رجال العلم أنفسهم!!
لقد جاءت أوّل إشارة إلى أنّ مفاهيم «نيوتن» لم تعد تفي بالغرض عندما حاول بعض العلماء أن يصوغوا نظريّة ميكانيكيّة للضّوء، وأدّت المحاولة إلى ابتداع الأثير، وهو عمل يعدّ من أقلّ ما انتجته العبقريّة العلميّة قبولاً. واستمرّت المحاولة أجيالاً طويلة، وظهرت خوارق من العبقريّة الرّياضيّة في محاولة تفسير خواصّ الضّوء ضمن مفاهيم نيوتن، وأصبحت الصّعوبات مدعاةً لليأس أكثر من أي وقتٍ مضى. وبدت مفاهيم نيوتن وكأنّها قد أصبحت قابلةً لأن تقهر بعد أن نشرت تفسيرات ماكسويل بأنّ الضّوء ظاهرة كهربائيّة مغناطيسيّة. وكأنّ الأثير قد أصبح في هذا الوقت معقّداً إلى درجة لم تعد تقبل التّصديق. لم يكن معقّداً فقط، بل كان بشعاً أيضاً، والبشاعة في النّظريّات العلميّة شيء لا يستطيع رجل علم أن يتسامح تجاهه(1).
إنّ كلّ ما نعرفه عن الكهرباء هي الطّريقة التي تؤثّر بها في أدواتنا القياسيّة. والوصف المضبوط لسلوك الكهرباء على هذه الشّاكلة يعطينا مواصفاتها الرّياضيّة. وهذا بحقّ هو كلّ ما نعرفه عنها... لقد أصبح الآن واضحاً أنّ معرفة طبيعة الأجسام التي نتحدث عنها لم تعد مطلباً لازماً بالنّسبة للفيزياء، بل تكفي معرفة بنيتها الرّياضيّة وهذا بحقّ هو كلّ معرفتنا حولها. وقد جرى التّحقّق الآن من أنّ معرفة البنى الرّياضيّة هي كلّ المعرفة العلميّة المتوافرة لدينا حتّى في ما يتعلّق بأجسام نيوتن المألوفة، وأنّ اقتناعنا بأنّنا نعرف هذه الأجسام بصورة قريبة ما هو إلاّ مجرد وهم (2) .
وذلك هو مصداق الأطروحة القرآنيّة في هذا الصّدد، أنّ العالم محكم التّركيب، لأنّه من صنع اللّه سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾(القمر:49). ﴿الَّذِي أَحْسنََ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَــهُ ...﴾(السجدة: 7). ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يَخْفَىَ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء﴾ (آل عمران:5). وأنّ المشكلة تكمن في القدرة البشريّة نفسها على فهم العالم ... وذلك هو التّحدّي الذي يدفع الإنسان إلى مزيد من الجهد للكشف عن سنن العالم ونواميسه ... باختصار أنّ الكون لم يكشف النّقاب عنه بعد، وسوف لن يكشف بشكل نهائي (وهذا ما توحي به اكتشافات العلماء آنفي الذّكر في حقل الفيزياء الذّريّة) لأنّه يوم يكتشف الكون والعالم أمام وعي الإنسان وإدراكه فلن يكون هناك جهد أو إبداع.
في أواخر عام (1981م) صدر في انكلترا كتاب يحمل عنواناً طريفاً هو (التطوّر من الفضاء) Evolution From Space قام بتأليفه عالم الفلك الشّهير «سير فريد هويل» وعاونه في ذلك أستاذ هندي يدرس في جامعة كارديف. ويعترف الأستاذان بصراحة في ذلك الكتاب بأنّهما ملحدان ولا ينتميان لأيّ دين أو عقيدة، وأنّهما يعالجان أمور الفضاء وحركات الكواكب بأسلوب علمي بحت ومن زاوية عقلانيّة لا تحفل ولا تتأثّر بأيّ موقف ديني. ويدور الكتاب حول مسألة احتمال وجود حياة على الكواكب الأخرى، ويتناول بالبحث الدّقيق الفكرة التي سادت في بعض الكتابات التّطوريّة عن ظهور الحياة تلقائيّاً من الأوحال نتيجة لبعض الظّروف والتّغيّرات البيئيّة. 
ومع أنّ هناك نظريّات معارضة لهذا الاتجاه وهي نظريّات أخرى ترى أن احتمال ظهور الحياة من هذه الأوحال أو الطّين الأولى لا تزيد عن 10:1 فإنّ «هويل» يرى بعد حسابات رياضيّة معقّدة وطويلة ودقيقة، أنّ هذا الاحتمال لا يزيد بحالٍ عن 40.000:10:1 أي واحد إلى عشرة أمامها أربعون ألف صفر. مما يعني أنّه لا تكاد توجد فرصة ظهور الحياة عن طريق التّوالد التلقائي من هذا الطّين، وبالتّالي فإنّ الحياة لا يمكن أن تكون نشأت عن طريق الصّدفة البحتة، وأنّه لابدّ من وجود عقل مدبّر يفكّر ويبدّل لهدف معين. وعلى الرّغم من اعتراف المؤلّفين الصّريح –كما قلنا- بإلحادهما فإنّهما لا يجدان أمامهما مفرّاً من أن يكتبا الفصل الأخير من الكتاب تحت عنوان (اللّه - GOD)ا(3) .
إنّ هذا الخطّ الجديد من العلماء وبموازاة حشد من فلاسفة العلم من مثل «وايتهيد» و«سوليفان» و«كاريل»، وغيرهم، أبحروا باتجاه معاكس لمعطيات القرون السّابقة، قرون الفصام النكد الذي أقامته الكنيسة والإلحاد بين العلم والدّين، ودعوا إلى احترام القيم الإنسانيّة لكونّها تمثّل عوامل تسريع في الكشف العلمي، والتحام أكثر حميميّة بخالق العالم والطّبيعة والكون.
شيء عن مفهوم التّسبيح
هذا الجدّ والحسم الذي يؤكّده كتاب اللّه في خلق الكون وغائيته، يقودنا بالضّرورة إلى قضية سجود الخلائق الكونيّة وتسبيحها الدّائم لخالقها العظيم ... إنّها واحدة من الحقائق المؤكّدة التي يشير إليها كتاب اللّه في أكثر من موضع دون أن يحدّد طبيعة هذا السّجود والتّسبيح أو يحدثنا عن كنهه: ﴿تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً﴾ (الإسراء:44). ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ﴾(النور:41). ﴿سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ (الحديد:1، الصف:1). ﴿وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدهِ وَالْمَلاَئِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ ...﴾ (الرعد:13). ﴿... يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ (الحشر:24). وأنظر (الجمعة:1، التغابن:1). ﴿... وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ﴾ (الأنبياء:79). ﴿إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ﴾ (ص:18). ﴿وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُم بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ﴾ (الرعد:15). ﴿أَوَ لَمْ يَرَوْاْ إِلَى مَا خَلَقَ اللّهُ مِن شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلاَلُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالْشَّمَآئِلِ سُجَّداً لِلّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ . وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِن دَآبَّةٍ وَالْمَلآئِكَةُ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ﴾ (النحل:49-48). ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ ...﴾ (الحج:18). ﴿وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ﴾ (الرحمن:6). 
وسواء كان هذا التّسبيح والسّجود والصّلاة إعلاناً عن الطّاعة والخضوع والانتظام في سلك المنظومة الكونيّة التي تدير آلتها الجبارة إرادة اللّه وحده، أم كان تنفيذاً لأمر اللّه سبحانه وتعالى، أم كان شكراً وعرفاناً وتقديراً للمنعم العظيم فالأمر سواء، إنّما هو في كلّ الأحوال ينطوي على بعد غيبي قد لا تقدر أجهزة الإنسان الحسّية والعقليّة إدراك أبعاده كأيّ أمر غيبي. ولكن يخطر على البال هنا ما كشفت الخبرات الفيزيائيّة والكوزمولوجيّة في مجال ما يشبه أن يكون وعياً حرّاً لحركة النّيوترونات والبروتونات وما يقابلها من حركة السّدم والمجرّات والنجوم.
حقاً إنّ إدراك الطّرائق التي تعمل بها الذّرات والأجسام لمما يصعب تحقيقه ... ومهما تقدّم العلم وخطا خطواته العملاقة، فسيظلّ جانب من أكثر جوانب التّركيب المادّي بعيداً عن التّكشّف النّهائي، مستعصياً على البوح بالسرّ المكنون.
ومهما يكن من أمر، فها هو العلم الحديث، في كشوفاته الأخيرة يؤكّد على الحقائق الأساسيّة التّالية: ليس بمقدور العلم التّوصّل إلى الحقائق النّهائيّة ... وليس بمقدوره أن ينفي الدّين أو أيّاً من الخبرات الإنسانيّة اللاّماديّة الأكبر حجماً منه ... إنّ ما يجهله ليس أقلّ حقيقة من معطيات العلم نفسه!
يؤكّد بالمقابل أهمّية التّجربة الدّينية وضرورتها للحياة البشريّة، ويكشف العلم عن البطانة الرّوحيّة للعالم فيلتقي ثانيةً مع الدّين.
إنّ الكشوف العلميّة الحديثة جاءت، كما يقول سوليفان: «لكي تقطع الطّريق على تلك المناقشات التي قامت لتثبت أن أيّاً من التّفسيرات (الدّينية) ما هي إلاّ مجرد وهم. لقد فعلت هذا عندما أظهرت أنّ العلم لا يعالج إلا ّناحية جزئيّة من الحقيقة، وأنّه لا يوجد أدنى سبب يبرّر الافتراض بأنّ كلّ ما يجهله العلم، أو يتجاهله، هو أقلّ حقيقة ممّا يعرفه»(4) .
ثمّة مسألة أخرى لا تقلّ خطورةً ... إنّ الكشوفات العلميّة الأخيرة حطّمت جدار المادّة، وأطلّت وهي تتوغّل في صميم الذّرّة على عالم الرّوح الكامن في بنية العالم وتركيب الأشياء ... إنّ العلم يلتقي ها هنا مع الدّين، مرّة أخرى، والحقائق كثيرة ويكفي أن نشير إلى بعضها: 
إنّ بعض العلماء يرون أنّ الموجات الالكترونيّة تشكّل بنية المادّة، كما هو معروف حتّى الآن، يمكن أن تكون موجات احتماليّة (Waves of Probability) من غير وجود مادّي مهما كان نوع هذا الوجود(5). ويتّفق علماء آخرون مثل أدينغتون وجينز على أنّ الطّبيعة النّهائيّة (Ultimate Natural) للكون هي طبيعة عقليّة(6) . وفي هذا يقول أدينغتون: « إنّ مادة العلم هي مادّة عقليّة، ويردف أنّ المادّة العقليّة ليست منتشرة عبر المكان والزّمان، بل إنّ المكان والزّمان جزء من المخطّط الدّوري الذي هو في نهاية المطاف مشتقّ من المادّة العقليّة نفسها». أمّا جينز فيذهب مسافة أبعد ويعتبر العالم كلّه طبيعة عقليّة كاملة، بل يجعله فكرة في ذهن اللّه (جلّ في علاه)(7) .
وأحدث النّظريّات التي طرحها عدد من كبار العلماء في مطلع السّبعينيّات، ونشرت خطوطها العريضة مجلة (العلم والحياة) الفرنسيّة(8) ، تقول بالمقابل أو المعادل اللاّمادي للتّراكيب المادّية في البنية السّديميّة والذّريّة على السّواء، وأنّه ما من الكترون أو بروتون أو نيوترون، أو جسم كوني كذلك، إلاّ وتتواجد قبالته معادلاته اللاّمادية.
ومعنى هذا أنّ أكثر النّظريات الفيزيائيّة حداثةً، تقدّم تأكيداً أشدّ على تهافت المادّية، وتشير بلسان العلم المختبري ومعادلاته الرّياضيّة المركبة إلى التّواجد الرّوحي في قلب الكون وفي صميم الذّرّة. وانّنا لنقف هنا خاشعين أمام واحدةً من جوانب الإعجاز القرآني، تلك المجموعة الكريمة من الآيات التي حدثتنا عن (تسبيح) الكون والذّرّات للخالق العظيم.
الهوامش
(1) سوليفان، حدود العلم، بيروت، الدار العلمية، 1972، ص 33-34.
(2) المرجع السابق، ص 36.
(3)  أبو زيد، أحمد. «هل مات دارون حقاً»، مجلة العربي الكويتية، (تموز، 1962م).
(4) سوليفان، حدود العلم، مرجع سابق، ص 48-49.
(5) المرجع السابق، ص 40-41.
(6) المرجع السابق، ص45. 
(7)  المرجع نفسه، ص 47-48.
(8) ينظر: بالتفصيل الترجمة العربية في مجلة (النور) المغربية، العدد الثامن، السنة الرابعة، (1977م).