في العمق

بقلم
أ.د.عماد الدين خليل
مدخل إلى بناء الكون في المنظور القرآني (الحلقة الثالثة)
 توسّع الكون
بعد (الانفجار العظيم) وما أعقبه من متغيرات في بناء الكون، تجيء مرحلة التوسّع: ﴿وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ﴾ (الذاريات:47) هذا التّوسع الذي جاءت الكشوف الحديثة لاينشتاين وبور وهايزنبرغ وغيرهم لكي تؤكّده فيما أسماه اينشتاين بالمنحنيات الكونيّة.
وقد أثبت العلماء أنّ الكون قد انطلق من نقطة واحدة وهذه النّقطة تستمرّ بالتّوسّع ... فإمّا أنّ الكون يتوسّع من داخله حتّى يبلغ حجماً معيّناً، يبدأ بعدها بالانكماش، وهذا ما يسمّى (بالكون المغلق) وإمّا أن يستمر بالتّوسّع بشكل متسارع وهذا ما يسمّى بـ (الكون المحدّب)(1) ... وفي كلّ الأحوال فإنّ الكون أخذ طريقه إلى الاتساع منذ بدء الخلق ... وسواء جاء العلم الحديث لكي يؤكّد الحقائق القرآنيّة أو يبحر باتجاه نقائضها، فهو أمرٌ لا يهمّنا، ذلك أنّ المعطيات القرآنيّة بما أنّها صادرة عن اللّه سبحانه وتعالى، خالق السّماوات والأرض، تحمل مصداقيّتها المطلقة، وهذا يكفي ... إنّما يجيء التّوافق بين ما يقوله كتاب اللّه وما يكتشفه العلم الحديث في الرّياضيات والفيزياء والكوزمولوجي، مصداقاً للآيتين الكريمتين: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ (فصلت:53). ﴿بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ ...﴾ (يونس:39). لعل ذلك يطمئن من إصرار بعض الباحثين الإسلاميّين على مقولة رفض الاعجاز العلمي للقرآن والاكتفاء بالإعجاز البياني، رغم أنّ أولهما هو خير وسيلة يمكن اعتمادها لمناقشة الملاحدة والمشكّكين ودعوتهم إلى الاقتناع بمصداقيّة هذا الدّين.
«وتتّفق نظريّة توسّع الكون -تماماً- مع الفكر الحديث المتعلّق بطبيعة الفضاء والزّمن والحركة. وقد حظي البرت اينشتاين بمكانة رفيعة في المجتمع العلمي حين حقّق ثورة في مفهومنا لهذه القضايا عبر نظريّته في النّسبيّة، وقد استغرق اعوجاج الفضاء والزّمن لاينشتاين ستّين عاماً ليثير مخيّلة العامّة، مع أنّ أفكاره عن انحناء الزّمكان قد حظيت بقبول الفيزياء منذ زمن كتفسير للجّاذبيّة»(2).
اللّم الكوني
ثمّ تجيء الحلقة الثّالثة للخلق الكوني، عبر مديات زمنيّة لا يعلمها إلاّ اللّه، وهي بمثابة عمليّة اللّم للكتلة الكونيّة تمهيداً ليوم الحساب: ﴿يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاء كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ﴾ (الأنبياء:104). ﴿... وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ ...﴾ (الزمر:67). هذه النّهاية التي تجيء وفق أجلها المرسوم في علم اللّه: ﴿مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنذِرُوا مُعْرِضُونَ﴾ (الأحقاف:3).
وهكذا يحسم كتاب اللّه الخلق الكوني بدءًا وصيرورة وانتهاء، بالإيجاز المطلوب، حيث تجيء معطيات العلم في أقصى وتائره مقاربة بدرجة أو أخرى، لما يقوله القرآن الكريم. أمّا التّخمينات والظّنون التي يمارسها هذا العلم فتلك مسألة أخرى، حيث يتهافت الكثير من مقولات العقل الوضعي بعلمائه وفلاسفته وأدبائه ... ومن بين تلك المقولات مبدأ (المادّية الدّيالكتيكيّة) الذي صمّمه ماركس وانغلز لتفسير الخلق الكوني بصيغة متواليّات كمّية تتحوّل بقدرة قادر مجهول إلى متغيّرات نوعيّة، وتقود الوجود نحو الأحسن والأكثر اكتمالاً، وهي مسألة تبلغ من الفجاجة أن يصفها سوليفان في (حدود العلم) بنظريّة (السّخف الطّائش)، ويعلّق عليها المفكر الانكليزي (الكساندر غري) بقوله أنّنا إذا جئنا بجذع شجرة في إحدى الغابات وطرحناه أرضاً ورحنا ننتظر عشرات السّنين، بل مئاتها وألوفها، لكي تتحوّل ذاتياً إلى منضدة صالحة للكتابة ذات سطح أملس وقوائم ومجرات ... الخ فإنّ ذلك لن يتحقّق ولو امتدّ بنا الانتظار لملايين السّنين ... 
هنا في رحاب كلمات اللّه نلتقي بما هو أكثر مطابقة لحقائق الأشياء ... للعلم في منظوره المحكم الدّقيق. فعبر آيات معدودة فحسب، تحسم المسألة، ذلك أنّها سلّمت المفتاح الحقيقي لصاحبه (جلّ جلاله)، ذي القدرة المطلقة على الخلق والأمر، فتجاوزت بذلك كلّ المطبّات التي وقع فيها، ليس فلاسفة وبعض علماء العصر الحديث، وإنّما جملة من الفلاسفة أجهدوا عقولهم، منذ عهد أفلاطون وأرسطو وسقراط إلى عصر ماركس وانغلز وسارتر، مروراً بالفلاسفة المسلمين المتأثّرين بالفكر اليوناني من أمثال الكندي والفارابي وابن ماجة وابن رشد وغيرهم، في حديثهم عن واجب الوجود ومتناهي الأول ... و ... و ... فيما أدانهم بجهدهم الضّائع هذا عقل إسلامي متوقّد كابن خلدون في مقدّمته، ووصل إلى القول بعبث جهودهم الوضعيّة تلك بسبب من عدم استهدائها بالمعطيات الدّينيّة المنزّلة بالوحي حول خلق الكون والعالم، بدايةً وصيرورةً وانتهاءً! وصدق اللّه العظيم القائل في محكم كتابه: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ (الروم:27). ﴿مَا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً﴾ (الكهف:51).
زمن بناء الكون
لكنّ القرآن الكريم وهو يحدّثنا عن الخلق الكوني لا يقف عند هذا الحدّ، بل يمضي لتقديم شبكة من المعطيات الضّروريّة التي تكمّل ما بدأه بثلاثيته تلك.
يحددّ كتاب اللّه المدى الزّمني الذي استغرقه بناء الكون ... ليس بالمعايير الزّمنيّة الأرضيّة المحدودة بالأيّام والأشهر والسّنين، والتي صمّمت لتسيير شؤوننا وضبط مصالحنا والتي قال عنها: ﴿إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ ...﴾ (التوبة:36). ولكن بالمعايير الكونيّة الممتدّة إلى آماد زمنيّة لا يعلمها إلاّ اللّه، والتي كشفت البحوث الحديثة جانباً منها يمكن أن نجده لدى نسبيّة اينشتاين ورفاقه من علماء الكوزمولوجي وفيزياء الكون، حيث يصير اليوم الواحد في كتاب اللّه كألف سنة ممّا نعد، أو كخمسين ألف سنة: ﴿يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ﴾ (السجدة:5). ﴿تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ﴾(المعارج:4)، أو ثمانية عشر مليوناً ومائتين وخمسين ألف يوماً ممّا نعد!!
وعلى ذلك، فإنّ اليومين اللّذين تمّ فيهما خلق الكون وتكوينه على الصّورة التي استقرّ عليها، إنّما يأخذان مديات زمنيّة متطاولة تحسب بالسّنين الضّوئيّة التي كشف العلم الحديث –أخيراً- عن جانب منها: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ.فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاء أَمْرَهَا ...﴾ (فصلت:11-12). ونجد أنفسنا في هاتين الآيتين إزاء إشارة مدهشة عن الوضعيّة التي كانت عليها السّماء قبل تصميم الكون وهي (الدّخان) التي حار علماء الكوزمولوجي في إيجاد تسمية لهذا الفضاء الممتد الواسع الذي سبق خلق الكون ما بين الأثير ... الفراغ ... المادّة العمياء ... ثمّ استقروا أخيراً على تعريفها بالدّخان!
وعبر آياتٍ عديدة أخرى يشير كتاب اللّه إلى هذا المدى الزّمني المتطاول الذي استغرقه خلق الكون، وهي تجيء مقترنةً بالمدى الزّمني ذي الأيام الأربعة التي استغرقها خلق العالم وتهيئته لخلافة الإنسان: ﴿إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ ...﴾ (يونس:3). ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ ...﴾ (السجدة:4). ﴿وَهُوَ الَّذِي خَلَق السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ...﴾(هود:7). ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ ﴾ (ق:38). ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ (الحديد:4). ها هنا حيث نجد الحضور الإلهي الدّائم في خلقه، بدءًا وصيرورةً، يلغي نظريّة (السّاعة) التي قال بها بعض العلماء الغربيين الذين يتبعون الظن ولا ترسو معطياتهم على بر الأمان العلمي الدقيق، تلك التي أوضحوا فيها أن الله سبحانه وتعالى قد أوجد الكون وفق أدقّ نظام، ثمّ تركه (وحاشاه) يسيّر نفسه بما وضعه فيه من قوانين ونظم، وسحب يده من الإشراف عليه وتسييره ... ها هنا وعبر آياتٍ عديدة أخرى يؤكّد كتاب اللّه أنّه (جلّ في علاه): ﴿... لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ ...﴾(الأعراف:54). 
وبهذا يحسم كلّ مقولة خاطئة عن طبيعة العلاقة الدّائمة بين الخالق والمخلوق: ﴿إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ ... أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ (الأعراف:54).
التّركيب المحكم للكون
بعدها يمضي القرآن الكريم لتقديم شبكة من المعطيات عن بناء الكون ومواصفاته وتركيبه المعجز، فيشير بشكل غير مباشر إلى ظاهرة (الجاذبيّة) التي تمسك السّماوات بسدمها ومجرّاتها وشموسها وأقمارها وكواكبها وكتلها: ﴿اللّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ..﴾(الرعد:2). ﴿خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ...﴾(لقمان:10). وبهذا حفظ السّماء من أيّ خلل قد يقود إلى تهاوي البناء المحكم وحدوث ما لا تحمد عقباه من الويل الذي تعجز عن تصويره كلّ لغات العالم: ﴿وَجَعَلْنَا السَّمَاء سَقْفاً مَّحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ﴾ (الأنبياء:32). ﴿...وَيُمْسِكُ السَّمَاء أَن تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ﴾(الحج:65). وهو يؤكّد في آيةٍ أخرى أنّ اللّه وحده هو الذي يمسك بالنّظام الكوني من التّفكّك والانهيار، وتسييره وفق صيغة غايةً في الإحكام، فمن غيره، (جلّ في علاه) من يقدر على هذا؟: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَن تَزُولَا وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدهِ...﴾ (فاطر:41). ﴿اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَاراً وَالسَّمَاء بِنَاء ...﴾(غافر:64). وهو (جلّ في علاه) يقسم بـ ﴿وَالسَّمَاء ذَاتِ الْحُبُكِ﴾ (الذاريات:7). أي بالصّنعة المحكمة لبناء الكون والتي لن يقدر عليها أحد سواه، وببنائها المعجز الذي لن تكون غير يد اللّه المطلقة بقادرةً عليه: ﴿وَالسَّمَاء وَمَا بَنَاهَا﴾ (الشمس:5).
وثمّة مجموعة من الآيات تشير جميعاً إلى سباعيّة البناء الكوني، ونحن لا نستطيع تحديداً أن نصل إلى دلالة الأرقام في كتاب اللّه، تلك التي كشفت عن أحد جوانب إعجازه بتوافقاتها المدهشة، ولكن يظلّ الأمر معلّقاً بغيب اللّه سبحانه وتعالى، لاسيّما وأنّ الأرقام فرشت بشكل متغاير في كتاب اللّه ما بين الواحد والسّبعة والتّسعة عشر والمائة والمائتين ... الخ حيث لا يمكن الوقوف على إحداها قائلين ها هو ذا الرّقم الذي ينطوي على مغزاه، فيما دفع العديد من الباحثين إلى تغليب الظّنون وهم يتعاملون مع الأرقام الواردة في كتاب اللّه، فيما يصعب التّسليم بمقولاتهم ... والمهمّ أنّ البنية الكونيّة تقوم على سباعية التركيب فيما تشير إليه عدد من الآيات: ﴿تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ ...﴾ ( الإسراء:44). ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ﴾ (المؤمنون:17). ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ . فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ...﴾ (فصلت:11-12). ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ ...﴾ (الطلاق:12). ﴿الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ ...﴾ (الملك:3). ﴿أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً﴾ (نوح:15). ﴿وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً﴾ (النبأ:12). ﴿... ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ (البقرة:29). ﴿قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ . سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ﴾ (المؤمنون:86-87).
وفي أماكن عديدة يتحدّث كتاب اللّه عن جانب آخر من بنية الكون ذلك هو البروج: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاء بُرُوجاً ...﴾ (الفرقان:61). ﴿وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاء بُرُوجاً وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ﴾ (الحجر:16).
الظّاهرة الجماليّة والغائيّة
وهذا يقودنا إلى الظّاهرة الجماليّة في خلق الكون والتي طالما أكّدت عليها آيات القرآن البيّنات:﴿وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاء بُرُوجاً وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ﴾(الحجر:16). ﴿إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ ﴾(الصافات:6). ﴿... وَزَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً ...﴾(فصلت:12). ﴿أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ﴾(ق:6). ﴿وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ..﴾ (الملك:5).
يقول ريتشارد فيمان: «للطّبيعة بساطتها، وبالتّالي جمالها الرّائع». ويقول روبرت براونغ: «إذا كان لديك ذلك الجمال الطّبيعي فقط، ولا شيء آخر، فقد حصلت على أفضل ما خلقه الإله»(3) . ويقول ويلر: «في قوانين الفيزياء، في البساطة الرّائعة، ما هي الآليّة الرّياضيّة النّهائيّة وراءها جميعاً؟ إنّها بالتّأكيد حيث يتجلّى الجمال المتضمّن أكثرها جمالاً»(4). ويتساءل اسحق نيوتن، مشيراً بذلك إلى وجود الخالق العظيم: «من أين نشأ هذا النّظام وهذا الجمال الذي نراه في الكون؟»(5).
وتأكيد القرآن الكريم على هذه اللّمسات الجماليّة في خلق الكون تجيء بمثابة تحدٍّ للملاحدة والمشكّكين من علماء وفلاسفة القرنين الثامن عشر والتّاسع عشر القائلين بمبدأ غياب الغائيّة من خلق الكون ... لو كان الأمر كذلك، فما الذي يدفع إلى تشكيله بهذا القدر من الجمال؟ أليس معنى ذلك وجود يد عليا تصنع هذا الكون وتسمه باللّمسات الجماليّة؟ الأمر الذي قاد العديد من العلماء وفلاسفة العلم المعاصرين إلى القول بغياب الصّدفة من عمليّة الخلق، وبوجود يد قديرة ومدبّرة وإرادة مسبقة وراء هذا كلّه؟
إنّ كريسي موريسون، الرّئيس السّابق لأكاديميّة العلم بنيويورك، ورئيس المعهد الأمريكي لمدينة نيويورك، وعضو المجلس التّنفيذي لمجلس البحوث القومي بالولايات المتّحدة، والزّميل بالمتحف الأمريكي للتّاريخ الطّبيعي، والعضو مدى الحياة للمعهد الملكي البريطاني، يقول في كتابه الشّهير: (Man Does not Stand alone) المترجم إلى العربيّة عنوان: (العلم يدعو للإيمان)(6): «إنّ الطّبيعة إذا لم تنلها يد التّشويه، تبدو كأنّها أعدّت لكي تستدر أسمى الشّعور في نفوسنا، وتلهمنا الإعجاب بصنعة الخالق الذي وهبنا نعمة الجمال، تلك التي لا يدركها بكلّ كمالها غير الإنسان. والجمال هو الذي يرفع الإنسان وحده إلى مرتبة يكون فيها أقرب إلى اللّه، ويبدو أنّ (الغائيّة) جوهريّة في جميع الأشياء، من القوانين التي تحكم الكون، إلى تركيبات الذّرّة التي تدعم حياتنا، وإذا لم يكن للتّطور من غرض سوى إعداد أساس مادّي لتلقّي الرّوح، فإنّ هذه غايةً مدهشة في حدّ ذاتها. وإذا كانت حقيقة الغاية مقبولة بالنّسبة لكلّ الأشياء، وإذا آمنا بأنّ الإنسان هو أهمّ مظهر لتلك الغاية، فإنّ الاعتقاد العلمي بأنّ جسم الإنسان وجهاز مخّه مادّيان، قد يكون سليما. فإنّ الذّرّات والهباءات في المخلوقات الحيّة تفعل أفعالاً مدهشةً، وتبني أجهزة عجيبة، ولكن هذه الأدوات عديمة النّفع ما لم يحركها العقل حركات ذات غرض، فهناك إذن خالق للكون لا يرقى إليه تفسير العلم، ولا يقدر أن ينسبه إلى المادّة»(7).
ويقول «لقد رأينا أنّ هناك (999.999.999) فرصة ضدّ واحد، ضدّ الاعتقاد بأنّ جميع الأمور تحدث مصادفةً. والعلم لا ينكر الحقائق كما بيّنّاها، وعلماء الحساب يقرّون أنّ هذه الأرقام صحيحة(8).
وثمّة جملة من الإشارات القرآنيّة إلى أنواع مخصوصة من النّجوم وهي تتحرّك في مسرح الكون الكبير بصمت، وتكنس ما في طريقها من أجرام، أو تلك التي تمارس الطّرق المستمر فتثقب ما يمرّ بها من نجوم ... ولقد جاءت الكشوف الكوزمولوجيّة التي اعتمدت أدقّ الأجهزة المسباريّة للرّؤية الكونيّة بعيدة المدى، لكي تؤكّد بما لا يدع مجالاً للشّكّ هذا الذي ذهبت إليه آيات القرآن الكريم، وذلك عام 2007م. ولنتدبّر معاً هذه الآيات: ﴿فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ . الْجَوَارِ الْكُنَّسِ﴾ (التكوير:15-16). ﴿وَالسَّمَاء وَالطَّارِقِ. وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ . النَّجْمُ الثَّاقِبُ﴾ (الطارق:1-3).
مسألة مكشوفة واضحةً لكلّ ذي عينين، وهي أقدر على جعل الملاحدة والكفار والشّكوكيّين يعيدون النّظر في رؤيتهم المادّية للكون وخلائقه، وأنّ التّفريط بها لهي نوع من الهدر الذي عرفت به أمّتنا عبر قرون انهيارها الحضاري ... فلماذا التّشبث به؟!
الهوامش
(1)  برواري، هافال عارف، مجلة الحوار، عدد 109، صيف 2019، ص 88.
(2) دافيز، الله والفيزياء الحديثة، مرجع سابق، ص26.
(3) المرجع السابق، ص 255.
(4) المرجع السابق، ص 259.
(5) المرجع السابق، ص 195.
(6) ترجمة محمود صالح الفلكي، الطبعة الرابعة، مكتبة النهضة، القاهرة-1962م، ص 136.
(7) المرجع السابق، ص 195-196.
(8) نفسه.