حكم وأحكام

بقلم
الهادي بريك
فقه الإسلام : حكم وأحكام الحلقة 11 : من فقه المعاملة مع الآخر المختلف
 إرتباك كبير يستبدّ بكثير منّا في موضوع ترتيب العلاقة مع الآخر المختلف. وخاصّة المختلف دينا. من أسباب ذلك الإرتباك تقديم السنّة على القرآن الكريم. وهو خطأ منهاجيّ قاتل. ومن الأسباب كذلك عدم التّمييز بين آخر وآخر. آخر محارب وآخر مسالم. وآخر عدوّ وآخر يقف معك في جبهة المقاومة ذاتها. ومن الأسباب كذلك الإستلهام من التّراث الذي أثّثه أهله لمعالجة تحدّياتهم هم. وما كان يزعم واحد منهم أنّ تراثه الإجتهاديّ سيكون شمسا تبزغ على قرون طويلة من بعده.
من الهدي القرآنيّ الكريم
بذل الإحسان والحسن والبرّ والقسط
قال سبحانه ﴿..وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا...﴾(1). آية صريحة محكمة. ولكنّ يقرأ كثيرون منّا القرآن الكريم بعينه، لا بفؤاده مع ما ورثه دون تمحيص ولا تحيين. كلمة (النّاس) هنا تعني عندنا (المسلمين) وليس عموم النّاس. كما قال سبحانه في موضع آخر ﴿..وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنبِ...﴾(2). خلق الإحسان هنا معطوف على كلّ من يذكر من بعد الوالدين. بذل الإحسان ـ وهو أكمل قيم البرّ ـ هنا مطلوب لكلّ هؤلاء. ومنهم : الجار الجنب. وهو الجار الأجنبيّ. بأيّ معيار من معايير الإختلاف لونا أو دينا أو لسانا. ومنهم كذلك : الصّاحب بالجنب ومنه الزّميل المؤقّت والدّائم. هل هناك أصرح من هذا؟ وهل هناك حاكم يعلو القرآن الكريم؟ كما قال سبحانه في موضع ثالث ﴿لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ...﴾(3). بذل البرّ إلى هؤلاء المختلفين عنّا هو كذلك خلق عظيم وفضيلة عليا. ومثله القسط الذي هو أدقّ من العدل وأنفذ. قيم تترى يتأثّث بها القرآن الكريم متكافلة على وجوب التّمييز بين الآخر المحارب والآخر المسالم. قيم رسالتها أنّ الأصل الآدميّ بيننا واحد وهو مرعيّ محفوظ وله حقّ الحسن والإحسان والبرّ والقسط
ردّ التّحية
قال سبحانه ﴿وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا...﴾(4). لِمَ جاء فعل التّحية مبنيا للمجهول؟ حتّى لا نلتفت لمن بذل إلينا التّحية. حتّى لا نغرق في نقاشات بليدة لنميّز بين محيّ وآخر. ولِمَ جاءت التّحية نفسها نكرة لا معرّفة؟ حتّى لا نبذّر حياتنا الثّمينة في نوع التّحية ولسانها وحركتها وصورتها. وبذلك نتفرّغ لشيء واحد هنا هو : ردّ التّحية، إمّا بأحسن منها أو بمثلها. وما دون ذلك لغو لا يسمن ولا يغني من جوع. من لا تأسره دقّة هذا الكتاب العظيم الذي تحدّى العرب الأقحاح لن يظفر بشيء مهمّ منه، ومن لا يعيد ترتيب منهاجه التّفكيريّ وفق هذا الكتاب الكريم فلن تغني عنه تلاواته، ولو لقي ربّه وقد تلاه مليون مليون مرّة. التّلاوة وسيلة للتدبّر. الذي هو بدوره وسيلة لحسن الفهم والتّمثّل.
من هدي السنّة
جعفر في الحبشة
كان جعفر عليه الرّضوان ومن معه في الحبشة أقلّية مسلمة في بلاد مسيحيّة بالكامل ورئيسها مسيحيّ كذلك. ولم يمنعهم ذلك من الإعتراف بالقضاء المسيحيّ لتلك البلاد. إذ مثل أمامها بصفته النّاطق الرّسميّ للوجود الإسلاميّ آنذاك. ولم يمنعه من الدّفاع عن نفسه وعمّن معه أمام تلك المحكمة التي يرأسها حاكم البلاد المسيحيّ نفسه. ولم يمنعه ذلك كذلك من توفير خيط واصل بين دينه ودين ذلك المسيحيّ. إذ قرأ آيات من سورة مريم البتول. ولم يمنعه ذلك كذلك من الوقوف سياسيّا إلى جانب النّجاشيّ. إذ نازعه أحدهم السّلطان. كان المنهاج التّفكيريّ للصّحابة الكرام صحيحا. إذ يقوم على معيار العدل والجور في الحقل السّياسيّ. وليس على معيار الدّين. أين نحن من ذلك المنهاج؟
ردّ التّحية حتّى وهي مسمومة
ألقى مجموعة من اليهود ذات يوم التّحية عليه (ﷺ) ولكن بخديعة، إذ قالو له (السّأم عليك) والسّأم هو الموت. فقال لهم : وعليكم. فقالت له الأمّ الكريمة عائشة : لقد قالوا لك (السّأم) يا رسول اللّه. فقال لها : علمت. ولذلك قلت لهم : وعليكم. أو ليس الموت علينا وعليهم. بمثل هذه المرونة العجيبة عالج ﷺ موقفا كان يمكن أن يسيل دماء، أو يثير فتنة، أو يزعزع أركان أمن منشود
معاملات نبويّة كثيرة مع غير مسلمين
منها أنّه ﷺ قبل الهدّية مرّات من مشركين ومن أهل كتاب. قبل قطيفة حمراء هدية من مشرك، وقبل شاة مشويّة من إمرأة يهودية في خيبر، وكانت تريد إغتياله. وأهدى هو نفسه لقريش أموالا كثيرة يساعدهم بها في محنة غذائيّة مرّت بهم. كما أضاف عنده في بيته أحد أكبر قساوسة النّصارى، وهو عدّي إبن حاتم الطّائيّ. أكرم وفادته وأضافه خير ضيافة وتحدّث معه طويلا حول قضايا دينيّة في النّصرانيّة. وكان منشأ التّكريم له هو تكريم لقيم السّخاء العظمى التي كان عليها أبوه حاتم قبل ذلك. كما اقترض شعيرا من يهوديّ ورهن عنده درعه. لو إستعدنا هذا المشهد، كيف دخل عليه (ﷺ)؟ هل دخل عليه عابسا متجهّم الوجه لأنّه يهوديّ. ألم يحيّه بأيّ صيغة من صيغ التّحية المعروفة في تلك الأيّام؟ هل هذه أخلاق إمرئ عربيّ حتّى لو لم يكن نبيّا؟ هل هذه أخلاق رجل محتاج جاء يقترض مالا؟ هل هذه معاملة إنسان مسالم. بل هو مواطن مكرّم له الذي للنّاس وعليه ما عليهم؟ هو أكرم وفادة عدّي وهو ليس محتاجا إليه فكيف لا يكرم اليهوديّ وهو محتاج إليه؟ وفي مشهد آخر عاد شابّا يهوديا آخر في مرض موته ودعاه إلى الإسلام فأسلم طرفات عين قليلات قبل أن تفيض روحه. ففرح به ﷺ. وقال : الحمد للّه الذي نجّاه بي من النّار. لو إستعدنا المشهد ذاته، كيف تراه دخل عليه؟ عبوسا متجهّما؟ أهذه أخلاق من يعود مريضا؟ إذا كان سيكون كذلك ما ألجأه إلى عيادته أصلا؟ هل يعود صاحب المروءة مريضا فلا يحيّيه؟ وهل يجلس الكريم إلى جانب مريض فلا يسلّيه ولا يعزّيه ولا يسأل له الشّفاء؟ عجب عجاب هذا الذي إمتلأ به جانب غير صغير من تراثنا. وأعجب منه ما ينقله ملايين مملينة اليوم من الشّباب المتديّن حديثا وهو يسري في طبقات التديّن التّقليديّ سريان النّار في الهشيم. هب أنّ محمّدا ﷺ ليس نبيّا، هب أنّه عربيّ فحسب، أليس هو المقلّد من لدن العرب قبل نبوّته بأعظم وسام. إذ كان ينادى بالصّادق الأمين. هل هذه أخلاق صادق أمين؟ 
الحقّ الذي لا أماري فيه حتّى أموت هو أنّ التّديّنات التّقليديّة والسّلفيّة والصّوفيّة وغيرها كثير ممّن تنكّب المنهاج التّفكيريّ الإسلاميّ الذي جاء به القرآن الكريم وزكّته السنّة الصّحيحة كانت نكبة على الإسلام وأمّة الإسلام بمثل ما لم يكن الإحتلال نفسه ولا الغزو الغربيّ نفسه.
أبعاد إنسانيّة كثيرة منسيّة
يأبى الإسلام إلاّ أن يكون دينا عامّا جامعا شاملا لكّل زمان ولكلّ مكان ولكلّ إنسان. ونأبى نحن إلاّ أن نجعله دينا قوميّا حزبيّا طائفيّا مذهبيّا. ويأبى الإسلام إلاّ أن يكون رحمة للعالمين يعلن المساواة الأوّلية الفطريّة بين النّاس على أساس تساويهم في المصدريّة الخلقيّة الأولى ونأبى نحن إلاّ أن نجعل منه نقمة على غيرنا الآخر المختلف دينا، بل المختلف لسانا في أحيان أخرى والمختلف لونا. يأبى الإسلام إلاّ أن يكون دينا للإنسان بغضّ النّظر عن الجنس أكان ذكرا أم أنثى ونأبى نحن إلاّ أن نجعل منه دينا للرّجال ودينا آخر للنّساء.
 نحن لمّا صنعنا حصل في صناعتنا خطأ هيكليّ كبير، إذ صنعنا وفق الجهل بملكة التّمييز، وبذلك نضع كلّ شيء في سلّة واحدة. ومن ذلك قولنا أنّ الكفر ملّة واحدة. من قال هذا؟ اللّه؟ رسوله ﷺ؟ حتّى الصّحابة ورجال القرون الثّلاثة الأولى المشهود لها بالخيريّة لم يقولوا هذا. ومنها أنّ الكافر يقاتل أو يقتل بسبب كفره. وليس بسبب عدوانه. أليس المسلم نفسه يقاتل ويقتل بسبب عدوانه كذلك كما جاء في سورة الحجرات؟ الحقّ الذي لا مراء فيه عندي أنّ من حرم قيمة التّمييز بين الأشياء والأمور ـ كما يميّز بين الألوان ـ حرم الخير كلّه. قيمة المواطنة ـ التي هي من قيمة الجوار. وما أعظم حقوق الجوار في الإسلام ـ قيمة مهدورة. فلا تجري على ألسنة المنسوبين إلى الدّين. بل تجري مغداقا على ألسنة الإعلاميّين والسّياسيّين. قيمة الآدمية مثلها. عجب عجاب أن يقرأ المتديّنون أنّ اللّه سبحانه غفر لعاهر إسرائيليّة بسبب رحمتها بكلب ظمآن ثمّ لا يستنبطون الدّرس من هذا أنّ اللّه سبحانه يغفر لمن يرحم من هو أكرم من الكلب. أي الإنسان؟ 
لا شيء يجعلني أتردّد في الإعلان أنّ منهاجنا التّفكيريّ الموروث هو منهاج إلى الجاهليّة العربيّة الأولى أقرب منه إلى الإسلام. ومن هنا فإنّ أزمة الدّيمقراطيّة في البلاد العربيّة هي أزمة عريقة هيكليّة. ذات جذور ثقافيّة وفكريّة وتاريخيّة. وستظلّ الديمقراطيّة شجرة خبيثة غير مرحّب بها عندنا حتّى نتسلّح بالجرأة الكافية لإجراء عمليّات جراحيّة مؤلمة جدّا وقاسية جدّا على منهاجنا التّفكيريّ. لعلّه ينصلح بقيم الإسلام. أو نقضي في أثناء العمليّة. ويرث الإسلام من هو أنقى تفكيرا. أمّا التديّن الشّكليّ المظهريّ فحسب، فليس يثمر خيرا.
الهوامش
(1) سورة البقرة - الآية 83
(2) سورة النساء - الآية 36
(3) سورة الممتحنة - الآية 8
(4) سورة النساء - الآية 86