وجهة نظر

بقلم
لسعد سليم
الحدود في القرآن الكريم
 كم من آية من القرآن الكريم تعوّدنا تكرارها مجزءة وناقصة ممّا يخرجها من سياقها، مثل قولـه: ﴿لَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾ بينما نصّ الآية كاملة هو: ﴿وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ، وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ (البقرة:195)، وقوله: ﴿انْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ﴾ بينما نصّ الآية كاملة هو ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ، فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا﴾ (النساء:2) فوقع استبعاد وجوب الإنفاق في سبيل اللّه في المثال الأوّل، بينما استبعد حقّ اليتامى ووجوب كفالتهم في المثال الثّاني. ويتكرر هذا الإشكال مع الآية 11 من سورة النّساء التي نكتفي عادة بقوله تعالى : ﴿لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْن﴾.
وفي خضمّ الجدل القائم منذ مدّة في تونس حول مسألة ميراث المرأة ومطالبة البعض بجعل نصيبها كنصيب الرّجل، ارتأينا الرّجوع إلى الآية الكريمة كاملة والآيات التي تليها لتبيّن الأمر. يقول تعالى: ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ (...) تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ، وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ﴾ (النساء:11-14) 
وعند البحث في الآيات الكريمات يتبين أنّها تتعلّق بحدّ من حدود اللّه، الأمر الذي لم يكن متوقّعا خاصّة وأنّ في موروثنا الدّيني، كلمة «الحدود» تعني لنا دوما «العقوبات».
وعند تتبّع كلمة «حدود» في كتاب اللّه، يتبيّن ذكرها 14 مرّة في 8 مواضع، 6 منها وردت كأحكام تتعلّق بحقوق الزّوجة/المطلّقة وأحكام الميراث، وفي حالتين كَوصف للأعراب والمؤمنين:
1 / منع الجماع والأكل والشّرب أثناء الصِّيَام: ﴿أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَىٰ نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ  وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾ (البقرة:187)
2/ منع أخذ ممتلكات المطلقة بعد الطّلاق: ﴿الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ  فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَن يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ  فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ (البقرة:229).
3/ لزوم زوج آخر للتراجع بعد الطّلاق الثّالث: ﴿ فَإِن طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىٰ تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرهُ فَإِن طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يَتَرَاجَعَا إِن ظَنَّا أَن يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ (البقرة:230).
4/أحكام الميراث: ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ (...) تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ، وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ﴾ (النساء:11-14)
5/ منع إخراج المطلقة من بيت الزّوجية:﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَٰلِكَ أَمْرًا﴾ (الطلاق:1). 
6/ كفارة مظاهرة الزّوجة: ﴿ وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا ذَٰلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (*) فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَٰلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ (المجادلة :3 و4).
7/ وصف للأعراب: ﴿ الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ (التوبة:97).
8/ وصف للمؤمنين: ﴿التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ (التوبة:112).
بناء على ذالك تكون حدود اللّه الثابتة بنصّ القرآن (6) ستّة كما تقدّم ذكره: منع الجماع أثناء العكوف فِي الْمَسَاجِدِ/منع أخذ ممتلكات الزّوجة بعد الطّلاق/لزوم زوج آخر للتراجع بعد الطّلاق الثّالث/تحديد الميراث/منع إخراج المطلقة من بيت الزّوجية /كفارة مظاهرة الزّوجة.
و مع تدبّر هذه الآيات الكريمة، نستنتج ما يلي:
* لم يرد في القرآن الكريم ذكر العقوبات على أنّها حدّ من حدود اللّه كما اشتهر عند جمهور الفقهاء؛
* الحدود الستّة المذكورة تتعلّق كلّها بالأسرة (حقوق الزوجة والمطلقة/ أحكام الميراث)؛
* كلّ آيات الحدود نزلت فى المدينة؛
* أمر اللّه سبحانه وتعالى المؤمنين بأن لا يقربوا/لا يعتدوا حدوده؛ 
* وصف اللّه من يتعدّ حدوده بالظَّالمين وبالْكَافِرِينَ؛
* الوعيد بالعذاب المُهِينٌ وبالخلود في النّار لمن يتعدّ هذه الحدود، كما ورد في سورة النّساء، بعد تحديد نسب المواريث: ﴿وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ﴾ (النساء:114).