حكم وأحكام

بقلم
الهادي بريك
الحلقة التاسعة : طاعة وليّ الأمر بين الحقّ والتّلبيس
 أصل الطّاعة
أصلها قرآنيّ صريح. وهو قوله سبحانه:﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ﴾(1). وجاء هذا بعد تحديد رسالة الأمّة. إذ قال قبل آية الطّاعة مباشرة سبحانه (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ﴾(2).  هما آيتان لا يمكن فصلهما عن بعضهما بعضا. إذ هما يحدّدان هويّة الأمّة الإسلاميّة رسالة (وهي أداء الأمانات إلى أهلها، أي الحكم بالعدل بين النّاس. وقد كتب في ذلك إبن تيمية كتابا كاملا وتبعه تلميذه إبن القيّم مبيّنا أنّ الأمانة هي قيام الأمّة الإسلاميّة على رسالة الحكم بالعدل بين النّاس، بما يستلزم ذلك من قوّة وعلم ومعرفة وقسط وخيرية ووسطية وصفّ واحد وتحرّر وتنوّع). كما تحدّد الآية التّالية لها منهاج تحقيق تلك الرّسالة، وهو منهاج يقوم على بناء سلطان واحد يكون منبثقا منّا وليس من غيرنا بأيّ وسيلة ﴿وأولي الأمر منكم﴾، وأن يكون ذلك السّلطان ملزما بالسّعي لتنزيل رسالة الأمّة (الحكم بالعدل بين النّاس) وملزما بتحرّي أسباب ذلك. فإذا تمّ ذلك فإنّ طاعته لازمة، ولكنّها مقيّدة ومشروطة بطاعة اللّه أوّلا (وهي طاعة كتابه الكريم) وبطاعة رسوله محمّد ﷺ ثانيا، وهي طاعة سنّته قولا وعملا وإقرارا. هما أصرح الآيات الدّستورية الواردة في القرآن الكريم. إذ هما تحدّدان : رسالة الأمّة هوية ومنهاج تنزيل تلك الرّسالة.
الأصل الثّاني لتلك الطّاعة
قال ﷺ «من أطاعني فقد أطاع اللّه. ومن عصاني فقد عصى اللّه. ومن يطع أميري فقد أطاعني. ومن يعص أميري فقد عصاني»(3). هذا يعني أنّ طاعة أيّ وليّ أمر في الأمّة الإسلاميّة إنّما هي طاعة للرّسول ﷺ أوّلا. وهي طاعة للّه ثانيا. وأنّ المطاع هنا هو أمير لرسول اللّه ﷺ. وهل يؤمّر ﷺ من ليس هو أهل لذلك قوّة أو أمانة؟ الأصل الثأني (السنّة) مهمّ، ولكنّه محكوم بالقرآن الكريم. ولا يمكن إستنباط حكم باتّ منه إلاّ من بعد إستقراء جامع بسبب تعارض النّصوص هنا. لأنّه كان ﷺ ـ في بعض الأحيان ـ يعالج مشكلة محليّة محدودة. وليس يشرّع حكما. هناك أصل ثالث وهو إستقراء الخلافة الرّاشدة الأولى وكيف نزّلوا العلاقة بين المطاع والمطيع.
مساحة الطّاعة وحدودها
قال سبحانه مقيّدا حتّى طاعة رسوله ﷺ بالمعروف ﴿وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ﴾(4).  هل يأمر ﷺ بغير المعروف؟ المقصد هو أنّه ليس لأيّ وليّ أمر من بعده أن يطاع في غير معروف. أمّا الأحاديث الصّحيحة الصّريحة في حدود تلك الطّاعة فهي بالعشرات. ومنها قوله ﷺ : «السّمع والطّاعة على المرء المسلم فيما أحبّ وكره ما لم يؤمر بالمعصية. فإن أمر بالمعصية فلا سمع ولا طاعة» (5). بل ورد في حديث آخر:«أنّ أميرا أوقد نارا وقال لمن معه : أدخلوها. فلمّا بلغ ذلك ﷺ قال : لو دخلتموها لم تزالوا فيها إلى يوم القيامة» (6). وليس هناك أصرح من هذا في تقييد حدود طاعة وليّ الأمر بالمعروف لا بالمنكر. إذ «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق» (7) كما قال ﷺ.
الحكمة العظمى من الطّاعة
هل يختلف إثنان على أنّ المقصد الأسنى من الأمر بالطّاعة هو شدّ الصفّ الإسلاميّ أن ينصرم. وحفظ الأمّة أن تنخرم. وترتيب أمرها كلّه على أساس النّظام لا الفوضى والقوّة لا الضّعف والوحدة لا التمزّق؟ أليس هو مقصد عقليّ معلوم بالضّرورة؟ قال ﷺ :«لا تختلفوا. فإن من كان قبلكم إختلفوا فهلكوا»(8). كيف وقد إختلف الصّحابة أنفسهم؟ الإختلاف المنهيّ عنه هو إختلاف الصّف الواحد والإختلاف على قيادة واحدة. وصل الحدّ في ذلك حتّى أمر ﷺ بقتل الخليفة الذي بُويع بعد خليفة سبقه(9)، وما ذلك سوى لحفظ وحدة الأمّة، ولا وحدة لأمّة بدون وحدة قيادتها. هي طاعة وظيفيّة لحفظ صفّ الأمّة الذي يتحرّش بضعفه العدوّ، وليست  طاعة مطلقة غير محدودة، وليست هي طاعة لشخص المطاع، بل لما يرمز إليه من قيم عظمى.
من هو وليّ الأمر المطاع؟
هل هو الأمير السّياسيّ أم هو العالم الشّرعيّ؟. خلاف شكليّ، ذلك أنّ الآية سياسيّة دستوريّة بامتياز. وليّ الأمر هنا هو الدّولة بالتّعبير المعاصر. ولكنّ ذلك لا ينفي طاعة وليّ الأمر في إختصاصه. مثل طاعة الطّبيب في وباء (كورونا). أو طاعة المهندس في تشييد بيت. هي طاعات جزئيّة، وهم أولياء أمر في مساحاتهم. وكلّ ذلك يترجمه وليّ الأمر السّياسيّ إلى خيار سياسيّ. كلّ يطاع في مجال تخصّصه فحسب. لأنّها طاعة وظيفيّة لا مطلقة، ولا مقدّسة، ولا لإعلاء شخص، إلا إعلاء قيمة بها تكون الأمّة خير أمّة.
معالجة نشوزات المطاع والمطيع
تحوّطا لنشوز المطاع قال ﷺ : «من رأى منكم منكرا فليغيّره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان»(10). كما قال في موضع آخر: «أفضل الجهاد كلمة حقّ عند سلطان جائر»(11). وفي رواية (كلمة عدل). وقال ﷺ : «إنّ النّاس إذا رأوا الظّالم فلم يأخذوا على يديه، أوشك اللّه أن يعمّهم بعقاب»(12). وعمليّا لم ينكر الصّحابة عن الحسين (عليه الرّضوان) إذ قاوم صلف الأمويّين في العراق بقيادة يزيد إبن معاوية. ولا على عبد اللّه إبن الزّبير إبن العوّام، ولا على أسماء بنت أبي بكر، ولا على سعيد إبن جبير في مقاومة السّفاح الأمويّ الثّقفيّ. عدا أنّها معالجة تتردّد بين القوّة (الحسين وإبن الزّبير) وبين السّلميّة، وذلك بحسب ميزان المصالح والمفاسد. أمّا في جانب معالجة نشوزات المطيع فلنا سابقة صحيحة محلّ إجماع الصّحابة. وهي معالجة عليّ عليه الرّضوان للخوارج الذين قاومهم بالسّلاح لماّ خرجوا على الشّرعيّة بالسّلاح، وقاومهم بالكلمة (بطريق إبن عبّاس) لمّا ركنوا إلى ذلك. ثمّ عدّهم مواطنين لهم ما على النّاس وعليهم ما عليهم. كما نصّ ﷺ على أنّ المطيع الذي يحمل السّلاح على الدّولة الأدنى إلى العدل هو محلّ مقاومة منها ومنّا جميعا. إذ قال ﷺ: «من حمل علينا السّلاح فليس منّا»(13). فإذا كان حمل السّلاح من المطيع ظلما فهي حرابة توعّد عليها الله سبحانه أشدّ العقوبات ﴿إنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلَافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الْأَرْضِ﴾(14).  فإذا كان حمل السّلاح من المطيع إصلاحا وإعلان عصيان للدّولة الأدنى إلى الجور، فإنّ الأمر يخضع لمعادلة المصالح والمفاسد. عدا أنّ المعطيات الواقعيّة المعاصرة تشير بوضوح إلى الإصلاح السّلميّ والنّأي عن العسكرة حتّى في حالة ثورة شعبيّة. الدّولة اليوم تغوّلت وتوسّعت نفوذاتها مالا وقوّة وسلاحا وعمقا وشرعيّة تاريخيّة، وخاصّة تبعية لعدوّ الأمّة.
طاعة مسؤولة راشدة لا طاعة عمياء
الإنسان مكرّم مسؤول، وفي ذلك يقول ﷺ : «كلّكم راع وكلّكم مسؤول عن رعيته»(15). ذلك يعني أنّ طاعة الدّولة ـ حتّى عندما تكون شرعيّة منتخبة وتدين بشريعة الإسلام قدر الإمكان ـ هي طاعة مسؤولة، لا طاعة عمياء. كلّ مواطن هو راع لمساحة ما من حياته، وهو مسؤول عن تلك الرّعاية وتلك المساحة، وكلّما تقدّمت حظوته تقدّمت مسؤوليته. فلا يستوى العالم مع غير العالم، ولا الإعلاميّ مع غيره، ولا السّياسيّ مع غير السّياسيّ. فإذا تورّطت الدّولة في كفر بواح للنّاس ـ سيما للعلماء ـ فيه من اللّه برهان ساطع، فلا مجال يسعهم عدا مجال المقاومة والمجاهدة. قال إبن عمر : «بايعنا رسول اللّه ﷺ على السّمع والطّاعة في منشطنا ومكرهنا ويسرنا وعسرنا وأثرة علينا، وألاّ ننازع الأمر أهله إلاّ أن تروا كفرا بواحا لكم فيه من اللّه برهان»(16). أبعد كلّ هذه النّصوص الصّحيحة وأيّدها عمل الصّحابة إجماعا صحيحا صريحا تتلبّس على بعض النّاس متلبّسات تدعوهم إلى مواقف الحياد والإبتعاد عن مساحات المقاومة؟ حتّى لو قبلنا ـ إفتراضا فحسب لا دليل عليه من دين ولا عقل ـ من بعض النّاس موقف الصّمت أو الفرار فكيف يقبل منهم موقف التّأييد لدولة تعلن الكفر البواح؟ قبل النّاس فرية عدم تدخّل الإسلام بقيمه الأخلاقيّة العظمى لتوجيه السّياسة وتحصين الدّولة ثمّ سهل عليهم قبول (الفقه المدخليّ الأثيم) وثقافة السّلفية المزكّية لأنظمة لا هي شرعيّة بالميزان الشّعبيّ، ولا هي ذات مشروعيّة. إذ تنبذ الشّريعة الإسلامية نبذا، أو تبقي منها ما يستر عوراتها فتنزلها على الجوعى والفقراء المعدمين، والمتخمون المترفون يرفلون في الحرير والأمن.
كيف لا نقاوم دولة لا شرعيّة لها ولا مشروعيّة؟
إذا أجمع الصّحابة على مقاومة دولة يزيد إبن معاوية (بل على عدم بيعة معاوية نفسه من لدن عبد اللّه إبن عمر وبعض من الصّحابة) فكيف نتردّد في مقاومة الدّولة العربيّة الجديدة. وهي دولة لا شرعيّة لها. إذ هي شرذمة متسلّطة مغتصبة للشّرعيّة الشّعبيّة في صورة عائلة وارثة أو دبّابة داهسة أو ديمقراطيّة مزيّفة. ولا مشروعية لها أيضا، إذ هي لا تطيع اللّه ولا رسوله ﷺ في رسالتها وهويتها وسياساتها. بل هي تبيع سيادتها في أسواق النّخاسة وثروتها نهب منهوب لعدوّها. وثقافتها غربية، بل هي بين محتضن للإحتلال الصّهيونيّ ومرحّب به وداعم له سرّا أو علنا أو صامت صمت القبور عن جرائمه. بل هي مسالخ دامية ما إرتوت يوما من دماء الأحرار؟ دولة الأمويّين والعبّاسيين والمماليك والعثمانيّين وغيرهم كانت دولة فاقدة للشّرعيّة الشّعبية، ولكنّها تحتكم إلى الإسلام وشريعته مرّة قليلا ومرّة كثيرا. ولا ينافس الشّريعة حكم علمانيّ. وهي دولة أثخنت بأياد طولى في تحرير الشّعوب من براثن الإستعباد الرّومانيّ والقهر الفارسيّ، وبثّت الإسلام شرقا وغربا.
الطّاعة المعاصرة قوامها : الحريّة والعدالة والسّيادة والوحدة
طاعة الدّولة مشروطة بقيامها على الشّرعيّة الشّعبيّة الإنتخابيّة وخضوعها لدستور وطنيّ قائم على أولويّة الإسلام في التّشريع وعلى السّلطات الأربع المستقلّة وجوبا (السّلطة التّنفيذية والسّلطة البرلمانية والسّلطة القضائية والسّلطة الإعلامية) وعلى قدسيّة الحرّيات الفرديّة والجماعيّة وعلى منوال إقتصاديّ محلّي وطنيّ يحقّق الكرامة والعدالة رعاية من الدّولة ومعالجة من المجتمع الأهليّ ويقطع ولو بالتّدريج مع مقايضات المصارف الدّولية المحتلّة وعلى حماية السّيادة المادية والسّيادة المعنوية للمجتمع معا وعلى توحيد الصّف الشّعبيّ ورصّ لحمته مهما كان متعدّدا متنوّعا مختلفا على أساس المساواة في المواطنة حقوقا وواجبات. كلّما شيّدت الدّولة على مثل ذلك وسعت لتحقيقه يوما من بعد يوم كانت طاعتها واجبة دينا وعقلا ومصلحة، وكلّما كانت تسير في الإتّجاه المضادّ لذلك كانت طاعتها باطلة آثمة ومقاومتها طاعة للّه ولرسوله ﷺ.
خلاصة
طاعة وليّ الأمر الذي لا شرعيّة له عدا شرعيّة إغتصاب السّلطة بوازع وراثيّ أو دبّابة أو قهرا هي طاعة باطلة. يأثم بها المطيع. إلاّ إذا لم يجد حيلة ولا سبيلا فإنّ إنكاره ذلك بقلبه قد يشفع له. وهي رخصة لعامّة النّاس وليس للعلماء. ومثلها طاعة وليّ الأمر الذي لا مشروعية له، فهو ينبذ الشّريعة الإسلاميّة نبذا بقهر النّاس وبيع سيادة وطنهم وتبعية للعدوّ وولاء له. وهي قيم أعلى من أن يطمسها (الفقه المدخليّ التّافه) الذي أنشأته أسر خليجيّة حاكمة لإسترداد شرعيّة دينيّة مفقودة. ولم تظهر بدعة في تاريخنا الطّويل أشدّ رثاثة من بدعة السّلفيّة المدخليّة التي تسفّه رسول الله ﷺ والكتاب الذي جاء به وترضي سلاطين باعوا ثروة الأمّة إلى أعدائها بثمن بخس. هذان حديثان صحيحان هما مستند المقاومة ضدّ الدّولة العربية الجديدة. قال ﷺ : «لتنقضنّ عرى الإسلام عروة عروة. أوّلها الحكم وآخرها الصّلاة»(17). وقال ﷺ : «إذا ضيّعت الأمانة فانتظر السّاعة. قيل : وما إضاعتها؟ قال : إذا وسّد الأمر لغير أهله»(18). كيف لا نقاوم دولة فاسدة نقضت عروة الحكم ووُسّد الأمر إليها وهي غير ذات أهل. ووسّدت هي الأمر لغير أهله؟
الهوامش
(1) سورة النساء - الآية 59
(2) سورة النساء - الآية 58
(3) متّفق عليه عن أبي هريرة 
(4) سورة الممتحنة - الآية 12
(5) متّفق عليه عن إبن عمر
(6) متّفق عليه عن عليّ عليه الرّضوان
(7) أخرجه البغوي في «شرح السنة»(2455) عن النواس بن سمعان الأنصاري
(8) متّفق عليه عن إبن مسعود 
(9) أخرجه مسلم عن أبي سعيد الخدريّ
(10) أخرجه مسلم عن أبي سعيد الخدريّ.
(11)  أخرجه أحمد و أهل السّنن والحاكم عن أبي سعيد. 
(12) أخرجه أبوداوود عن أبي بكرة وأحمد وأصحاب السّنن.(13) متّفق عليه عن إبن عمر. 
(14) سورة المائدة - الآية 33
(15) متّفق عليه عن إبن عمر. 
(16) متّفق عليه عن عبادة إبن الصّامت. 
(17)  أخرجه أحمد عن أبي أمامة. 
(18)   أخرجه البخاريّ عن أبي هريرة.