مقاربات

بقلم
أ.د.عماد الدين خليل
مدخل إلى بناء الكون في المنظور القرآني (الحلقة الأولى)
 تقديم
هذا ما يريد كتاب اللّه أن يحدّثنا به عن بناء الكون بعلمه المطلق الذي لا تغيب عنه -وحاشاه- شاردة ولا واردةً ... قد تلتقي معطياته مع بعض كشوف العلم الغربي ونتائج الفيزيائيّين والرّياضيّين والكوزمولوجيّين، وقد تفترق عنها بزاوية مائة وثمانين درجة ... ذلك أنّ الفارق بين علم اللّه الأزلي الذي لا تحده حدود وعلم عباده، فارق كبير كبير يصعب حسابه على الحاسبين.
ولقد قيل في هذا المجال الكثير وكتب الكثير، منذ عهد افلاطون وأرسطو وسقراط وحتّى عهد فلاسفة العلم المعاصرين وعلمائه الكبار من الفيزيائيّين والرّياضيّين والكوزمولوجيّين ... «اينشتاين» و«بور وهايزنبرغ» و«أغروس» و«سوليفان» و«كاريل» و«ستانسيو» و«هويل»، مروراً بـ «كبلر» و«غاليلو» و«نيوتن» ... الخ، فوضعت النّقاط على الحروف في جانب من الحقائق، وطاشت سهام في جانب آخر ... ولا يزال كبار العلماء يشتغلون ويتحدّثون بجملة من الكشوف المتعاقبة ... لكنّهم، وبعبارة أكثر دقّة، أنّ الحداثيّين من فلاسفة العلم أدركوا أنّ علمهم هذا علم ظنّي لا يمكن أن يحقّق المطابقة المطلقة مع الحقائق الكونية(Not Exact Science) ولا يمكن أن يقدّم وصفاً دقيقاً لماهيات الظّواهر الكبرى كالطّاقة والضّوء والحركة ... الخ، إنّما يقفون عند حافاتها التي تحدّثهم عن طريقة عملها، أمّا ما وراء ذلك فهو من الغيب المجهول الذي لا يعلمه إلاّ اللّه سبحانه وتعالى!
منذ فجر التّاريخ تحدّث الفلاسفة والعلماء عن بناء الكون، تراهم هل وصلوا إلى جواب قاطع حول هذه القضية، أم أنّها مجرّد محاولات للاقتراب من حقائق الأشياء، وليس مطابقتها بحالٍ من الأحوال؟ 
في كتاب اللّه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه نتلقّى الجواب ... العلم اليقيني القاطع الذي لا مجال فيه لغبش أو احتمال ... إنّه علم اللّه الأزلي الذي خلق الكون، وأعطى العالم مواصفاته الأساسيّة، فلنتابع في هذا البحث، الذي اسميته مدخلاً، جانباً ممّا يقوله كتاب اللّه، لعلّه يخفّف من حدةّ الوهج الذي أعمى عيون الكثيرين ممّن راحوا يلهثون بما يقوله الغربيّون عن قصّة الخليقة، وبناء الكون، فيما لا يعدو أن يكون –مرةً أخرى- نوعاً من مقاربة الحقائق وليس مطابقتها بحالٍ من الأحوال ... فها هنا في كتاب اللّه نلتقي المطابقة التي لا مجال فيها للظنّ والتّخمين!
الله سبحانه وتعالى هو الخالق والمالك
ابتداءً، فإنّ اللّه سبحانه وتعالى هو الذي خلق السّماوات والأرض، وهو مالكها القيوم عليها، المتصرّف بمقدراتها، وبالتّالي فهو أدرى بخلقه وملكه: ﴿أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾ (الملك:14)، ولطالما تردّدت في كتاب اللّه هذه (الثيمة) التي تؤكّد حقيقة الخلق وموجده (جلّ في علاه): ﴿إِنَّ اللّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ...﴾ (التوبة:116). ﴿أَلا إِنَّ لِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ...﴾ (يونس:55). ﴿...لَهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ ...﴾ (يونس:68). ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحقِّ ...﴾ (إبراهيم:19). ﴿اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ ...﴾ (إبراهيم:32). ﴿خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ ...﴾ (النحل:3). ﴿وَلَهُ مَا فِي الْسَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ...﴾ (النحل:52). ﴿لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى﴾ (طه:6). ﴿خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ ﴾ (العنكبوت:44). ﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ (لقمان:25). ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ﴾ (سبأ:1). ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ...﴾ (فاطر:1). ﴿فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ (يس:83). ﴿اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ.لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ...﴾ (الزمر:63-62). ﴿لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ...﴾ (الشورى:12). ﴿وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا ...﴾ (الزخرف:85). ﴿وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ...﴾ (النجم:31). ﴿تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ (الملك:1). ﴿رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرحْمَنِ ...﴾ (النبأ:37). ﴿وَهُوَ اللّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ ...﴾ (الأنعام:3). ﴿خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ ...﴾ (الزمر:5).
ويلفت نظرنا في هذه الآيات تكرار كلمة أنّ خلق السّماوات والأرض إنّما جاء مرافقاً لنواميس الحقّ التي قامت عليها بنية السّماوات والأرض ... ولهذا دلالته ولا ريب ، فإنّ الأمر جدّ، وأنّ خلق السّماوات والأرض يعكس حقيقة هذا الجدّ الذي يضبط ويضع الأمور في أماكنها تماماً، حيث لا شذوذ ولا انحراف بأيّ معيار من المعايير. وهو الجدّ الذي يكتسح كلّ تصوّرات الغربيّين الضّالّة التي حوّلت الكون إلى ساحة عبثيّة تقوم على الفوضى واللاّجدوى والاصطراع بين الآلهة المدعاة منذ عصر الميثولوجيا اليونانيّة، وصخرة سيزيف، وأسطورة النّار المقدّسة لبروميثيوس، إلى عصر المذاهب العبثيّة والوجوديّات الفاجرة التي صوّرت الكون حالة من القهر الذي لا يجد الإنسان في ساحته أيما فرصة على الاطلاق لتجاوز هزيمته والخروج منتصراً!
ها هم كتّاب المسرح الطليعيّون، روّاد الرّؤية العبثيّة للكون والعالم والوجود، ومن قبلهم الوجوديّون في جناحهم الكافر، يؤكّدون لا جدوى للوجود البشري، ولا معنى للحياة الإنسانيّة (فما دمنا سنموت فليس لأيّ شيء معنى)، والحياة تمضي على غير هدى، تلفها فوضى تمسك بخناقها فلا تدعها تعثر على الهدف من خلق الكون والعالم، والضّياع يلفّ الدّنيا والأشياء والخلائق، فلا يسمح لأحد وسط دوامة غبشه بأن يرى ولو بصيص أمل في مغزى وجوده ... أليس هذا كلّه نقيضاً للجدّ الذي خلقت به السّماوات والأرض كما يؤكّد كتاب اللّه(1) ؟!
ثمّ ها هم علماء الكوزمولوجي المحدثون يؤكّدون يوماً بعد يوم مبدأ غائيّة الحياة، فيجعلون لخلق الكون والعالم هدفاً تقف قبله وبعده إرادة اللّه الواحد الذي لا يعجزه شيء في السّماوات والأرض، وأنّ الحياة لم تخلق عبثاً وأنّ المسعى البشري لا يتحرّك فوضى وعلى غير هدى ، وإنّما هنالك غايات يسعى للتّحقّق بها فيما ينقض كلّ مقولات الفلاسفة والعلماء الذين ضلّوا وأضلّوا بمقولاتهم الخاطئة عبر قرون الإلحاد المعتمة.
كما يلفت نظرنا أنّ الإقرار من قبل الكفرة والمشكّكين بحقيقة الألوهيّة لا يكفي، لأنّهم يقفون عند حافات الظّواهر والأشياء ولا يعلمون حقيقة خلقها وغايته ... وتلفت نظرنا –كذلك- عبارة (بيده ملكوت كلّ شيء) لكي ما نلبث أن نسلّم بالحقيقة الكبرى التي تشهد بأنّ خلق الكون إنّما يجيئ بإرادة اللّه وحده الذي يملك (كلّ شيء) والذي إذا أراد شيئاً أن يقول له: (كن فيكون)، ﴿إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ﴾ (النحل:40).
بداية الخلق
تبدأ واقعة الخليقة وتنتهي بآيات ثلاث تختزل الرّحلة الطّويلة، التي ربّما تمتدّ لمليارات السّنين، والقرآن الكريم ينبّهنـا، بل يأمرنا أن ننظر كيف بدأ الخلــق، ﴿قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ...﴾ (العنكبوت:20) ولهذا دلالته ولا ريب.
في البدء كانت السّماوات والأرض نقطة شديدة الكثافة، ويجيئ الأمر الإلهي بتفكيكها وتحويلها إلى منظومة هائلة من السّدم والمجرّات والنّجوم والكواكب والأقمار: ﴿أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ ﴾ (الأنبياء:30). وقد جاءت أكثر بحوث الكوزمولوجيّين حداثةً لكي تؤكّد بنظريّة الـ (Big Bang) (الانفجار الكوني العظيم) هذا الذي ذهب إليه كتاب اللّه ... ومن ثمّ نترك دلالة الخطاب القرآني الموجّه إلى الذين كفروا، لأنّهم هم الذين سيقدّر لهم اكتشاف هذه الحقيقة عن بدايات الخلق الكوني.
« إنّ معظم علماء الكونيّات والفلك يدعّمون نظريّة وجود خلق في الواقع لدى انفجار الكون المادّي إلى حيّز الوجود منذ حوالي ثمانيّة عشر بليون سنة مضت إثر انفجار أعظم يعرف عادةً بالانفجار الكبير-big bang، وثمّة خيوط لأدلّة عديدة تدعّم هذه النّظريّة المذهلة، وسواء قبلنا كافة التّفاصيل أم لم نقبل، فالفرضيّات الأساسيّة بوجود نوع من خلق ما، تبدو قاهرةً من وجهة نظر العلم. ويعود الفضل مباشرةً إلى مجموعة كبيرة من البراهين تعود إلى أكثر قوانين الفيزياء شهرةً، ذلك المعروف-بالقانون الثّاني للدّيناميكا الحراريّة- ويوضّح هذا القانون بالمعنى العام، أنّ الكون يصبح يوماً بعد يوم أكثر اضطراباً فثمّة نوع من الانحدار التّدريجي والعنيد ينزع إلى الفوضى، والأمثلة على صحّة القانون الثّاني واضحةً للعيان. ففي كلّ مكان: بنايات تنهار، بشر يتقدّمون في العمر، جبال وسواحل تتآكل، وموارد طبيعيّة تنضب ... ولقد قام فيزيائيّون باختراع كمّ رياضي دعوه أنتروبي Entropy لتحديد كمّية الاضطراب أو الفوضى، وقد أثبتت تجارب دقيقة عديدة أنّ الكميّة الكلّية للاضطراب في نظام ما لا تنخفض أبداً. وإذا كان النّظام معزولاً عن محيطه، فأيّ تغييرات تحدث داخله سوف ترفع الانتروبي أي الاضطراب بحدّة بالغة حتّى يمكنه بعدها الوصول إلى أعلى، وحينها لن يحدث المزيد من التّغيير، حيث يكون النّظام قد وصل إلى حالة توازن الدّيناميكا الحراريّة. وإذا كان لدى الكون مخزون محدود من نظام آخذ في تغيير لا محيد عنه، نحو الفوضى–أي إلى درجة في توازن الدّايناميكا الجارية النّهائيّة- فهذا يعني مباشرةً الخروج باستدلالين عميقين: الأوّل موت الكون في النّهاية، ومن ثمّ تخبطه في الفوضى الأولى. ويعرف الفيزيائيّون ذلك بـ (الموت الحراري) للكون، والثّاني عدم امكانيّة استمرار الكون إلى الأبد، وألّا يكون قد وصل إلى حالة توازنه النّهائي، في زمن لا نهائي مضى. والمحصلة أنّ الكون لم يكن موجوداً دائماً» (2) .
«إنّ التّنظيم المعقّد والمرهف للسّعة بمكوناتها المتداخلة بدقّة، دليل دامغ على التّصميم، فإذا رأى الإنسان ساعةً  للمرّة الأولى في حياته، سيخلص إلى أنّها آلة، صنعها رجل ذكيّ لغرض ما. وأنّ الكون يشبه السّاعة تنظيماً وتعقيداً، لكن على نطاق أعظم بكثير، لذا فمن المؤكّد وجود مصمّم كوني رتّب العالم على هذا النّسق لغايةٍ ما: إنّ ابداعات الطّبيعة تفوق ابتكارات الفنّ تعقيداً ودقّةً وبراعةً تقنيّة. جاءت هذه الحجّة من التّصميم، ومن ارتباطها بمفهوم الغائيّة. 
إنّ فكرة برمجة الكون كي يتطوّر باتجاه هدف نهائي ليست بالجديدة، فالغائيّة أحاطت بدرجة واسعة بكلّ من نظام البساطة والتّعقيد معاً. وقد كتب الاكويني: من الملاحظ أنّ تنظيم الأفعال يمضي إلى نهاية، حيث تطبع جميع الأقسام قوانين الطّبيعة، حتّى وانّ افتقرت إلى الوعي، الأمر الذي يوضّح أنّها تتّجه إلى هدفٍ ما، وهذا ليس محض مصادفة، ورغم أنّ الاكويني لم يكن يعلم شيئاً عن بساطة رياضيّات قوانين الفيزياء الأساسيّة، فإنّه رصد الحقيقة المذهلة في إذعان الأجسام المادّية وانصياعها إلى قوانين منظّمة، واستخدمها دليلاً على وجود الإله المنظّم (3) .
الهوامش
(1) عن المسرح الطّليعي والرّؤية العبثيّة. ينظر: خليل، عماد الدين. فوضى العالم في المسرح الغربي المعاصر، دمشق-بيروت: دار ابن كثير، 2007م، الفصل الثّالث، ص 80-101.
(2) دافيز، بول. الله والفيزياء الحديثة، ترجمة هالة العودي، الطبعة 3، دمشق، صفحات للدراسة والنشر، 2019م، ص 22-23.
(3) المرجع السابق، ص 195-196.