الأولى

بقلم
فيصل العش
في حتميّة الإصلاح الثّقافي... (4) مراحل العمليّة الإصلاحيّة ومحاورها الرّئيسيّة

 عمليّة الإصلاح الثّقافي عمليّة معقّدة وحسّاسة وميدانيّة في نفس الوقت، وهو ما يجعلها طويلة المدى، تتطلّب كثيرا من الجهد والصّبر والمثابرة، هي معقّدة لأنّ المتداخلين فيها كثر والعناصر المؤثّرة فيها عديدة منها ما هو داخلي ومنها ما هو خارجي، ومنها ما يمكن التّحكم فيه ومنها عكس ذلك،  ومنها ما يؤثّر سلبا ومنها من يؤثّر إيجابا؛ وهي عمليّة حسّاسة تتطلّب الدقّة والاستمراريّة، هي بالضّبط كعمليّة غراسة شجرة مثمرة، لا يمكن أن تثمر بسرعة كما يتخيّل البعض، وقد تثمر ولكنّ الثّمار تفسد قبل نضجها، وقد تنضج الثّمار فتكون بلا طعم ولا رائحة، وربّما تكون سامّة وضارّة. 

ويمكن أن نلخّص المراحل الأساسيّة للعمليّة الإصلاحيّة في ثلاث :
1 - دراسة الجدوى، مع أخذ الإطار الزّماني والمكاني للعمليّة بعين الاعتبار، وتحديد المحاور الأساسيّة للعمليّة الإصلاحيّة بدقّة متناهية، واختيار القائمين على العمليّة والمشاركين فيها مع جرد الأدوات المناسبة وتوفيرها. 
لنأخذ مثالا نوضّح به المسألة، فعندما نريد أن نغرس شجرة مثمرة يجب علينا أن نحدّد من جهة  نوعيّة الشّجرة التي نحن في حاجة إليها، ومن جهة ثانية تلك التي تتماشى مع نوعيّة الأرض التي ستغرس فيها، وبالإضافة إلى ذلك يجب أن نكون على دراية بخصائص الغلاف الجوّي المحيط بها أي المناخ السّائد في الموقع من حيث الحرارة والرّطوبة والتّساقطات والرّياح، ومدى تأثيرها على الشّجرة عند غراستها أو أثناء نموّها أو عند إنتاجها للثّمار. وعندما نريد أن نغرس شجرة مثمرة علينا أيضا أن نختار التّوقيت المناسب والشّخص المناسب الذي سيقوم بعمليّة الغراسة، لأنّها عمليّة تتطلّب دراية وتجربة وتمكّن من التّقنيات اللاّزمة، ونوفّر كذلك الأدوات اللاّزمة للعمليّة كالفأس وإبريق الماء ...الخ، كلّ هذا يجب أن يتمّ قبل عمليّة الغراسة؛ 
كذلك الإصلاح الثّقافي، فقبل أن ننطلق فيه يجب أن نجيب على الأسئلة التّالية: أيّة ثقافة نريد؟ وهل يتماشى ما نريد مع طبيعة المجتمع؟، وما هي العناصر المؤثّرة سلبا أو إيجابا في الثّقافة التي نريد، سواء عند بداية العمليّة أو أثنائها أو بعد الانتهاء منها؟ علينا أيضا أن نختار من سيقوم بعمليّة الإصلاح، لأنّ إسناد الأمر إلى غير أهله مفسدة للأمر نفسه ولايؤدّي إلاّ إلى الفشل الذّريع. ولا يكفي أن يكون اختيارنا للقائمين على عمليّة الإصلاح صائبا، بل علينا أن نوفّر لمن اخترناه الوسائل اللاّزمة والضّروريّة لكي ينجح في مهامه.
2 - الانطلاق في العمليّة الإصلاحيّة: 
بعد الانتهاء من دراسة الجدوى، ويستقرّ اختيارنا على نوعيّة الشّجرة المثمرة التي تتماشى مع أرضنا ومناخنا، وبعد أن نحدّد مكان غراستها (نحرص على اختيار مكانٍ مناسبٍ يتسع للشّجرة عندما تكبر)، ونختار غارسها، نجهز حفرةً تناسب الشّجرة، ثمّ نضع بعض السّماد للتّربة لزيادة خصوبتها، نضع الشّتلة ونردم الجذور بالتّراب. ومنذ ذلك الحين علينا أن نحرس الشّجرة خلال مراحل نموّها، فنسقيها باستمرار حسب نظام دقيق يتماشى مع نوعيّة الشّجرة وطبيعة الهطولات، كما نحرص على إزالة الحشائش الطفيليّة الضّارة من حولها، ونقوم بتقليمها في الموعد المحدّد وسقايتها إن كانت محتاجةً إلى ذلك.
كذلك الإصلاح الثّقافي، فبعد أن نحدّد الثّقافة التي نريد والتي تتماشى مع طبيعة المجتمع ومكوّناته، ونختار الفريق الذي سيقوم بعمليّة الإصلاح ننطلق في العمل الميداني حسب خطّة واضحة المعالم يقوم بتنفيذها ثلاثة فرق مختلفة كلّ ومهامه، تتمثّل مهام الفريق الأول في تهيئة الأرضيّة الاجتماعيّة بالعمل من خلال محاور عديدة لقبول الأفكار والثّقافة البديلة ومقاومة الثّقافة السّائدة وتجفيف منابعها، أمّا الفريق الثّاني فيتكفّل بمراقبة ما يقوم به الفريق الأول ونقده، فيما يتكفّل الفريق الثّالث بالمراجعة بناء على تقارير وبحوث الفريق الثّاني، فيتمّ التخلّي عن الأفكار والأساليب التي تبيّن فشلها واقتراح بدائل جديدة لضمان نجاح العمليّة الإصلاحيّة. وإذا كانت مهمّة الفريق الأول تتغيّر بتغيّر المرحلة، فإنّ مهمّة الفريقين الآخرين تبقى قائمة الذّات حتّى بعد انتهاء مراحل الإصلاح، لأنّ توقف نشاط الفريقين الثّاني والثّالث سيؤدّي حتما إلى نوع من الرّكود والتّكلّس وبالتالي الحكم على العمليّة الإصلاحيّة برمّتها بالفشل. ولكن، ماهي طبيعة هذه الفرق الثّلاثة وما هي مكوّناتها؟ الجواب على هذا السّؤال نؤجّله إلى الحلقة القادمة إن شاء اللّه.
3 - المحافظة على المكتسبات وتدعيمها:
فكما يتغيّر برنامج الفلاّح في تعامله مع الشّجرة أثناء نموّها أو عندما تثمر نتيجة تغيّر الأوضاع المحيطة بالشّجرة، فيحميها باستمرار من الأعشاب الطفيليّة المضرّة، ويزيد في السّقي أو يقلّصه حسب احتباس الأمطار أو هطولها، ويستعمل الأدوية المناسبة لمقاومة الأمراض المختلفة التي تصيب الشّجرة. وهو لا يجمع الثّمار إلاّ في موعدها وبطريقة لا تضرّ بأغصان الشّجرة ثمّ يقوم بتقليمها بالشكل المناسب وفي الموعد المحدّد لعمليّة التّقليم، وهكذا لا يتوقّف عمل الفلاح في تعامله مع الشّجرة،  فهو في نشاط مستمرّ يتنوّع حسب احتياجات الشجرة.  كذلك القائمون على عمليّة الإصلاح، هم في نشاط مستمر، يتغيّر ويتنوّع حسب المرحلة وحسب تغيّر ظروف المجتمع. فكلّما تقدّمت العمليّة الإصلاحيّة كلّما ازداد حجم العمل وتغيّر.  الهدف الأساسي من ذلك المحافظة على المكتسبات وتدعيمها من جهة، وصدّ التّأثيرات السّلبيّة للقوى الرّافضة للإصلاح التي لن تقف مكتوفة الأيدي، بل ستزيد في ضغطها وتنوّع في أساليبها على أمل إفشال العمليّة الإصلاحيّة من جهة أخرى. 
هكذا تكون العمليّة الإصلاحيّة عمليّة ديناميكيّة متواصلة ضمن محاور عديدة، تتجدّد باستمرار وتأخذ بعين الاعتبار التغيّرات التي تطرأ على العناصر المؤثّرة في ثقافة المجتمع سواء كانت داخليّة أو خارجيّة. فما هي هذه المحاور التي يعمل عليها القائمون على عمليّة الإصلاح الثّقافي؟ 
محاور هذا الإصلاح عديدة، لكنّ أهمّها سبعة تبنى من خلالها أسس العمليّة الإصلاحيّة، ولا يمكن بحال من الأحوال تغييب أحدها، حتّى نضمن بناء ثقافيّا صلبا وناجحا قادرا على تغيير المجتمع ودفعه نحو التقدّم والازدهار، وهذه المحاور هي:
1 - الحرّية:
إنّ من يراجع تاريخ نهضة الأمم والشّعوب يكتشف أنّ وراءها إيمانًا بفكرةٍ ورغبةً في تحقيقها. هذا الإيمان وهذه الرّغبة لا يجتمعان إلاّ في إنسان متشبّع بالحريّة. فالحرّية هي القاسم المشترك بين كلّ الأمم التي تمكّنت من بناء نهضتها، لأنّ الحرّية على المستوى الفردي والجماعي هي أساس قويّ وحيويّ للعمل والإبداع، فالقدرة على العطاء تتناسب طرديّا مع وعيّ الإنسان وشعوره بحرّيته، فكلّما كان الإنسان حرّا كانت قدرته على التّفكير في التّغيير ومن ثمّ الإبداع والابتكار والرّغبة في تحسين العمل والأخذ بزمام المبادرة أكبر. قد لا تكون الحرّية وحدها أداة النّهوض، ولكنّها بالتّأكيد أحد دعائمه المركزيّة، فهي متطلّب أساسيّ وحيويّ للنّهوض الإنساني والاجتماعي، ومن ثمّ التّقدم في مختلف مجالات الحياة. لهذا لابدّ من العمل على تكريس مبدإ الحرّية والدّفاع عنه. والوعي بالحرّية لا يجري في عالم الفكر المجرّد، بل في عالم التّجربة الاجتماعيّة الحيّة ولأنّ الحرّية في النّهاية أمر يكتسبه الإنسان ليس كفرد فحسب وإنما كجماعة أيضاً متفاعلاً مع سائر أبنية المجتمع، فالإنسان بطبعه لا يعيش منفردا وإنّما ضمن جماعة ما، وكما أنّ له حقوقا وواجبات فهي متّصلة بتفاعل مستمر مع حقوق وواجبات غيره من النّاس. ولا يكون الإنسان حرّا بالفعل، إلاّ حينما يكون جميع النّاس المحيطين به، أحرارا أيضا.
2 - الأخلاق:
الأخلاق هي قوام المجتمعات، والأمم بأخلاقها فإن ذهبت أخلاقهم ذهبوا على رأي أمير الشعراء أحمد شوقي، فليس هناك أي معنى لحياة جماعيّة دون وجود أخلاقيّات وضوابط تتعامل بها مكونات المجتمع أفرادا وجماعات، وبالتالي فإنّ المجتمع الذي يعيش أزمة أخلاق هو مجتمع منهار أو في طريق الانهيار. فإذا فرّط مجتمع ما في منظومته الأخلاقيّة، فسيصبح لافرق بينه وبين الحيوانات والبهائم، فالأخلاق ليست عنصرا تكميليّا للإنسان بل ضرورة له، فلا إنسان بلا أخلاق.
الأخلاق الحقيقية تطبع الإنسان بطابع قيمي فعال يبعد عنه الحيوانيّة التي تضغط عليه باستمرار بفعل غرائزيته وشهوانيته، فكلما كانت منظومته الأخلاقيّة متماسكة توافق بين واقعه الظّاهر والباطن كلّما أصبح أكثر تحصينا بها أمام ما يواجهه في الواقع المعيش. والعمل في محور الأخلاق من طرف المصلحين يجب أن لا يكون على المستوى النّظري فحسب بل لا بد من تحويل تلك الأخلاق إلى ممارسات ميدانيّة وفعليّة، ليتمّ إثبات جودتها وصمودها، وبالتّالي التمسّك بها. وهنا نستحضر قوله ﷺ :«إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ صَالِحَ الْأَخْلَاقِ»(1) وقوله: «اتق اللّه حيثما كنت، وأتبع السّيئة الحسنة تمحها، وخالق النّاس بخلق حسن» (2) 
3 - قيم العمل والاجتهاد: 
غياب ثقافة العمل جزء من إرث ثقافي كان سببا في تخلّفنا. وعلاقتنا بالعمل أصبحت ملتبسة ومهتزّة ورخوة وفضفاضة وحاملة لخميرة التّوتر والتّواكل وضعف الإنتاجيّة، نتيجة إرث ثقافي ونفسي واجتماعي مضادّ لثقافة العمل، يمجّد قيم التّواكل والقدريّة والصّدفة على حساب قيمة العمل التي تعتبر في الأصل مؤشّرا من مؤشّرات تقدّم الشّعوب وتنميتها. فلا تتقدّم الشّعوب إلاّ بالعمل، ولاتبنى الحضارات إلاّ بالعمل، ولا تُكسَبُ الرّهانات إلاّ بالعمل، ولا تصان الكرامة الفردية والجماعية إلاّ بالعمل.لهذا فإنّ من أهم محاور الإصلاح نشر ثقافة العمل وتجذيرها ومقاومة التواكل والاعتماد على الغير. 
4 - المواطنة والمساواة:
لا يستطيع الإنسان أن يكون فاعلا إلاّ إذا شعر بانتمائه إلى المجتمع الذي يعيش فيه وهو ما يجعل محور الدفاع عن قيم المواطنة والمساواة بين مكوّنات المجتمع إحدى الأولويّات التي بدونها لا يمكن تأسيس مجتمع صالح ومتكامل، والمجتمع المتوازن هو المجتمع الذي يكون فيه كل المواطنين متساويين أمام القانون وهو الذي يشعر فيه المواطن بأنّ له حقوقا كفلها له دستور وقوانين لا يمكن لأيّة سلطة أن تتجاوزها أو تعتدي عليها‏.‏ وإن حدث ذلك فإنّ هناك آليّات -حدّدها القانون أيضا- تكفل له الحصول على حقّه‏.‏ وتكريس مبدأ المواطنة يحصل حين ينجح القائمون على الإصلاح في نقل مكوّنات المجتمع من ثقافة‏ «الشّكوى»‏ إلى ثقافة‏ «العمل الإيجابي‏»‏ ومن ثقافة الرّاعي والرّعيّة إلى ثقافة المسؤول المكلّف والمواطن  المراقب.‏
5 - العدل الاجتماعي ومحاربة الفساد:
ترتبط قيمة العدل الاجتماعي ومحاربة الفساد بمفهوم المواطنة والمساواة، فالعدل هو أساس استقرار المجتمعات وهو الذي يصون تماسكها ووحدتها وتضامنها‏.‏ وكذلك، فإنّ محاربة كلّ أشكال الفساد والانحراف ينبغي أن تكون قيمة ماثلة في وعي المواطنين بحيث لا يتمّ التّعايش مع الفساد أو قبوله والتّعود عليه‏.‏ فالفساد في جوهره إنكار لحقوق المواطنة والمساواة والعدل الاجتماعي‏.‏
ويكاد يكون الفساد والإفساد في عالمنا العربيّ أسلوب حياة وثقافة وحالة ذهنيّة لدى طوائف عديدة من النّاس باختلاف درجات وعيهم وموقعهم في المجتمع، فجميع القطاعات تقريبا قد أصابها هذا الدّاء واستفحل فيها إلى درجة الاقتناع باستحالة مقاومته أوالقضاء عليه، بل ذهب البعض إلى تبريره وتسويقه عبر شرعيّة غيَّرت من مفاهيمه أوعبر الإفتاء (ليس بالمفهوم الدّيني طبعا) بضرورة التأقلم معه وبالتّالي الانخراط فيه بطريقة ما. 
6 - التنوّع والاختلاف وقبول الآخر
إنّ الاختلاف والتّنوع والتّعدّد في الفكر والثّقافة، هو الدّافع الأساسي للتّنافس والتّدافع والاستباق بين الناّس. والشّعوب والثّقافات التي تؤمن بالتّعدّد والتّنوّع وتضمن التّعايش بين مكوناتها الفكريّة والعرقيّة واللّغويّة، وتتفاعل إيجابيّا مع الثّقافات الأخرى وتقتبس منها، تكون أكثر حيويّة وإنتاجا وتطوّرا، ويمكنها أن تكتسب مكانة متميّزة في العالم. أمّا المجتمعات التي تختار الانغلاق، فلا تقبل بالتّنوع والاختلاف كمحرّك للحياة فيها، فهي تفوّت على نفسها فرصة التّطور والنّماء وتحكم على نفسها بالفناء، حتّى وإن كانت تمتلك من الثّروات ما لا يحصى ولا يعدّ.
علينا جميعا أن نخلع رداء التعصّب والكراهيّة ورفض الآخر، ونرتدي لباس التّسامح والحوار، ونؤمن بأهمّية التّنوّع والحوار، ونسعى إلى تكريس التّعدديّة وحمايتها عبر آليّات قانونيّة وتشريعيّة، حتّى تصبح نهجا ثقافيّا ومجتمعيّا وسلوكيّا، يتبنّاه النّاس بمختلف مشاربهم واتجاهاتهم وانتماءاتهم. عندها فقط نضمن نجاح العمليّة الإصلاحيّة الثقافيّة ومن ورائها إصلاح بقيّة القطاعات. 
7 - ثقافة العلم والتفكير العلمي: 
إنّ انعدام التّفكير العلمي لدى الشّعوب هو أهمّ أسباب تخلّفها، وهو المتسبب في الكثير من المآسي والنّزاعات والشّقاء. لأنّ غياب التّفكير العلمي يفسح المجال واسعا لانتشار الشّعوذة والخرافات والشعبويّة والأفكار المضلّلة، لذا وجب التّأكيد على العمل على محور بثّ ثقافة العلم والتّفكير العلمي بين النّخب وعموم النّاس من الصّغار  إلى الكبار، كلّ حسب امكانياته وقدراته الذّهنيّة. وبهذه الطريقة نضمن نجاح العمليّة الإصلاحيّة لأنّ نسبة نجاحها في مجتمع يحكمه الجهل وتسيطر الخرافات على عقول مكوّناته ضئيلة جدّا بل مستحيلة.
الهوامش
(1) رواه أحمد عن أبي هريرة
(2) رواه الترمذي (1987)، وأحمد (5/153) عن أبي ذر الغفاري