تمتمات

بقلم
رفيق الشاهد
الأصل ثابت أو متحوّل ؟ (3/3)
 بعد البداية وقبل الخاتمة
أخذا بخاطرك أيها القارئ المحترم، وليس خوفا من ضميرك داخلي الذي أنّبني في السّابق، آتي في هذا الجزء الأخير لأرفع الالتباس وأبيّن ما بقي مبهما وسط الضّباب. وما عليك إلاّ اتباع خيط أريان للخروج من المتاهة التي وجدت نفسك فيها، والتي في الحقيقة لم أتفطن إلى تعقيداتها حيث كلّ الأبواب تفتح على بعضها، وكلما أغلقت أحدها أجدني لا يمكنني الخروج إلاّ من باب آخر وجب فتحه.
لم تتحقّق المساواة لا بين الأفراد ولا بين الشّعوب، ولن تتحقّق في ظلّ حقوق الإنسان الحاليّة. والمعركة كانت وما تزال غير متكافئة. والذّكاء الاصطناعي سيزيد من تعميق الهوّة بين المستخدم لآليّاته وأنظمته الخوارزميّة والرّافضين له لاعتبارات ايديولوجيّة وثقافيّة.  
وتحذّرنا منظومات الإنذار المبكّر، التي أصبحت من مقومات أنظمة السّلامة المعتمدة في جميع المجالات العلميّة والتّقنيّة والخدمات، أنّه في القريب العاجل ستتغير المقاييس وتنشأ طبقات مستحدثة تميّز المتغيّر والمتحرّك على حساب الثّابت والمتزمّت. 
منظومات الإنذار المبكّر 
إذا كان الذّكاء الاصطناعي في مفهومه المتداول والمتمثّل في استعانة الإنسان بكلّ ما توفّر من أدوات وآليّات ومعلومات يتمّ استغلالها بغرض تقوية القدرة الوظيفيّة لأعضاء الجسم ظاهرة قديمة لتطوّر حياة الإنسان، فإنّ المصطلح حديث لم يبرز إلّا بتطوّر الحواسيب والبرمجيّات الذي شهد خلال السّنوات الأخيرة نسقا تصاعديّا رهيبا. ولئن أصبح هذا التّطور المذهل يخيف البشر ويهدّد وجودهم، فهو من جهة أخرى عنوان آخر يبرز قدرة اللّه ويكشف للإنسان إبداعا جديدا من إبداعاته. وإضافة إلى ما تمّ تأكيده أنّه كلّما تقدّم الزّمن وتطوّر الفكر الإنساني أضاء الماضي وكشف أسرار التّاريخ الغابر عبر توفّر أدوات الفهم، فإنّ الذّكاء الاصطناعي أصبح ينير مستقبل البشريّة أيضا بما توفّره النّماذج العدديّة من معطيات ومؤشّرات يستشعر بها المخاطر ويعدّل بها التّوازن البيئي المختل وتوازنات أخرى اقتصاديّة واجتماعيّة قد لا تأخذ في الاعتبار من لا يسايرها ويقف ضدّها. ولعلّ من فضائل الذّكاء الاصطناعي أنّه يؤمّن للبشريّة الحماية الذّاتية من مخاطره خاصّة. ومن خصاله أيضا أنّه يستبق في أخذ القرار ممّا يساهم في تطوير منظومات الإنذار المبكّر التي أصبحت أكثر مصداقيّة وجدوى وفاعليّة حيث تتوجّه مباشرة إلى أصل الدّاء، فتجعله العدوّ الأول الذي يهدّد السّلم والأمن وتقاومه بعنوان «الإرهاب الدولي»
السّؤال المركزي
أعود إلى سؤال ذلك الضّمير المؤنّث الذي حول علاقة الوجود والموجود بمسألة الذّكاء الاصطناعي، وهو سؤال مركزيّ محيّر يفتح على عدّة أسئلة لا تقلّ أهمّية لفهم تعقيدات الفكر الإنساني ومآلاتها.
تعيش المجتمعات على وقع تطوّر نسق البحث العلمي والانفجار التّكنولوجي الذي لم تتمكّن المنظّمات الدّوليّة من استيعابه والتّحكّم فيه لغياب الآليّات التّنظيميّة التي لم تتطوّر بنفس النّسق. تسبّب هذا التّفاوت الكبير بين نسق التّطوّر العلمي والتّكنولوجي من جهة ونسق تطوّر النّصوص التّنظيميّة (التّشريعيّة) في هوّة عميقة بين تشريعات الدّول الضعيفة وتلك المتقدّمة الماسكة بمكوّنات القوّة، والتي أصبحت لا تحمي سلامة مواطنيها فقط كما تدّعي ذلك وإنّما تمسك بآليّات التّحكّم في مصير الدّول الأخرى الضّعيفة. كما تسبّب هذا التّفاوت بين نسقي التّطوّر في تعميق الهوّة بين ثقافة الإنسان وثقافة الحكّام. ومن مظاهر هذا الاختلال الهجرة غير المنظّمة التي في الحقيقة لا تهدّد أمن أوروبا وإنّما تهدّد أمن الدّول المصدّرة لدمائها المتدفّقة من الجنوب نحو الشّمال.
رجعت أبحث عن معنى للحرقة، هذه اللّفظة الجديدة المعتمدة في حوض المتوسّط للإشارة إلى الهجرة غير الشّرعيّة، والتي أصبحت ظاهرة اجتماعيّة تلخّص الأزمات الاقتصاديّة والسّياسيّة ببلدان الضّفة الجنوبيّة، فلم أجد في جميع التّدوينات لماذا سمّي هذا النّوع من الهجرة بهذا الإسم، ولم أجد من يدين «الحرقة» ولا «الحرّاقة». بل ما وجدت إلّا تعاطفا ومساندة من كلّ الأطراف والمهتمّين بالشّأن العام.
«الحرقة» هجرة الفرصة الأخيرة التي من شروطها حرق كلّ الأوراق وخاصّة الهويّة والانتماء. لم أجد علاقة بين الهجرة والحرقة وما تحمله من حُرقة إلاّ أن يحرق الحارق أوراقه على غرار حرق طارق ابن زياد مراكبه. وهل يستقيم التّشبيه؟ 
ولمّا بحثت عن السّبب الحقيقي الذي يدفع بفلذات أكبادنا ليكونوا أكسير القروش وأشباهها، لم أجد إلاّ سببا واحدا وهو قناعة جماعيّة لدى الشّباب بقيم جديدة تسرّبت إليهم عن قصد من فئة سياسيّة فاقدة للوعي، وعن غير قصد من أولياء أرادوا الخير لأولادهم، فدفعوا بهم إلى التّهلكة.
نعم! منذ الخامسة من عمره يتلقّى الطّفل الصّغير، الذي بدأ يتلمّس الأشياء، عبارتين دون سواهما دمّرتا كلّ القيم وضربت بكلّ مقومات الأخلاق. في نفس الوقت يستمع الطّفل إلى من حوله من العائلة وبتكرار في كلّ المناسبات السّعيدة والمؤلمة على السّواء. «فلان ما شاء اللّه عليه يدبّر في رأسه، فكوّن ثروة فيلا وسيارة. هكذا الرّجال أو بلاش».  وفي المقابل يستمع في نفس السّياق : «فلان أكمل دراسته وتحصّل على شهادته الجامعيّة وهو عاطل، المسكين منذ سنوات يأخذ مصروفه من أبيه». تعلّم الطفل أن يكون رجلا من خلال هذه الشهادة لا غير. فاختار الحرقة بمفهومها الشّامل فكرا وفعلا. تغلغلت الفكرة في وعيه الشّخصي وفي الوعي الجماعي فكانت المصيبة.
باعتبار أنّه لا يمكن إدراك الشّيء الموجود خارج فضاء وجوده ولا يكون إلاّ داخله، فإنّه يتوجّب علينا أوّلا فهم وإدراك أبعاد الذّكاء الاصطناعي ليكون له وجود ويكون موجودا فيه.  أي وجب علينا الاعتراف بالذّكاء الاصطناعي في وعينا الجماعي حتّى لا يكون التّعامل معه بصفة فرديّة بل في إطار خطّة مجتمعيّة ولما لا دوليّة تحت إشراف الأمم المتّحدة لتصلح مواثيقها ومبادئها الأساسيّة، تأخذ في الاعتبار التّوازنات الجديدة والمستحدثة، وتبني حقوق الإنسان الجديد المتطوّر بذواته المتعدّدة.  
أسمحوا لي الخروج من هذا الباب قبل أن تستفيق ضمير القارئ ـ باعتباره مؤنث كما سبق ـ التي بداخلي، فتلحق بي وترجعني إلى نقطة البداية.