تمتمات

بقلم
رفيق الشاهد
ماذا أريد ؟
 ماذا تريد ؟ 
لا أعرف إن كنت أستحقّ أن أُسأل مثل هذا السّؤال الذي طرح على بعض الشّخصيّات العالميّة ممّن تميّزوا بالذّكاء، فاستحقوا الشّهرة وتمّ اختيارهم لاعتلاء مراتب الحكمة لأجيال. وآخرون خُلِّدتْ أسماؤهم عبر العصور والتّاريخ، فأصبحوا مراجع يعود إليهم الباحثون والعلماء كلّ في مجال اهتمامه. ومن جهة أخرى فإنّه من المؤكّد أنّ سلّة النّسيان تتّسع لكلّ من مرّ دون أثر تركه في هذه الحياة التي فتحت أبوابها مترعة، والتي على اتساع أبوابها لم يكن ولوجها ولا الخروج منها إلّا بالأوجاع. فسلّة النّسيان القريبة منّا جميعا تبتلع كلّ من لم تحفظ اسمه الذّاكرة الانسانيّة وإن جاء إليها متأخّرا.
على كل أنا مازلت على قيد الحياة وكنت ومازلت حريصا على أن أكون متميّزا بين المتوسّطين، ولا يمنعني هذا من التّشبّث بتلابيب العلماء والفلاسفة والأدباء الذين تركوا إرثا يثري الفكر ويرتقي به الى مراتب الفكر الإنساني. فوجدتني أسعى ليلا ونهارا وراء الغذاء العقلي والرّوحي على قدر ما يتوجّب السّعي استجابة للجوع البطني والشّهوات. وإن يُطرح عليّ مثل هذا السّؤال الصّعب ألا يعني أنّ السّائل قد رآني كبيرا. وإن لم يكن، وسألت نفسي مثل هذا السّؤال ألا يكفي المرء شرفا ونخوة أن يفكّر في الأشياء التي من حوله، وأن يحلم حتّى يفهم الحياة أفضل؟ الرّغبة في حياة بوعي لا تنطلق إلاّ بالسّؤال.
فاجأني السّؤال غير المنتظر. ولم يكن الجواب حاضرا ولا حتّى أطرافا منه. وأمام انتظار محاورتي وحرصها على اقتلاع جواب منّي، فلم استطع أن أخذلها، ولم يكن منّي إلّا أن أسترجل، فترجّلت وارتجلت بكلّ حذر كلمات قد تفي بالمطلوب، جاءت متقطّعة، فكان هذا جوابي: 
« لا شيء أريده من هذه الحياة التي لم اختر خوضها. وبما أنّني فيها، أتمنّى معرفة لماذا. وأريد أن أعيش تفاصيلها، وأن أخرج منها دون ضجر».
بقيت فترة ألوك هذه الجملة التي جاءت عفويّة ومتسرّعة. وإن وجدتها قد شكّلت فكرة تشبهني وأقنعتني لفترة حتّى لم أكن أتصوّر يوما نكرانها، إلاّ أنّني وجدتني من حينها مهموما لا أفكّر في شيء سواها، مع أنّني تعوّدت معالجة مسائل متعدّدة في آن واحد. وملكني هذا الانشغال فترة كنت فيها هائما ومنجذبا بين البحث عن جواب يقنعني ويرضيني والرّغبة في التّنصّل من هذا السّؤال وتركه لمن من شأنه التّفكير في مثله وإبداء الرأي فيه من فلاسفة ومختصّين. وعلى عادتي التي لا تختلف عن عادات الباحث، كنت أفكّر أحيانا بصوت مرتفع متصفّحا ما توفّر من مراجع ورقيّة، تشبثت قبل أن تترك مكانها لأخرى رقميّة أصبحت في أيّامنا أكثر قربا. واستمتعت برقيّ بعضهم وضحكت من آخرين بعد أن اطلعت على ردود أهل الاختصاص ومن عرفوا بالحكمة والعالميّة.
وفي مثل هذه الحالات من المخاض يسعدني أن أصيب عصفورين بحجر واحد وأحيانا عدّة عصافير. يداي مشغلتان بغسل الأواني بطريقة منسجمة وهادئة، رحل فكري خارج المكان والزّمان، فاكتشفت «محمود درويش» يريد أن يبكي ولا شيء يعجبه، و«لوركا» يريد أن ينام قليلا دقيقة قال أو قرنا مثله مثل «بوكوفسكي» لا يريد إلاّ الذّهاب إلى الفراش وأن يغلق عينيه وينام إلى الأبد. ووجدت «الماغوط» يركض طول حياته ولم يصل إلاّ إلى الشّيخوخة، يسأل النسّاجين كفنا واسعا يتّسع لأحلامه، كان «كافكا» كما عهدته في «التّحوّل» ترجمة لعنوان كتابه «ميتامورفوز»، لم يتحوّل إذ بقي متعبا ولا يستطيع التَّفكير في أيِّ شيءٍ، ويُريدُ فقط أنْ يبقى إلى الأبد واضعا وجهه في حِضْنِها وشاعرا بيديها على رأسه. فلم أتمنّ حينها إلاّ أن أكون ذلك الإنسان حيث يجب ليستطيع «دوستويفسكي» أنْ يكلّمني كما يكلّم نفسه.
ما إن أكملت غسل ما جاء بين يدي من صحون ولا أدري ماذا، نشفتها بما وجدت أمامي، وانتقلت أنقر على لوحة المفاتيح وأقرأ ما بان على شاشة حاسوبي إجابتي الأخيرة عن سؤال «ماذا تريد؟. ورأيتني على عكسهم هؤلاء الذين لا يريدون شيئا أو هكذا ربّما أرادوا أن يقنعوني، أجدني أريد كلّ شيء. أريد أن أكون هواء يصل إلى كلّ النّاس، فيستمع إلى همساتهم لأنفسهم. أريد أن لا أهتدي إلى باب الخروج حتّى لا يصطادني الموت، وأريد أن أرهقه قبل أن أسلم نفسي له.
لمّا رفعت رأسي في نشوة، وجدت زوجتي واقفة أمامي وقد انتشلت من حاوية القمامة بالمطبخ ملعقتين وشظايا كأس مكسّر!