الدولة في الحديث النبوي

بقلم
الهادي بريك
الحلقة الأولى - مقدمات أولية
 صنّف إبن خلدون الدّولة إلى أصناف ثلاثة : دولة العقل ودولة الشّرع ودولة الهوى. يمكن أن نصنّف اليوم بعض الدّول الغربية أنّها دولة عقل. إذ توفّر حدودا دنيا من العدل والكرامة والأمن، عدا أنّها لا تحفظ القيم الإنسانيّة التي تؤمّن التّحضّر. الدّولة العربيّة والإسلاميّة كلّها اليوم ـ إلاّ قليلا ـ هي دولة الهوى، إذ تستأثر فيها بالحكم عائلة واحدة ترث الشّعوب كما يرث وليّ الهالك متاعا، أو تحكمها ثكنة عسكرية، أو تتدثّر بنظام جمهوريّ أو برلمانيّ ليس له من أرصدة الجمهوريّة شيء. أمّا دولة الشّرع بمعناه الصّحيح فقد أطاحت بها النّائبات العربيّة نفسها، ولم تعمّر في الأرض بعد موت صاحبها عليه السّلام إلاّ عقودا ثلاثة يتيمة. 
ينشأ الإجتماع البشريّ تحت سقف سياسيّ بسبب الغريزة المدنيّة في الإنسان. إذ هو مدنيّ بطبعه. ولكن تصرم حبال ذلك السّقف بسبب غريزة حبّ التّقدير والإعتبار، سيما عندما تتورّم أو تغذّيها عوامل موروثة أو أوهام وخرافات. ومن هنا ينشأ الصّراع الدّامي حول السّلطة التي تؤمّن أسباب القوّة من مثل الثّروة والطّاعة. 
ولم تعرف البشريّة قبل الإسلام ـ بسبب أنّ الدّين السّالف لم يأت في الأعمّ الأغلب بتشريعات سياسيّة ـ نظاما يشيّد العلاقات على أسّ المساواة المطلقة بين النّاس كلّهم أجمعين، لا فرق بينهم لا لونا ولا لسانا ولا عنصرا، ولا حتّى دينا وإعتقادا. ولم يكن ذلك التّشييد بسلطان القوّة، بل بسلطان القيم الكفيلة بأنسنة الإنسان في محيطه الإجتماعيّ الواسع. والحقّ أنّ نجاح الإسلام في تهذيب الأنفة العربيّة المتورّمة جدّا ـ والمتأبّية عن الإنقياد لسلطان القيم والإنتظام تحت سقف الإجتماع ـ نجاح غير مسبوق. لم يكن العربيّ عدا مسرفا في الثّار البهيميّ. 
لا أرى معجزة للإسلام أعظم من معجزة نجاحه غير المسبوق في إحلال الكلمة معالجة للخلافات والنّزاعات محلّ السّيف البتّار الذي كان يحصد به العربيّ ـ ولا يبالي ـ من الرّقاب البريئة الذي يحصد. فلمّا وقع الإنقلاب الأمويّ ضدّ هذا المنوال الأعلى من التّحضّر السّياسيّ وفي وقت مبكّر جدّا خسرت البشريّة جمعاء قاطبة نظاما كفيلا بزرع أسباب العدل والكرامة والتّحرّر والتّعاون والأمن. والعجب الذي لم يهرق فيه ما يكفي من المداد هو لماذا عجزت الأمّة على إمتداد خمسة عشر قرنا كاملة عن إستعادة ذلك النّظام الرّاشديّ القائم على البيعة التّعاقديّة المتراضية بين الأمّة والدّولة؟ 
ربّما تكون المعالجة منذ البدء خاطئة، إذ ضحّت بحقّ النّاس في إختيار الدّولة التي تسوس أمرهم وقدّمت وحدة صفّ الأمّة. هل إستعدنا الذي ضحّينا به؟ أبدا، بل لا يزداد الفتق إلاّ خرقا. كما يمكن أن نرصد هنا ـ وبإقتضاب شديد ـ مختلف الإتّجاهات الفكرية معالجة لمعادلة الدّولة وعلاقتها بالإنسان. خارج الدّائرة الإسلاميّة يكاد ينعقد الإجماع على أنّ العقل وحده كفيل بتنظيم تلك العلاقة. ولا حاجة له إلى وحي سماويّ. وهي دولة العقل التي خفّفت من وطآت وأد الإنسان فحسب. ولكنّ القول بأنّها تتقدّم على درب توفير الأمن للإنسان قول مردود. بل إنّ دولة العقل فشلت فشلا ذريعا في التّأمين النّفسيّ والرّوحيّ الذي بدونه لا يتحقّق أمن في الأطراف المحيطة. أمّا داخل الدّائرة الإسلاميّة فقد تراوحت المعالجات كذلك ومنذ القرون الأولى بين منحاز إلى المنزع الجبريّ إبتغاء إكساء الحكم الإنقلابيّ شرعيّة مزيّفة. حتّى قيل أنّ الحاكم هو ظلّ اللّه في أرضه إلتقاء مع الأنظمة الفارسيّة والرّومانيّة القديمة. وبين مصرّ على أن تكون الدّولة خادما للمجتمع قابلة للمساءلة والعزل، وأنّ الأمّة هي الأصل. ونشأت في إثر ذلك منازعات وإحترابات وسالت دماء. ولا خلاف عند علماء التّاريخ أنّ الدّماء التي سالت ـ حتّى في التّجربة الإسلامية ذاتها ـ نزاعا حول السّلطة أكثر من أيّ دماء أخرى سالت لأيّ سبب آخر. 
لا مناص من الإستخلاص أنّ السّلطة والدّولة والحكم ليست أمورا ثانويّة في التّاريخ البشريّ، وأنّ دعوى الإبتعاد عن هذا دعوى ساذجة أو خبيثة. وظلّ الصّراع محتدما بين من يحشر الإسلام لخدمة الدّولة حتّى عندما تكون غير شرعيّة، وبين من يحشر الإسلام نفسه لبثّ الوعي الغائب بشرعية التّغيير والإصلاح وعدم القبول بسلطة غير شرعية. كما عرفت الشّرعية نفسها خلافا : هل هي الشّرعية الدّنيويّة التي تفقدها الدّولة عندما لا تحظى بتأييد النّاس أو أغلبهم على الأقلّ؟ أم أنّ الشّرعية تكتسب بما سمّاه بعضهم تطبيق الشّريعة الإسلاميّة فحسب؟ أمّ أنّ الشّرعية لا تكون إلاّ بهذا وذاك معا مجتمعين؟ وعند تخلّف أحدهما أيّهما يقدّم؟ وفي الأثناء ظهرت نظريّة شرعيّة المتغلّب أو شرعية السّيف أو العصبيّة. كما نظّر لذلك أحد أكبر فقهاء الإسلام أي الإمام الجوينيّ في كتابه (الغياثيّ). ولم يخل عصرنا من أصداء واسعة لذلك سيما من بعد إندكاك آخر سقف سياسيّ عثمانيّ كان يؤمّن حدودا دنيا من السّيادة وهو في أضعف الإيمان رمز لوحدة إسلامية ذات صفّ واحد وقيادة واحدة ورسالة واحدة. 
ونحن نشهد في هذا العام الميلاديّ 2023 الذّكرى الأولى لمائويّة ذلك الدّك الصّاعق، نعيش اليوم على وقع سلفيّة لئن إشتركت في بعض الجذور المؤسّسة، فإنّها إختلفت إلى حدّ التّناقض الكلّيّ معالجة لقضية الدّولة : فمن أسامة بن لادن الذي يعلن الحرب المفتوحة دون هوادة ضدّ الدّولة العربيّة باعتبارها دولة كافرة لا تطبّق الشّريعة، إلى التّيار المدخليّ والجاميّ الذي يوفّر الغطاء الشّرعيّ الكامل لتلك الدّولة نفسها أنّها شرعيّة وأنّ طاعتها طاعة للّه ولرسوله ﷺ، وأنّ الخارج عليها ـ بل من ينصحها علنا ـ حقّه القتل حدّا أو كفرا. وبين هذا وذاك ظهرت حركات إصلاحيّة سياسيّة تتبنّى الدّيمقراطيّة والإصلاح السّلميّ المتدرّج، وتتجنّب التوحّل في التّصنيفات العقديّة والدّينيّة لدولة النّظام العربيّ. 
كما نعيش على وقع أطياف واسعة من المسلمين الذين يعتقدون أنّ الإبتعاد عن معالجة الدّولة والسّلطة والسّياسة والشّأن العامّ كلّه تقريبا هو الأسلم للدّين والمعتقد وأدنى إلى اللّه سبحانه. بعض هؤلاء تحت السّقف الإيديولوجيّ الصّوفيّ، وأكثرهم من عامّة النّاس الذين لا وعي لهم، بل هم تبّع لهذا أو ذاك. وفي منطقة رمادية لا هي بالكلّية خارج الدّائرة الإسلاميّة ولا هي موالية لها نجد الوجود الشّيعيّ الذي يرى أنّ الدّولة قضيّة عقديّة، لا عمليّة، ليكون الإمام (الذي تحوّل تحت إكراهات واقعيّة إلى وليّ الفقيه) معيّنا من السّماء. هو إلتقاء بوجه ما مع الميراث الفارسيّ القديم. 
وإلى جانب تلك الفسيفساء الغنية نظرا إلى الدّولة والسّلطة والموقف منها نشأ ما لم ينشأ في تاريخنا كلّه، وهو الوجود العلمانيّ اللّبراليّ المتأثّر قليلا أو كثيرا بالفلسفة الغربيّة التي ترى أنّ الشّأن العامّ كلّه مفوّت فيه إلى العقل يعالجه، ولا شأن لدين به أو وحي. المشكلة الجديدة هي أنّ ذلك الوجود ثقيل في دوائر النّخبة والتّأثير، وأنّ جزءًا مهمّا منه يقود الدّولة أو يوجّهها بوجه ما بما جعل الإصطدام بينه وبين مكوّنات مجتمعيّة أخرى لا مفرّ منه. وليس لنا إجتهاد عميق يستأنس به معالجة لذلك النّاشئ الجديد. النّاشئ الجديد وافد ثقافيّ من دائرة فلسفيّة تخاصم الإسلام عقيدة وشريعة وقيما كلّ الخصومة،ولكنّه يقود الدّولة. هذه المفارقة لم يعرفها تاريخنا الطّويل.
مشكلات أخرى مازالت بعيدة عن المعالجة الرّصينة منها : التّغيير بالقوّة المادّية. ومنها دور المرأة ووظيفتها في الدّولة والسّلطة. هل تظلّ مستثناة من تقلّد الإمامة العظمى بالتّعبير القديم كما هو الإجماع أو شبه الإجماع حتّى والإمامة العظمى لم يعد لها وجود بعد إتّفاقيات سايكس وبيكو؟ ومن تلك المشكلات كذلك : أيّ دور للمواطن غير المسلم في بلاد مسلمة؟ هل يمكن أن يشارك في الدّولة أو يقودها، أم أنّ المعيار الدّينيّ هنا محدّد مشروط؟ ونجد أنفسنا مرّة أخرى مع قيمة الجزية التّاريخيّة ومع إصطدامات فكريّة بين تيّارات إسلاميّة : بعضها نموذجه التّاريخ ودولة التّاريخ الإسلاميّ، وبعضها نموذجه الخلافة الرّاشدة ويستورد كلّ ما هو دنيويّ صالح لمعالجة الشّان العامّ والدّولة. 
كلّ ذلك منشؤه ضمور فقهنا العامّ بصفة عامّة، وخاصّة جانبه السّياسيّ والمال العام والعلاقات الخارجيّة والجوانب التّنظيميّة والدّستوريّة والإداريّة. والمنشأ الأوّل هو الإنقلاب الأمويّ القديم الغائر في التّاريخ وندوبه لن تزال محفورة في معالم الوجوه لا تعرف إندمالا. المنشأ هو عدم إنتاج معادلة فكريّة جامعة بصرامة ومرونة في الآن ذاته بين أسّين لا يعرف الإسلام بدونهما معا نظاما سياسيّا : صفّ واحد مرصوص حتّى وهو متنوّع تؤمّنه دولة شرعيّة مزكّاة شعبيّا بقانون الأغلبية وحقّ النّاس في الإختلاف والتّنوّع والتّعدّد على معنى تأمين حقوقهم في إختيار الدّولة بحسبانهم هم الأصل المؤسّس للدّولة، وليست الدّولة إلاّ سائسا لشؤونهم بأجر. المنشأ هو تغليب وحدة الصّف وتأخير حرّيات النّاس. مشكلة أخرى مجمّدة وتثير الذي تثير وهي الجهاد. هل تجاهد الدّولة اليوم، ومن تجاهد، ولم تجاهد؟ أم طوي زمان الجهاد قيمة، أم تبدّلت وسائله فحسب. وهل أنّ ثورة المواصلات طوت تلك الوسائل القديمة؟ 
نحن محكومون منذ 1945 بمعاهدة يالطا وبإستحقاقات الحرب العالميّة الثّانية، وملزمون بذلك من أعلى منبر أمميّ وبأحلاف عسكريّة تحمي كلّ ذلك. ومن يشذّ يؤدّب. أيّ موقف لنا؟ أيّ وصل لنا أو فصل مع منظومات حقوق الإنسان سيّما التي تتعارض مع الشّريعة؟ العولمة داست كلّ شيء. ولا حديث عن الإستقلال الثّقافيّ والخصوصيّات الدّينيّة والعرقيّة. لماذا إقتتل الصّحابة المبشّرون بالجنّة في (الجمل) وفي (صفّين)؟ 
الخلاصة : جبال من القضايا الملحّة الحارقة تطرق أبوابنا وتهدّد قيمنا. ولكن أغمدت الأقلام وجفّ المداد إلاّ من إجتهادات فرديّة قليلة لا تكاد تسمن من جوع ولا تغني. كان يمكن مواصلة الجهد الكبير الذي بذله الإمام بن عاشور في سفره العظيم (مقاصد الشّريعة) حول مقامات التّشريع والمشرّع حتّى نميّز بين مختلف المقامات التي سلكها ﷺ. ولكن لسان حالنا يقول بصمت قاتل : «باب الإجتهاد مغلق». نحاول في هذه السّلسلة الجديدة (الدّولة في الحديث النّبويّ) ملامسة ما تيسّر منها، مجرّد ملامسة غرضها الدّعوة الحارّة إلى إعلان فتح باب الإجتهاد على مصراعيه لعلّنا نوفّر لأنفسنا شبرا فوق الأرض وتحت السّماء يليق بنا.