شذرات

بقلم
د.محمد عمر الفقيه
وقفة مع آية
 قال تعالى : ﴿...وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾(1).
قرأت أكثر من عشرة تفاسير حول تفسير هذه الآية الكريمة وكلها مجمعة على أن المقصود بالكنز هو المال الفائض عن الحاجة ، البالغ نصاب الزكاة ولم تُؤدّ زكاته ، وبعض المفسرين قال أن هذه الآية قد نسختها آية الزكاة  والمتأمل للآية الكريمة بتمعن يرى أن الآية لا تتحدث عن الزكاة لا من قريب أو بعيد، بدليل أن الله تعالى يطالبنا أن ننفق كل أموالنا في سبيله ، ومن المعلوم أن الزكاة المفروضة هي دفع جزء من المال المستحق الزكاة إلى مستحقيه وليس كل المال، ومن الآيات الدالة على ذلك قوله تعالى :﴿...وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ﴾(2)، وقال تعالى:﴿...وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ﴾(3)،  وقال تعالى:﴿... وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ، لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ﴾(4) .
وهناك العشرات من الآيات القرآنيّة والتي تشير بشكل واضح على أنّ الزّكاة المفروضة هي جزء من المال المدّخر الذي استوفى شروط زكاته. 
إذًا الآية الكريمة : ﴿...وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ لا تتحدّث عن الزّكاة مطلقا ، لا الزّكاة المفروضة ولا الزّكاة التّطوعيّة والتي بمعنى الصّدقة .
إذا كيف يمكن فهم الآية الكريمة ؟
إذا أردنا فهم الآية فهما واقعيّا منسجما مع السّياقات القرآنيّة لا بدّ أن نُفرغ عقولنا من المعرفة السّابقة ، وأن نحلّل الآية الكريمة ونفكّك كلماتها، ومن ثمّ نقوم بتركيبها ليتّضح المعنى الأقرب للصّواب والملائم لواقعنا المعاصر.
أولا: فيما يتعلّق بمفهوم الكنز، معظم علماء التّفسير ذهبوا إلى أنّ الكنز هو المال الذي لم تؤدّ زكاته، ولكن بالمفهوم الاقتصادي المعاصر يأخذ الكنز دلالات أخرى خطيرة جدّا لها ارتباط بالكساد، فالكنز بالمفهوم المعاصر هو تكديس المال ومنعه من أن يدور دورتة الطّبيعيّة في المجتمع، ممّا يترتّب عليه نقص في السّيولة النّقديّة ، فينتج عن ذلك إزدياد البطالة، وخفض الأجور، ممّا يؤدّي إلى الإنهيار الإقتصادي بعد ذلك. إذًا هذا ما تتحدّث عنه الآية القرآنيّة بالتّحديد ، خاصّة وأنّها تتحدّث عن كنز الذّهب والفضّة حيث أنّ هاذين الصّنفين هما الأثمان الحقيقيّة للسّلع. إذًا الآية الكريمة لا تتحدّث عن الزّكاة مطلقا، وتدلّ الآية دلالة واضحة أنّ المطلوب من الذين يكنزون الذّهب والفضّة ليس الزّكاة، وإنّما المطلوب منهم أن ينفقوا أموالهم كلّها كما هو ظاهر في الآية الكريمة وليس جزءا منها.
ثانيا : مفهوم الإنفاق في سبيل اللّه : المتتبّع لآيات القرآن الكريم يلحظ بكلّ وضوح أنّ كلمة الإنفاق جاءت لتدلّ على ثلاثة أنواع من الإنفاق هي :  الإنفاق الإستهلاكي ، الإنفاق الخيري، الإنفاق الإستثماري.
ومن الآيات الدّالة على الإنفاق الاستهلاكي قوله تعالى: ﴿ لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ، وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ، لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا، سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا﴾(5).
أمّا فيما يتعلّق بالإنفاق الخيري فهي جميع الآيات القرآنيّة التي تحثّ على الصّدقة في وجوه الخير المختلفة. 
أمّا الآيات الدّالة على الإنفاق الاستثماري ، منها قوله تعالى:﴿ وَأُحِيطَ بِثَمَرهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَىٰ مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا ﴾(6).
تأمل معي قوله تعالى : فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها ، عبر الحق عز وجل بكلمة أنفق فيها، بمعنى استثمر فيها ، فالكلمة تأخذ بعدا اقتصاديا بشكل جلي واضح ، وهذا ما يساعدنا على فهم الآية الكريمة : ﴿وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾(7).
إذًا المطلوب هو إنفاق كلّ المال بهذا المفهوم وليس جزءا منه، بمعنى أنّه لا يجوز كنز النّقد سواء كان بصورته النّقديّة أو الذّهبيّة أو غير ذلك، وحبسه ومنعه من أن يدور دورته الاقتصاديّة الكاملة في المجتمع ؛ لما لذلك من آثار اقتصاديّة مدمّرة لها ارتباط قويّ بالكساد الاقتصادي، وما يترتّب عليه من آثار سلبيّة على المجتمع .
ولعلّ هذا الفهم للآية الكريمة الأقرب إلى فهم أبي ذرّ الغفاري الذي كان معارضا لسياسة كنز المال في خلافة عثمان بن عفان رضي اللّه عنه وعهد معاوية بن أبي سفيان الذي انتهى بنفي أبي ذر الغفاري رضي اللّه عنه حتّى انتهى أمره بالموت فريدا ووحيدا .
فكم علينا أن نعيد قراءة القرآن الكريم قراءة معاصرة تنير لنا دروب الواقع والمستقبل.
الهوامش
(1) سورة التوبة - الآية 34
(2) سورة  البقرة - الآية 219
(3) سورة البقرة - الآية 3
(4) سورة المعارج - الآية 25
(5) سورة الطلاق - الآية 7
(6) سورة الكهف - الآية 42
(7) سورة التوبة - الآية 34