تمتمات

بقلم
رفيق الشاهد
الأصل ثابت أو متحول ؟ (1/3)
 سفينة «ثيسيوس»
بين الأصل والمتغيّر حيرتي كبيرة. أرى ذاتي الأصليّة متعدّدة، وواقع ما أنا عليه ما هي إلاّ النّسخة الأخيرة منّي.  قد يكون لدى أحد منكم في إدراكه نسخة حقيقيّة لذاتي الأصليّة، فاعلموا إذَنْ أنّها فقط صورة حينيّة لتلك الذات، وأنّني في اللّحظة التي أخاطبكم فيها لا أكون إلّا نسخة أصليّة حقيقيّة لمن أكون رُسِمتْ على الصّفحة التي تقرؤونها من سجل حياتي. كلّ صفحات السّجل نسخ أصليّة لما كنْتُه. وطالما لا أحد يمكنه قراءة عدّة صفحات معا مثلما لا يمكنه التّواجد في مكانين مختلفين في نفس الوقت، فإنّ صفحات كتابي -حتّى وإن تشابهت- تبقى مختلفة. فإذَنْ ما أحببتموني يوما، فرجاء لا تديروا الصّفحات.
قد يتبادر للذّهن لدى البعض من المهتمّين بالقضايا الفلسفيّة أنّه يتمّ إعادة طرح الأسئلة القديمة حول أهمّية استبدال مكوّنات الكائن وتأثيرها في الهويّة. وفعلا أنا أطرح اليوم نفس السّؤال الذي يتداوله الفلاسفة منذ القرن الأول قبل الميلاد بداية بالمفارقة الأسطوريّة المتعلّقة بسفينة ثيسيوس «أيّهما السّفينة الأصليّة، تلك التي تمّ إعادة تركيبها بألواحها القديمة أو السّفينة الأخرى بعد أن تمّ استبدال جميع ألواحها الواحدة تلو الأخرى؟ نحن أمام سفينتين بهويّة واحدة أم أنّ هوية إحداهما أصليّة وهوية الأخرى مغشوشة؟
ثمّ من جهة أخرى، سؤال ثالث يزاحم أفكاري ليأخذ مكانه ويطرح نفسه حول المصطلحات التي يتمّ استعمالها منذ العصور القديمة. كيف تبقى هذه المصطلحات هي نفسها وتبنى عليها مفاهيم قد لا تتماشى ومقتضيات العصر الحديث بسرعته وبتسارع التّطورات العلميّة والتّكنولوجيّة التي فرضت علينا أنماطا جديدة للتّفكير وأنماطا مستحدثة أخرى يعيشها الإنسان المعاصر دون اختيار ؟ 
الذكاء الاصطناعي
أسفي على شعبي الخائف من كلّ شيء متحرك، مع أنّه سليل أجداد رصدوا حركة الكون وحدّدوا قبل غيرهم مواقع النّجوم. ولو كان الخوف من المجهول حتميّا لما تجرّأ  «ثيسيوس»  ولا غيره تجشّم الأهوال، ولما خلّص شعبه من الوحش «مينوتاور» الذي كان تقدّم له الصبايا وخيرة  الشّباب يلتهمهم لإشباع جسده البشري برأس ثورٍ. ولو كان الخوف من المجهول حتميّا لما تجشّم الفاتحون المسلمون أهوال الحروب ومواجهة تقلبّات الطّبيعة، ولما انتشر الإسلام بكامل أرجاء العالم.
شرع الانسان منذ البدء في تطوير آليّات تضمن له حياة أطول وتمكّنه من حماية نفسه من الأخطار الدّاهمة، وفي ذات الوقت توفير ما يلزمه من إعاشة تؤمن له البقاء. طالما أنّ الإنسان يولد بطبعه ضعيفا ولا يعيش خلال فترة طويلة إلاّ في ظلّ رعاية فطريّة هي نفسها على مقربة من زوال قريب، فإنّه على قدر ضآلة أمل الاستمرار تطوّرت لدى هذا الإنسان مداركه وتطوّر حسن استغلالها. فتعلّم الانصات إلى مصدر الخطر والجري للهروب منه، ثمّ تسلح بالتّدرّج وطوّر ما توفّر بين يديه. 
وتعلّم الإنسان البدائي استغلال ذكائه لتطويع الطّبيعة لصالحه. فكان يجعل تارة كفّيه بوقا وامتدادا لأذنيه تارة أخرى لالتقاط الأصوات البعيدة. وبفعل التّدريب زاد ذكاؤه البيولوجي تطوّرا لتطويع ما توفّر من أدوات بغرض تقوية القدرة الوظيفيّة لأعضاء الجسم بحثا عن رفاهة أولى درجاتها الإحساس بالابتعاد عن الهلاك، والابتعاد أكثر فأكثر هي درجات أخرى تليها. والرّفاه إذن هو الوضع الوسط بعيدا عن الهلاك النّاجم عن الفعل وبعيدا عن الهلاك النّاجم عن عدم الفعل.
ثمّ أصبح الإنسان يعول على الموارد الذّاتية المكتسبة التي صارت تساعده في تصريف شؤونه ممّا جعله أكثر ذكاء. وكلّ ما زاد عن الذّكاء البيولوجي يصنف اصطناعيّا ويتجسّد في استعانة الإنسان بما توفّر من أدوات وآليّات ومعلومات يتمّ استغلالها بغرض تقوية القدرة الوظيفيّة لأعضاء الجسم. أي بمفهوم مبسط استعانة الإنسان بكل شيء دخيل عن بنيته الجسدية والعقلية الطبيعية.
جاءت الأدوات ثمّ الآلة تعوض ما تلف من الجسد، ثمّ أخرى، وبدرجات متفاوتة أصبح الإنسان بفضلها أكثر قدرة على إعمال عقله وحواسه وأدواته التي وفّرها وتمكّن منها. وكلّما نجح في إزاحة خطر برزت له مخاطر أخرى دفعته إلى درجات أخرى من الذّكاء عبر تقنيات حديثة ومتجدّدة اعتمدت أولا على زرع بعض الآلات داخل الجسم لتعوّض بعض الأعضاء الحيويّة مرورا بزرع بعض الخلايا والتّحكّم في شفرتها الجينيّة الى ما يتوقّع من تجانس في المستقبل القريب بين مدارك الإنسان والحواسيب ذات القدرات الحسابيّة العالية.
كل ذلك ذكاء إصطناعي لا يخيف إلاّ الواهن الذي لا يقدر أن يعيق مسيرة الآخر نحو التّسلّح بمقومات القوّة الجديدة لاستعباد من تشبّث بالهويّة الثّابتة التي لا تتحرّك ولا تتغيّر. نحن أمام عصور أصبحت قصيرة الأمد ومتسارعة حتّى أراني أعيش حقيقة أكثر من عصر، وأرى العصور الحديثة تطوي في ثناياها كلّ ثابت وجامد. ويفاجئ العصر كلّ من لم يستعدّ له.
أنا لوح في سفينة «ثيسوس»
وأخيرا ظهر الرّجل الآلي والحيوانات المعدنيّة في صور مختلفة، طائرة بالطّيار تطير وحدها وأخرى تطير بدونه، وآلات عملاقة وأخرى دقيقة تؤدّي كلّها أعمالا ووظائف شديدة التّعقيد. يتخاطب الإنسان مع هذه الآلات عبر الكمبيوتر الذي يشحن بخوارزميّات تحدّد هذه الأعمال والوظائف، ثمّ تطوّرت هي نفسها ذاتيّا ليصبح الكمبيوتر أكثر استقلاليّة، ولا حاجة له لمن يطوّر ويجدّد برمجيّاته وما يجب فعله وما لا يجب. إنّ ما يزعج النّاس اليوم ويخيفهم أنّ تتعدّد الذّوات الأصليّة للشّيء الواحد ثمّ تتنافس فتتخاصم  ثمّ قد تتناحر.
إن ظلّ الذّكاء الاصطناعي غولا أو وحشا فقد يلتهم شعوبنا طالما لم نتمكّن منه ولم نروّضه. ولا يتمّ ذلك دون الاقتراب منه وملامسته وركوب عربدته ونزع خوفنا منه. وكلّما سقطنا ننهض ونعود من جديد حتّى يطمئن إلينا ونطمئن إليه، فنوجه قدراته لخدمة النّاس فيما ينفعهم.