أهل الاختصاص

بقلم
أ.د.فوزي أحمد عبد السلام
تطوّر نظريّات الحركة (10) الجاذبية كمنجنيق: إستخدام جاذبية الكواكب لتسهيل التنقل في المنظومة الشمسي
 الأسفار الطويلة
السّفر قطعة من العذاب لكن، وعلى الجانب الآخر سافر تتعلّم الكثير والكثير. مشكلة السّفر الأساسيّة هي التّزوّد بالوقود اللاّزم لاتمام الرّحلة، والوقود هنا كلمة حقيقيّة ومجازيّة، إذ تعبّر عن كلّ ما تحتاجه الرّحلة  من إعدادات وحسابات وظروف ملائمة للاستفادة من كلّ ذرّة من الممكن أن يستفاد منها خصوصا إذا كانت الرّحلة تتميّز بالطّول المفرط. فإذا أردنا التّنقّل بين الأجرام السّماوية فسنحتاج لكميّات هائلة بل ومرعبة من الوقود التّقليدي، لأنّ المسافات بين تلك الأجرام كبيرة جدّا، وبالتّالي كان لزاما التّفكير بشكل مختلف. لتقريب الموضوع للأذهان قليلا، نذكّر بأنّ المسافة بين القمر والأرض تبلغ 384400 كلم، وتحديد  مدّة الرحلة بينهما يعتمد حتما على معرفة وسيلة السّفر، وهل ستكون مأهولة بالبشر أم لا، إذ تستغرق الرّحلات التي تحتوي على أشخاص وقتًا أطول من الرّحلات الخالية من الرّكاب، بالإضافة إلى طبيعة الرّحلة سواء كانت تشمل النّزول على سطح القمر أو فقط المرور به. فعلى سبيل المثال، استغرقت رحلة (أبولو 11) عام 1969م نحو 51 ساعة و49 دقيقة، في المقابل، استغرقت رحلة (نيو هورايزونز بلوتو) التّابعة لوكالة ناسا عام 2015م نحو 8 ساعات و35 دقيقة قبل إكمال رحلتها إلى كوكب بلوتو، أمّا مهمّة أبولو 11 التي نقلت الإنسان إلى القمر لأوّل مرّة، فقد وصلت إلى القمر بعد 100 ساعة، وعلى الرّغم من أن المسافة بين الأرض والقمر تبدو كبيرة إلاّ أنّها تتضاءل بالمقارنة بالمسافات بين الكواكب داخل المجموعة الشّمسيّة حيث نعلم مثلا أنّ نصف قطر المجموعة الشّمسيّة يبلغ حوالي 4495.1 مليون كيلومتر وهي تمثل المسافة بين كوكب نبتون والشّمس، أي أنّنا إذا أردنا أن نقوم بسياحة من أقصى يمين المجموعة الشّمسيّة إلى أقصى يسارها، فسنكون بحاجة إلى قطع مسافة 9 مليار كيلومترا، أو بلغة أخرى فإنّ رحلة بوسيلة مثل «أبولو 11» بحسابات ذلك الزّمن غير البعيد، فإنّنا نحتاج إلى 2.3388 مليون ساعة حتّى تتمّ هذه السّياحة. أما بحسابات «نيو هورايزونز بلوتو» عام 2015م فإنّنا نحتاج إلى 200 ألف ساعة فقط، أي ما يقرب من 22 سنة. وقد تم ذلك بالفعل عن طريق فوايجر 1 و2 حيث استغرقت الرّحلة عشرات السّنوات من نهاية السّبعينات وحتّى الآن، كل ذلك فقط لتصل لأطراف المجموعة الشّمسيّة، ولكن كيف استطاع الإنسان إرسال مركبات وصلت إلى أطراف المجموعة وأخرى تجوّلت في حزام «كايبر» وعند «نبتون» و«زحل» وغيرها؟. ومن أين أتى الإنسان بالوقود لمحرّكات المركبة الفضائيّة التي تحتاج لكميّات ضخمة من الوقود بالرغم من أنّها لا تعمل أثناء الطّريق باستمرار كمحرّك السّيارة وإنّما تعمل فقط لكى تصحّح المسار أو أثناء توجيه المركبة؟.  وماذا عن حجم المركبة الذي يجب أن يكون خزّانها ضخما جدّا لكى يستوعب هذا الكمّ الهائل من الوقود؟.
تغلّب الإنسان على هذه المشكلة بعلمه، وقام بالوصول الى تلك الأجرام بدون حرق المزيد من الوقود، وبأقلّ التّكاليف. تغلّب الإنسان على هذه الصعاب بفكرة عملاقة وبسيطة في آن وهي الاستفادة من مخزون الطّاقة «أعني طاقة الوضع النّاتج عن جاذبيّة تلك الكتل العملاقة» الرّهيب الكامن في الأجرام السّماويّة، أي الاستفادة من جاذبيّة تلك الأجرام. أقرب مصطلح هو استخدام الكواكب المتوفّرة في طريق الرّحلة كمنجنيق أو كمقلاع للمركبة الفضائيّة.
 تقنية مقلاع (منجنيق) الجاذبيّة  (الجاذبيّة المساعدة)
عندما تقترب المركبة الفضائيّة من كوكب ما وتدور معه وتتّخذ لها مدارا حوله، وبعد أن تكتسب سرعة ذلك الكوكب، تنطلق لوجهتها. لنوضّح ذلك بالمثال التالي: إذا أردنا إرسال مركبة لكوكب عطارد، وافترضنا أنّها انطلقت من الأرض بسرعة 60 ألف كم/س، وعندما تصل المركبة إلى كوكب الزهرة الذي يوجد بين الأرض وعطارد، تتّخذ مدارا حوله، فتزداد سرعتها، وبعد أن تحصل على الدّفع تغادر مدار الزّهرة لتشقّ طريقها بنفس السّرعة التى اكتسبتها من الزّهرة بدون أن يوقفها أو يقلّل  من سرعتها شىء ما لم تؤثّر عليها قوّة أخرى كجاذبيّة جرم آخر مثلا. وهكذا لا تستغل محركاتها الوقود إلاّ لتصحيح الاتجاه واتخاذ مدار، وإذا وصلت المركبة إلى عطارد (الكوكب المراد الوصول اليه)، تستخدم جاذبيّته لتقليل سرعتها، ثمّ تتّخذ مدارا حوله حتّى تصير بنفس سرعة الكوكب، وعن طريق تغيير المدار أو الاقتراب والابتعاد عن الكوكب تستطيع الهبوط عليه. يمكن استخدام الجاذبيّة المساعدة لإبطاء المركبة الفضائيّة، كنتيجة لعكس المدار. قام بهذه المناورة كلّ من «مارينر 10» و«ميسنجر» للوصول إلى عطارد.
شبكة النّقل بين الكواكب  Interplanetary Transport Network
من المقالات السّابقة- وتحديدا في الحلقة السّابعة من هذه السّلسلة- عرفنا أنّ العلماء تمكّنوا من تحديد مواقع هامّة جدّا في الأنظمة الدّيناميكيّة تنعدم فيها محصلة قوى الجاذبيّة والطّرد المركزي النّاشئ عن دوران الأجسام فيما يسمّى بنقاط الاتّزان أو نقاط «لاجرانج» والتّسمية ذاتها تحتوي أيضا نقاط «أويلر»، وقد اكتشف أنّ هناك مسارات جاذبيّة مفضّلة خلال النّظام الشّمسي، حيث يمكن للأجسام السّماويّة والمركبات الفضائيّة على حدّ سواء استخدامها للتّنقّل من نقطة إلى أخرى باستعمال القليل من الطّاقة. تستخدم شبكة النّقل بين الكواكب نقاط «لاجرانج» بشكل خاصّ كمواقع لإعادة توجيه المسارات عبر الفضاء باستخدام طاقة قليلة أو معدومة تقريبا. تمتلك هذه النّقاط خاصّية فريدة تسمح للأجسام بالدّوران حولها، بالرّغم من عدم وجود جسم مركزي. في الوقت الذي يتمّ فيه استخدام القليل من الطّاقة، يمكن لهذه الرّحلات الاستمرار لفترة طويلة جدّا. يقول «شين روس» في هذا الشّأن: «بسبب الوقت الطّويل اللاّزم لتحقيق تنقّل منخفض الطّاقة بين الكواكب، تبقى الطّرق السّريعة بين الكواكب غير عمليّة حاليّا للتّنقلات بين الكواكب (من الأرض إلى المريخ على سبيل المثال)». 
كان أوّل من درس  هذه الشّبكة «هنري بوانكاريه» خلال الثّمانينات من القرن الماضي. حيث لاحظ أنّ الطّرق المؤدّية إلى أيّ من هذه النّقاط تؤدّي دائما إلى إنشاء مدار حول هذه النّقاط. هناك في الواقع عدد لا نهائي من المسارات المؤدّية أو التّي تبدأ من هذه النّقطة، لا تتطلّب كلّها أي تغيير في الطّاقة لتحقيق ذلك. بمجرد مرورها تشكّل هذه الطّرق أنبوبا مع المدار حول نقطة «لاجرانج» في نهاية واحدة. 
يعود أصل تحديد هذه المسارات إلى الرّياضيين «تشارلز كاميرون كونلي» و«ريتشارد ماكغيهي» في سنة 1968.(1)
وفي سنة 1994  نشر «إدوارد بلبرونو»(2) تحليلا يحتوي على نظرة ثاقبة عن طبيعة شبكة النّقل بين الكواكب وبين الأرض والقمر، وكان أوّل من ترجم هذه النّظرة بشكل عملي هو «مسبار هايتن» أول مسبار قمري ياباني في انتقاله إلى مدار القمر 
حدود الاستقرار الضّعيفة
تتميّز معظم هذه المدارات المتناهية في الصّغر حول نقاط الاتزان بعدم استقرارها، ممّا يعني أنّ أحدهما سينتهي في نهاية المطاف إلى أحد المسارات المتوجّهة إلى الخارج دون إنفاق أيّ طاقة على الإطلاق. وفي هذا الصدد قام «إدوارد بلبرونو» بصياغة مصطلح يصف هذا التّأثير تحت مسمّى «حدود الاستقرار الضّعيفة» أو «الحدود الغامضة». لكن ومع بعض الحسابات الدّقيقة يمكن تحديد أيّ من تلك المسارات المنتهية سيتم اختيارها. وهذا مفيد لأنّ العديد من هذه المسارات تؤدّي إلى أماكن من الفضاء مثيرة للاهتمام كالقمر أو أقمار جاليليو التّابعة لكوكب المشتري(3) . وهكذا، بالنّظر إلى تكلفة الطّاقة المنخفضة نسبيّا للسّفر إلى نقطة لاجرانج L2، من الممكن الوصول إلى العديد من الأماكن الأخرى مع القليل من الطّاقة الإضافيّة.
تتطلّب عمليّات التّنقّل عبر هذه الشّبكة القليل من الطّاقة، ما يجعل من الممكن السّفر إلى أيّ مكان في النّظام الشّمسي. لكن عمليّة التّنقل هذه تبقى  بطيئة جدّا ومفيدة فقط للمسابير الآليّة. استخدمت شبكة النّقل بين الكواكب بالفعل لنقل المركبات الفضائيّة إلى نقطة لاجرانج L1، وهي نقطة مفيدة لدراسة الشّمس استخدمت أخيرا في عدّة بعثات بما فيها بعثة «جينيسيس»، التي تعرف على أنّها أول بعثة تجلب عيّنات من الرّياح الشّمسيّة إلى الأرض(4).
الهوامش
y(1) C.C.Conley, «Low energy transit orbits in the restricted three-body problem», SIAM Journal on Applied Mathematics, vol. 16, 1968, pp. 732–746
E(2) E.Belbruno (1994). «The Dynamical Mechanism of Ballistic Lunar Capture Transfers in the Four-Body Problem from the Perspective of Invariant Manifolds and Hill›s Regions»
S(3) S.D. Ross, W. S. Koon, M. W. Lo et J. E.  «Design of a Multi-Moon Orbiter», 13th AAS/AIAA Space Flight Mechanics Meeting,  AAS 03–143, 2003 
M(4) M.W. Lo, et al., «Genesis Mission Design», The Journal of the Astronautical Sciences, vol. 49, 2001, pp.  169–184