نافذة على الفلسفة

بقلم
أ.د. عبدالرزاق بلقروز
مفاهيم : معنى مكارم الأخلاق
 تتباين معاني الجملة المركَّبة «مكارم الأخلاق» من حيث ما تحتويه من قيم خُلقية محمودة،  وقلَّما نجد من يقف على حقيقتها ومعناها على طريقة الحدّ المنطقي أو الرّسم التّعريفي، وفي المقابل نجد من يعدّدُ فوائدها ويُكْثر من الإشادة بها، من حيث إنّها ضروريّة وأساس العلاقات الاجتماعيّة بين الإنسانيّة التي لا يمكن حصرها في تبادل المنافع الاقتصاديّة من غير مكارم الأخلاق، والقول الأكثر معقوليّة أنّ استخدام «مكارم الأخلاق» يُراد به الأخلاق المحمودة التي يؤسّس لها الشَّرع ويقتبسها العقل، وعليه جرى وضع هذا المصطلح لكي يكون مُعبرًا عن الفضائل الأخلاقيّة المحمودة، بما أنَّ لفظ الخُلق يدخل في معناه كلّ من الصّفات السيّئة والصّفات الحسنة التي تصدر عن الحال أو الهيئة التي عليها الصّورة المعنويّة للإنسان.
والقارئ لما جاء في المدوّنات الأخلاقيّة يتلمّحُ هذا الإظهار لمكارم الأخلاق، من حيث تعديد الأفعال وليس من حيث استقراء الماهيات، مع إجراء المفتتح في الغالب بالإشارة إلى الحديث النّبوي الشّريف «إنّما بُعثت لأتمّم مكارم -وفي رواية- صالح الأخلاق»(1)، ثمّ الانتقال إلى جمع هذه المكارم في أفعال حميدة، يكون الغرض من الإشارة إليها دفع النّفس إلى التحلِّي بها واكتسابها كي تصبح عادة وسجيّة، ومثال ذلك ما جاء في كتاب الطّبراني «مكارم الأخلاق» الذي جعل المكارم في أبواب وقال: «هذه أبواب في مكارم الأخلاق التي ينال بها المؤمن الشّرف في حياته، ويرجو فيها النّجاة بعد موته... -ومن هذه المكارم الواردة في صيغة أبواب- فضل تلاوة القرآن وكثرة ذكر اللّه والصّمت إلاّ من خير، وحبّ المساكين ومجالستهم، حسن الخلق، فضل لين الجانب وسهولة الأخلاق وقرب المأخذ والتّواضع، فضل الانبساط إلى النَّاس ولقائهم بوجه طَلق، فضل الرّفق والحلم والأناة، فضل الصّبر والسّماحة، فضل من يملك نفسه عند الغضب...» (2) .
ويسلك أبو حامد الغزالي أيضًا مسلك تعداد المكارم، عندما يكون حديثه في بيان مكارم الأخلاق: «مكارم الأخلاق من أعمال أهل الجنّة، قولٌ لطيف يتبعه فعْل شريف، مكافأة المحسن بأكثر من إحسانه، صاحب مكارم الأخلاق هو الذي لا يحوجك أن تسأله، ولا يزال يعتذر ضدّ اللّئيم الذي لا يزال يفتخر، والتّغافل عن زلل الإخوان والمسارعة في قضاء حوائجهم، وطرح الدّنيا لمن يحتاج إليها»(3). وبيّن من هذا، أن المكارم هي الصِّفات الحسنة التي تصدر عن النّفس الإنسانية، وبيّن أيضًا أن المكارم ليست معاني جامعة مانعة، أو أبوابًا يمكن حصرها في قيم أخلاقية مرسومة، بل هي لا متناهية من حيث تجلِّيها، ولا بدّ هنا من الوعي بأنّ نظام الأخلاق في الإسلام قد أعرض عن نظريّة الفضائل الأخلاقيّة اليونانيّة المحصورة في أربع وهي: العفّة والشّجاعة والرّوية والعدل، ورسم نظام الأخلاق رسمًا مفتوحًا ممدودًا، والمسوغات التي شرّعت لهذا الاعتبار هي على التوالي:
*  أحدها: أن الأخلاق هي بعدد أفعال الإنسان، فلمَّا كانت هذه الأفعال أكثر من أن تحصى، كانت الأخلاق مثلها لا تُحصى.
*  والثانية: أنّ الفعل الخلقي الواحد ليس رتبة واحدة، بل هو رتب متعدّدة، قد لا تقف عند حدّ، فمثلًا الصبر وصبر الصبر، والقوة وقوة القوة وغيرها، بمعنى أن يتولَّد من الفعل الخلقي فعلًا آخر يختلف عنه في المرتبة.
*  والثّالثة: أنّ الأخلاق هي طريق إدراك معنى اللّا متناهي، وليس التّعداد كما ساد بذلك الاعتقاد، ذلك أنّه لما كانت أفعال الإنسان لا تتناهى ورتبها هي الأخرى لا تتناهى،  صار الشّعور بهذا المعنى -في عموم هذه الأفعال- أقرب إلى الإنسان منه في أفعال مخصوصة كأفعال الحساب» (4) .
وهذا الاختصاص بانفتاحيّة الأخلاق عكس حصرها في الفضائل الأربع -كما هي في الأخلاق اليونانيّة- كان قد تَلحّظه ابن عربي في تناوله لسؤال الكمّ في عدد الأخلاق في «الفتوحات المكيّة»، لما كان السُّؤال «كم خزائن الأخلاق؟ الجواب على عدد أصناف الموجودات وأعيان أشخاصها، فهي غير متناهية من حيث ما هي أشخاص، ومتناهية من حيث ما هي خزائن، وسُمّيت خزائن لكون الأخلاق مخزونة فيها اختزانًا وجوديًّا، وإنّما جعلت خزائنَ لما تتضمّنه في حُكْمِ من اتصف بها من الصّفات التي لا نهاية لوجودها»(5). وجليٌّ هنا التَّمييز بين المرتبة الوجوديّة للأخلاق، والمرتبة العِيانيّة للأخلاق، ثمَّ يأخذ ابن عربي في تقسيمه لهذه الخزائن إلى:
خزائن لها تعلّق بالذّات أو الأخلاق في صورتها الأصليّة الكاملة، والثانية خزائن تترابط مع النّسب الموجبة للأسماء من حيث هي نسب، والثالثة خزائن لها تعلّق بالأفعال من حيث ما هي أفعال، والقول الكاشف لهذا أنّ للأخلاق وجودًا موضوعيًّا مستقلًّا؛ وترابط في صورة الصّفات وما توجبه على الأعيان، والفعل بين تحلِّيه بالأخلاق وبين بعده عنها (6). وهذه المراتب تتكوثر وتتوالد بصورة لا متناهية في حياة الإنسان، وهذا هو السّر في عدِّها لا متناهية، وتعالقها مع الموجودات كلِّها، فالقول بالطّابع اللَّامتناهي للأخلاق والطَّابع الاتساعي لها، يحرّرها من النّظرة الفلسفيّة اليونانيّة التي تتركّز فيها الفضائل على الإنسان، أو إنّ فضائلها تجعل الإنسان مركزَ الدّائرة ومحورَ المحيط، وهذا مخالف لروح الثّقافة الإسلاميّة التي تجعل الإله هو مقياس الأشياء جميعًا وليس الإنسان، وبالتّالي وجب صرف القول إلى أنّ روح الاستخلاف -كما تستبين-  هي الاقتداء والتَّشبه بأفعال الإله على قدر وُسْع الإنسان، وبما يكون مخصوصًا بطبيعته الإنسانيّة النّسبيّة في مقابل الوجود الإلهي المطلق في الذّات وفي الصّفات.
يتّضح ممّا سبق، أنّ المكارم لا تطلق إلاّ على الأفعال الأخلاقيّة المحمودة، التي تترقّى بها نفس الإنسان من حضيض الإخلاد إلى ما يستلذه الطّبع، إلى يفاع التّزكية والإنماء لدوافع الخير. أو من الميل إلى دواعي الغرائز النّفسيّة من غضبيّة وشهوانيّة إلى مُوجبات نور العقل وإشراق الرّوح،  لكي تتحقَّق بذلك الصُّورة الحقيقة للإنسان، وهي صورة الإنسان المتيقِّظ المتحكم في قِوَاه الغضبيّة والشّهوانيّة؛ والمستحقّ للرئاسة وللحكمة.
الهوامش
(1)  رواه البخاري في « الأدب المفرد»
(2) انظر،  الطّبراني، مكارم الأخلاق
(3) مجموعة رسائل الإمام الغزالي، مصدر سابق ،  أبو حامد، الغزالي 
(4) طه، عبد الرحمن سؤال الأخلاق،  مساهمة في النّقد الأخلاقي للحداثة الغربية،.
(5) ابن عربي،  الفتوحات المكية،  المجلد الأول.
(6) قريب إلى  هذا المعنى يشير «توشيهيكو إيزوتسو « عندما يقول « هناك ثلاثة أصناف مختلفة للمفهومات الأخلاقية في القرآن: تلك التي تشير إلى الطبيعة الأخلاقية للحق تعالى وتصفها؛ وتلك التي تصف الجوانب المختلفة للموقف الأصلي للإنسان من الله، خالقه؛ وتلك التي تشير إلى مبادئ السُّلوك وقواعدة التي تنظّم العلاقات الأخلاقية بين الأفراد الذين ينتمون إلى الجماعة الدّينية للإسلام ويعيشون في إطارها « المفهومات الأخلاقية في القرآن، ترجمة، عيسى على العاكوب،. ويمكن الإيضاح أكثر بالمصفوفة التالية: الأوّل: الأخلاق الإلهية/والثاني: الأخلاق الإنسانية/ وتنقسم  هذه الأخيرة إلى قسمين: قسم يخص علاقة الإنسان بالله واستجابته لأوامره، وقسم ينظم العلاقة في إطار الحياة الاجتماعية بين الإنسان والانسان.