الأولى

بقلم
فيصل العش
إشعال شمعة أفضل من لعن الظلام
 (I)
عاشت المجتمعات العربيّة الإسلامية ولا زالت تعيش أزمة «حرّية» ذات جذور موغلة في التّاريخ وفي مختلف مجالات الحياة وخاصّة السّياسية منها. فالناظر في التاريخ يلاحظ أنّ الفترات التي بزغت فيها شمس الحرّية في هذه المجتمعات قصيرة لا تمثّل شيئا يذكر أمام فترات الاستبداد وقمع الحرّيات، ولأنّ الحرّية كقيمة إنسانيّة هي من فطرة الإنسان وهي منطلق حركة الإنسان ومقصدها، وهي إحدى الدّعائم الأساسيّة في بناء الحضارات وتقدّم الأمم واستقرارها، فإنّ مسألة «الحرّية» كانت حاضرة بقوّة في مجلّة «الإصلاح»، وهي بالنّسبة للقائمين على هذه الدوريّة قيمة ثابتة في فلسفة التّكوين وإحدى ركائز عمليّة الإصلاح المرجوّة، وهي في نفس الوقت قيمة مناضلة ومقاومة للانحراف الذي أصاب المجتمع. فهي بالتالي مطلب أساسيّ وسلاح لاغنى عنه. وبما أنّ ارتقاء الإنسان لاحدّ له يقف عنده، إذ هو سائر من المحدود إلى المطلق، فإنّ الأصل في الحرّية الإطلاق، لهذا أخذت مجلّة «الإصلاح» عهدا على نفسها أن لا تضع حدودا لحرّية الكتابة على أعمدتها، ففتحت صفحاتها لكلّ من أراد أن يعبّر عن رأيه مادام هذا الرّأي لا  يدعو إلى عنف أو تمييز على أساس الجنس أو العرق أو الدّين، ولا يتضمّن شتما أو قذفا للآخرين. يقول صاحب الفكرة: «ليعلم الجميع أنّني لا أبتغي من وراء إصدار هذه المجلة غير تمكين نفسي وأصدقائي من التّعبير بحرّية وأن نكتب ما نشاء بدون رقابة تذكر. نتبادل الأفكار والآراء، نتناقش بحرّية، نتدرب على “كتابة المواطنة” لنحقق جزءًا من مواطنتنا التي نعمل على بنائها خطوة خطوة...»(1). 
 (II)
أعلنت المجلّة منذ انطلاقتها على نواياها في المساهمة في التّغيير لكنّ الأسلوب الذي تبنته لم يكن راديكاليّا، لهذا جعلت من كلام اللّه على لسان النّبي شعيب عليه السّلام ﴿..إِنْ أُرِيدُ إِلَّا ٱلْإِصْلَاحَ مَا ٱسْتَطَعْتُ..﴾ (هود:88) شعارا، فالهدف الأسمى للمجلّة هو المساهمة في إصلاح الواقع المشوه نتيجة عقود الاستبداد والفساد. بطرح أفكار وازنة بعيدا عن الطوبويّة والتطرّف، وهذا ما عبرّ عنه باعث المجلّة منذ الوهلة الأولى: «نريد من خلالها المشاركة في بلورة فكرة وسطيّة تتفاعل مع محيطها وتقترح عليه الحلول لمختلف مشاكله الفكريّة والسّياسيّة والإجتماعيّة. نريدها حاضنة لأفكار ورؤى  تناضل من أجل بناء دولة فلسفتها خدمة المواطن، ومجتمع مبنيّ على التّعاون والتآزر والعيش المشترك في كنف الحريّة والمساواة. نريدها منبرا للتّحليل واقتراح البديل من دون تشنّج إيديولوجي ولا تعصّب لفئة دون أخرى. نحلم أن نواصل ما بدأه المصلحون، دون تقديس لهم  أواجترار لأفكارهم، منطلقين من الواقع الذي نعيش فيه، متمسّكين بهويتنا العربية الإسلاميّة ومنفتحين على العصر وعلى كلّ فكرة أو مشروع يؤدّي إلى الإصلاح»(2). إنّها ببساطة مجلّة همّها الأساسي المساهمة في الخروج «من نجاسة الاستبداد إلى طهارة حكم الشّعب» (3)
 (III)
سعى القائمون على المجلّة منذ البداية إلى إبراز هويّتها بوضوح في تناسق تامّ مع منتدى الفارابي للدّراسات والبدائل الذي تبنّى المجلّة والذّي يعرّف نفسه بأنّه منتدى «عروبيّ إسلامي» ويجعل من أهدافه «تعميق الوعي الجمعي بمعنى الإنتساب إلى العروبة والإسلام وايجاد التّعبيرات الثّقافيّة الكفيلة بتجسيد هذا الإنتساب»(4). يتجسّد هذا الانتساب من خلال «اعتبار الإسلام (وحيا وتجربة تاريخيّة وأفقا حضاريّا) مرجعيّة تتجذّر فيها البدائل»(5) التي نطمح أن ننجزها من أجل تغيير الواقع وتحقيق النّهضة.
فمجلّة «الإصلاح» «تصدر عن خلفيّة عروبيّة إسلاميّة تجديديّة وتنويريّة، ترى أنّ بناء الإنسان الحرّ القادر على الإبداع لا يكون بالتنكّر لهويّته والانسلاخ عنها وإنّما بالانطلاق منها والاستفادة من مخزونها الثّقافي والفكري الغنيّ بقيم الإسلام الخالدة وتعاليمه السّمحة باعتبارها القاعدة الأساسيّة للصّمود ومواجهة التّحديات»(6)
 لقد حدّدت الإصلاح» منذ عددها الأول خطّا تحريريّا بَوْصَلَتُه نشر الفكر الإصلاحي المستنير المفتخر بهويّته وانتمائه للوطن الصّغير والكبير، وفتحت الباب على مصراعيه للذين يسعون إلى بناء فكر جديد يساعد على الخروج من خندق التخلّف والتّبعيّة ويساهم في إصلاح جذري لثقافة المجتمع عبر مقاومة ثقافة الخوف والرّهبة والاستكانة وثقافة التّواكل والاستسلام وثقافة الكسل ونبذ العمل والابتكار. 
 (IV)
في زمن قلّ فيه العطاء بدون مقابل وبات فيه النّضال مشوّها ومحصورا في العمل السّياسي. تمسّكت مجلّة «الإصلاح» بمبدأ التطوّع، فالذين أثّثوا الأعداد 188 وعددهم الجملي 252 هم من المتطوعين الذين ساهموا بدون مقابل بمقال أو أكثر. وهم ليسوا من التونسيّين فقط، بل ينتمون إلى الوطن الكبير، فمنهم من المغرب والجزائر ومصر واليمن وسوريا والأردن ومنهم من جاليتنا العربية في الخارج. 
صحيح أنّ النّواة الأولى لأسرة التّحرير كانت تونسيّة، لهذا كانت في بداياتها قطريّة حيث اهتمّت في أعدادها الأولى بتونس منطلق ثورات الرّبيع العربي وما يشغل هذا القطر ويهدّد تحوّله الدّيمقراطي الناشئ، لكن انتشارها خارج البلاد وتوسّع المجال الجغرافي لقرائها وللمساهمين فيها من جهة وإيمان القائمين عليها بأن الإصلاح الحقيقي (خاصّة الثقافي) لا يمكن أن يكون قطريّا من جهة أخرى، دفعها إلى أن تتجاوز القطريّة في طرح المواضيع، ليصبح اهتمامها بكلّ ما يشغل المسلمين والعرب أينما كانوا. 
 (V)
«لماذا لا تتحوّل المجلّة إلى ورقية وتغادر العالم الإفتراضي؟».سؤال طرحه علينا عدد كبير من القرّاء  ويستحقّ الإجابة. فالمجلة اختارت الطريق الافتراضي ولم يفكر القائمون عليها في مغادرته لما يشهده عالم التكنولوجيات من تطور منقطع النّظير وما يوفّره هذا العالم من امكانيات وتسهيلات لا يوفّرها العالم «الورقي». ومن يجد اليوم صعوبة ما في قراءة مقالات المجلّة الإلكترونيّة نتيجة عدم تأقلمه مع عالم التكنولوجيا الحديثة أو رفضه اللاّشعوري لما هو بديل عن الموجود، سيغيّر موقفه حتما في القريب العاجل لأنّ الأدوات المتوفّرة من حواسيب محمولة و«أي باد» وشبكات تواصل إجتماعي وواب وبرمجيات متطوّرة سهلة الإستعمال، ستمكّنه من ولوج العالم الإفتراضي بسهولة إذا ما توفّرت لديه الإرادة. 
من مزايا النّشر الالكتروني أنّه يساعد على تخفيض المدّة التي يستغرقها نشر العمل، وهو قليل التّكلفة ومربح للوقت وسهل التّخزين والتّبويب. فالنَشْر عبرَ (الإنترنت)، يُعطِي للمجلّة الصِّبْغة العالميَّة؛ نَظرًا لطبيعة الوسيط ذاته، وهو (الإنترنت)، والصُّحُف الإلكترونيَّة تَعبُر القاراتِ دون رقابةٍ، أو موانع، أو رُسوم، وبتكلفة يسيرة، وشكل فَوْري. أمّا النشر الورقي فهو إلى زوال مهما كانت القوى التي تدعّمه وتسهر عليه، وستتحوّل عاجلا أم آجلا إلى الكترونيّة (7). غير أنّ اختيار العالم الافتراضي يتطلّب جهدا لاباس به في تطوير التّقنيات المعتمدة والاستغلال الجيّد لما تتيحه التّقنيات الحديثة.    
 (VI)
بالعودة إلى الأرقام، بلغ المعدّل السّنوي لتحميل المجلّة كاملة 2077 (من دون حساب عدد المطلعين على مضمون المجلة مباشرة من الموقع دون القيام بعمليّة التحميل). 
صحيح أنّ عدد القرّاء ليس بالكثير، لكنّنا سعداء به، لأنّنا نعرف جيّدا طبيعة السّاحة التي نتحرّك فيها وخصائص الواقع الثّقافي والاجتماعي والسّياسي الذي نعيش فيه. فلم يعد من السّهل العمل في ساحة ثقافيّة فكريّة هيمنت عليها الرّداءة وسيطر عليها الابتذال وهجرها العقلاء ليرقص فيها أشباه المثقّفين على أنغام عولمة كاذبة ومدنيّة مزوّرة.
أمّا من حيث عدد المساهمين بالكتابة في المجلّة، فإذا استثنينا الذين ساهموا بمقال واحد وعددهم 52، فإنّ 200 كاتبا وكاتبة قد نشروا على أعمدة الإصلاح مقالين أو أكثر، من بينهم 121 تونسيّا وتونسيّة، خمسة عشر منهم خارج الوطن و63 من الوطن الكبير، 39 منهم من المغرب الشقيق، أمّا البقيّة فمن مصر وفلسطين والعراق والجزائر واليمن وسوريا والأردن.
وحملت هذه الأعداد بين جنباتها أكثر من 2240 مقالا في ميادين عديدة فكريّة واقتصاديّة واجتماعيّة وسياسيّة و34 حوارا مع شخصيات فكرية وثقافية من المجتمع العربي بالإضافة إلى 110 نصّ تعريفيّ لشخصيات إصلاحيّة وأكثر من 340 قصيدة شعريّة وكلمات 186 أغنية ملتزمة و130 قصّة كاريكاتوريّة مصّورة.
هذه بعض الأرقام التي تلخّص مسيرة إحدى عشرة سنة، حاول خلالها القائمون على المجلّة تقديم أفضل ما لديهم، لكنّ الطريق مازال طويلا، مليئا بالأشواك والعراقيل، ومازال أمامهم عمل كبير وبذل جهد أكبر من أجل توفير المضمون الجيّد المفيد.
هناك بلاشكّ العديد من الهنّات التي يجب تفاديها وهناك أيضا كثير من الصّعوبات نحاول تجاوزها قدر المستطاع، ومهما يكن من أمر، فسنبقى بحول اللّه متشبّثين برسالتنا الثّقافيّة الفكريّة المدافعة عن هويّتنا العربيّة الإسلاميّة، المتفتّحة على العصر بعين ناقدة وعقل يرتكز على الإبداع وليس الاتّباع، آملين أن ننجح ذات يوم في تغيير ما بأنفسنا، عسى اللّه أن يغيّر حالنا إلى أحسن حال. 
ولأنّنا واعون بأنّ عمليّة الإصلاح ليست بالأمر الهيّن وقدتتطلّب أجيالا عديدة، فإنّنا لسنا مستعجلين على قطف ثمار النّجاح، لكنّنا حريصون على المحافظة على المكتساب التي تحقّقت خلال السّنوات الخوالي واعتبارها لبنات نحاول تدعيمها والبناء عليها، وما توفيقي إلاّ باللّه.
الهوامش
(1) افتتاحيّة العدد الأول من المجلّة. 4 افريل 2012
(2) افتتاحيّة العدد الثاني من المجلّة. 20 افريل 2012
(3) عنوان لمقال للمهندس فيصل العش - مجلّة الإصلاح - العدد 63 - 22 أوت 2014
(4) و (5) من البيان التّأسيسي لمنتدى الفارابي للدّراسات والبدائل
(6) من مقال م.فيصل العش، تحت عنوان «شجرة طيّبة أصلها ثابت وفرعها في السّماء»، مجلّة الإصلاح ،العدد  78، مارس 2015
(7) من المجلاّت والصّحف العربيّة العريقة التي اضطرّت إلى التّحوّل إلى الصّبغة الإلكترونيّة نذكر الصّحف اللبنانيّة «النّهار» و«السّفير» و«اللّواء» ومن الصّحف العالميّة نذكر «إندبندنت» البريطانيّة ومجلّة «نيوزويك» الأمريكيّة.