نقاط على الحروف

بقلم
جواد أحيوض
التحدّي الاسرائيلي وعلاجه الائتماني من خلال «ثغور المرابطة (1/4)
 مقدمة اشكالية : 
لقد كانت الدّولة الفلسطينيّة جسدا سليما في جغرافيّته وقدسيّته، تتمتّع بكلِّ عافية بحقوقها وكرامتها كما سائر الدّول ذات السّيادة والاستقلاليّة والوطنيّة، إلى أن أُصيبت في كيانها بـ«السّرطان الاسرائيلي»، فأضحت تعاني منه الويلات منذ سنة 1948 الى يومنا هذا ولازالت، وصلت فيه حدًّا، لا يجب السّكوت عنه، خاصّة في الحرب الأخيرة عليها، حيث أضحى التّصدّي لهذا الاعتداء الاسرائيلي -الذي أدمى، ليس فقط الفلسطينيّن وحدهم، وإنّما الانسانيّة برمّتها، وهو يقتل المواطنين الأبرياء علنا، غير مميّز بين المقاتلين والعزّل منهم: من شيوخ وأطفال ونساء، ولا محترما للبنيات التّحتيّة المستعملة للحياةِ اليوميّةِ اِبْقاءً للرّوح وحفظا للجسد، من طرقات ومعابر ومصانع- تصدّيا واجبا على كل إنسان. 
وعلى هذا الأساس، تأتي هذه الورقة، لتقدّم «العلاج الائتماني»، لهذه الجغرافيّة الفلسطينيّة المنخورة من طرف هذا الكيان، لتكون حدود هذه الدّراسة: من خلال أهم كتاب ظهر ما قبل السّنة الماضية حول القضيّة الفلسطينيّة، للفيلسوف «طه عبد الرحمان»، تحت عنوان «ثغور المرابطة: مقاربة إئتمانيّة لصراعات الأمّة الحاليّة»(1) وهو كتاب كما يبدو من خلال عنوانه، ينبع من واقع هذه الأمّة، ويحمل قضاياها الكيانيّة وهمومها. 
ومن هنا سيكون السّؤال المحوري لهذا المقال دائرا حول «تشخيص نوع الأذى الاسرائيلي للفلسطنيّين»، و«العلاج  الائتماني النّوعي» الذي قدّمه طه عبد الرّحمان، حماية لثغر (بيت المقدس)، على أساس، أنّ هذا «البيت» هو مركز القضيّة الفلسطينيّة بأبعاده التّاريخيّة والدّينيّة التي من شأنها أن تبعث روحا جديدة في الأمّة الإسلاميّة». ويشكّل بيت المقدس هنا -(أرضا وحَرَما ومسجدا)- العاصمة الرّوحيّة للمسلمين، لا يقلُّ أهمّيةً ولا شأنا عن «مكة المكرّمة».    
فما هي معالم هذه «القدس» ورمزيّتها المرجعيّة للمسلمين؟ وما طبيعة الأذى الإسرائيلي الذي حلّ بها؟ وما حدود المقاربة الائتمانيّة الطّاهويّة في استعادة عافيتها؟ 
هذا ما سنحاول الإجابة عنه في هذا المقال، منطلقين من الفرضيّة التّالية: أنّ طه عبد الرّحمان، انتج لنا مشروعا إئتمانيّا نوعيّا، له ما له من سلطةٍ وعُدّةٍ روحيّة ومفاهيميّة تجديديّة، قادرة على مواجهة هذا التّحدي الاسرائيلي الذي تعدّى الاعتداء على الأرض المقدّسة الى الاعتداء على الشّعوب العربيّة الإسلاميّة بالتّطبيع.
وتندرج أهمّيّة هذه الدّراسة في كونها ذات بعد علاجي، حيث لا تكتفي بالتّحليل الموضوعي للوقائع، بل تتعدّاه الى تفصيل الوسائل العمليّة التي تمكّن من التّغلّب على التّحدّيات التي تسببت في هذه الوقائع.
ولعلّ ما يضفي على هذه الدّراسة طابعها الأصلي، كونها تركزّ على «العلاج الائتماني» الذي بناه طه، على مقتضى التّأمّل الفلسفي المبني على القيم، وليس على التّكهّن السّياسي المبني على المصالح.
وتهدف الدّراسة أولا الى: تحقيق «تعريف تّجديدي نوعيّ» بقضيّة «بيت المقدس» في وعي الأمّة الإسلاميّة، يجعلها مستنهضة لهممها المتراخية، كي تقوم من جديد، لمواجهة هذا العدّو الذي يسعى كلّ يوم الى قتلنا جميعا، بكلّ وسائله المتاحة. 
ويتفرع عن هذا «التّعريف التّجديدي» هدف آخر، يتمثّل في توسعة التّعريف بصاحب النّظريّة الائتمانيّة، حتّى تتّسع القراءات على نطاق عالمي بمشروعه، اذ نرى فيه، سِعةً نّقديّة شاملة في نقد الفلسفة الغربيّة، والنّظريّات السّياسيّة العَقْدِيّة، ومشكلات الدّين الإسلامي، بالإضافة الى كونه ثورة أخلاقيّة، تتوخّى إعادة النّظر في شخصيّة الإنسان، كي يتحرّر من قيود العبوديّة القهريّة للنّفس والأشياء والأشخاص، فهو مشروع كفيل ببناء الذّات ربطا بأصولها ووصلاً بعصرها من خلال المرجعيّة الدّينيّة، دون جمود لا على استحضار الماضي، ولا بالوقوف على مذهب مخصوص أو ايديولوجية معيّنة.
وأمّا سبب اختيار الموضوع فيرجع بالأساس الى كونه؛ 
- يعدّ من الرّهانات المطروحة حاليا (2) ، يجب وضعها على رأس أولويّاتنا، استعادة لكرامتنا المفقودة، خاصّة بعد مواثيق التّطبيع، التي أبرمتها مجموعة من دولنا الإسلاميّة مع الكيان الاسرائيلي من جهة. 
- ومن جهة ثانية؛ أنّ الأذى الذي يتعرّض له الإنسان الفلسطيني، قد بلغ من السُّوء حدّا، لم يعد بالإمكان، أن يبقى شأنا يخصّه، بل أضحى شأنا يهمّ الجميع، لا من جهة انشغال المجتمع الإنساني بحقوق الإنسان، ولا من جهة اهتمام المحافل الدّوليّة بقضيته، وإنّما من جهة تأذِّي هذا المجتمع الشّامل بما يتأذّى به الإنسان الفلسطيني. 
- ومن جهة ثالثة أنّه، اذا كنّا -نحن- من المجتمعات التي يباشر حكّامها التّطبيع مع الكيان الاسرائيلي، على الرّغم من سُخْط أهلها على مبدإ التّطبيع فضلا عن الممارسات التّطبيعيّة في أوساطها، سواء كانت مكشوفة أو مستورة، فقد لزم من باب أولى أن يقوم العمل التّوعوي -من طرف المثقّفين، في هذه المجتمعات المكرهة على التّطبيع- بواجبه ضدّ هذه المشكلة.
وبهدف الإجابة عن الاشكاليّة المطروحة، انتهجت المنهج التحليلي، تقصّيت فيه أبعاد النّظريّة الائتمانيّة عند طه عبد الرحمان، كأساس للحلّ الفلسطيني، لإبراز «مقاربتها الفلسفيّة النّوعيّة» ومداها العلاجي. 
ولقد خلصت الدّراسة الى مجموعة من النّتائج، على رأسها تأكيد الفرضيّة المطروحة، حيث أنّ تطبيق «الحلّ الائتماني»، المتمثلّ بـ «المرابطة المقدسيّة» له من القوّة الرّوحيّة ما يمكن أن يعيد للذّات أصالتها وفطرتها المغتصبة من طرف الإسرائيليّين، وكلّما عادت للإنسان ذاته الفطريّة، استطاع أن يرابط بقوّة لاستعادة الأرض المقدّسة، بل أكثر من ذلك «المرابطة العالميّة» لإعادة الحياء المفقود للعالم تجنبا لـ «عالم ما بعد الأمانة».
ثغور المرابطة، الكتاب الظاهرة: 
بدءا بالكتاب، يمكن لنا أن نقول: أنّ «ثغور المرابطة» يُعدُّ «ظاهرةَ القرنِ» في بُعده الفلسفي، لعلاج مشكلة بيت المقدس، له من «الثِّقَل الأمانتي» ما يقابله من «الثِّقل الضّياعي» الذي نزل على نفوس المسلمين كالصّاعقة من خلال «صفقة القرن». وذلك أنّه كتابٌ لا ينطلقُ من التّنظير الفلسفي، أوالتّعالي الفكري، وإنّما ينبع من واقع  هذه الأمّة، ويحمل قضاياها الكيانيّة وهمومها، سعى فيه صاحبه، إلى تقديم مقاربة جديدة لفهم مشكلات البلاد العربيّة، وطرح حلول لها من خلال «المقاربة الائتمانيّة» يشتبك، بشكل كبير، مع قضايا الصّراع في المنطقة، سواء الصّراع العربي – الإسرائيلي، أو الصّراع السّني – الشّيعي، أو السّنّي – السّنّي، اكتفينا فيه نحن بالصرّاع الأول حول التّحدّي الاسرائيلي وتفريط العرب في القدس. 
إنّ هذا «الكتاب المرابط» في بُعده الفلسفي، ينزع في عمقه المنزع العقدي الخالص، في نزع العبوديّة للأشخاص والأشياء والنّفس، وإخضاعها للّه، بالرّجوع الى أصالتها! فالقارئ للكتاب، يكتشف بدقائق منهجه المتين رقائقَ علمه المكين، وهي في نفحاتها؛ رقائقٌ تجّدّد الحياة لشعورنا الميّت تجاه التّراث، الذي قال عنه طه: «كان ولم يزل روحاً لا حياة لفكر دونها» (3) .
وبناء على هذه الرّوح التّراثيّة، فإنّ أبرز ما يلفت الانتباه في ثناياه، هو الطّرح الجديد الذي تبنّاه طه في القضيّة الفلسطينيّة من خلال إعادة صياغتها ضمن هذا المخزون التّراثي، كلّله بعمليّة «النّحت» المفاهيمي والاصطلاحي التي قام بها في هذا الكتاب الجديد. والتي يسمّيها العلماء والباحثون «أهلنة المعرفة»، فالرّجل لا يستخدم المصطلحات والمفاهيم الغربيّة في وصف الظّواهر الاجتماعيّة والسّياسيّة في العالم العربي، على الرّغم من معرفته الواسعة وإلمامه بالفلسفة الغربيّة وغيرها. وإنّما أبدع لفلسفته الائتمانيّة مفاهيمها الخاصّة المأصولة بالتّراث، إحياءً للعزائم المُثَبَّطة وجمعاً لشمل الأمّة. 
فكما تحركّت داعية طه لتأصيل المفاهيم، فتأهب لوضع كتابٍ سمّاه «تجديد المنهج في تقويم التّراث»(4) -عندما تأمّل في الانقلاب الحاصل في القيم بين المشتغلين بتقويمه- فكذلك، تحرّكت فيه داعيته، لإبداع كتابه: «ثغور المرابطة» بمفاهيم مأصولةٍ، وهو يرى بيت المقدس قاب قوسين أو أدنى من الإفلات من بين أيدي المسلمين، إيمانا منه بالواجب الحضاري تجاه قضيّة هذا البيت المعظّم، حتّى لا يُسأل عن صمته، من الخَلقِ في العاجل ومن الخالق في الآجل، حيث كان يجب أن يتكلّم، وعن تركه حيث كان يجب أن يعمل، وحتّى لا يُقال في ظرف عصيب من تاريخ الأمّة، أنّ الحقّ مطمور لا نصير له، والباطل مشهور لا خصيم له(5).
فما هي معالم هذه «القدس» ورمزيتها المرجعيّة للمسلمين ضمن هذه النّظريّة الائتمانيّة؟ وما طبيعة الأذى الاسرائيلي الذي حلّ بها؟ وما حدود المقاربة الائتمانيّة الطّاهوية في استعادة عافيتها؟
هذا ما سنحاول التطرق إليه في الحلقة القادمة إن شاء اللّه.
الهوامش
(1) طه عبد الرحمان، ثغور المرابطة: مقاربة أئتمانية لصراعات الأُمّة الحالية، منشورات مركز مغارب: أكدال/الرباط، ط 1 - 2018 . 
(2) تزامنت كتابة الموضوع مع الحرب الاخيرة، بالتصعيد الاسرائيلي ضدّ «بيت المقدس» التي صفُعنا فيها جميعا بـ«صفقة القرن»، ثم عقِبتها الحرب «ضدّ غزّة» (ماي 2021) بأسلوب وحشي تجاوز كلّ الاخلاقيات، اذ سعى العدو الاسرائيلي بكل معداته قتل الأبرياء، بل دفنهم احياء بقصفه للابراج السكنية، حيث لاشيء ينطبق وصفا على هذه الهمجية اكثر من قوله تعالى في «الوأد الجاهلي» (سورة التكوير، الاية: 8)، حيث جاز لكل من يملك ذرة إنسانية ان يتساءل عن: «وأد الفلسطيني تحت ناطحات السحاب» «بأي ذنبٍ قُتِل»!!. 
(3) طه عبد الرحمان، تجديد المنهج في تقوبم التراث، المركز الثقافي العربي: الدار البيضاء/المغرب، ط2- بدون تاريخ، ص9
(4) نجد طه، قد رامَ، في كتابه «تجديد المنهج في تقويم التراث» الكشف عن خفي الاوهام، وعن دقيق التلبيسات التي انبنى عليها المسار المعكوس في تقويم التراث الذي نهجه ابرز المفكرين العرب. فهو في هذا الكتاب نحا طريقا غير مسبوق ولا مألوف، فهو غير مسبوق؛ لأنّه يقول بالنظرة التكاملية في الوقت الذي يقول غيره بالنظرة التفاضليّة، وهو غير مألوف؛ لأنّه توسّل بأدوات «مأصولة» في الوقت الذي توسل فيه غيره بالأدوات المنقولة، كما عبّر عن وعي بأهمية الآليات المنهجية التي كُتـبَ بها التراث، هذا الوعي الذي ينبغي ان يلازم النّاظر في التّراث بحيث يسلّط على منظوره العلمي نفس الطرائق المنهجية التي هي من جنس ما حَرّر به التراث نفسه. 
(5) تجديد المنهج في تقويم التراث، ص11