نافذة على الفلسفة

بقلم
أ.د. عبدالرزاق بلقروز
في أيّة مرحلة يعيش الإنسان المعاصر ؟ وأيّة وُجهة يقصد ؟
 إنّ الذي دفع بنا إلى كتابة قول حول الإنسان الحديث وتقويمه على حسب مراحل الحضارة الثّلاث التي سنشير إليها، هو كون الإنسان المعاصر لنا لم يعد إنسانا محدودا بسكنه الجغرافي ومساره التّاريخي، إنّما أضحى نموذجا خُلقيّا ومثالا ذهنيّا، يقطع المسافة المكانيّة والزمانيّة، لكي تتلقَّاه المجتمعات التي تقع خارج دائرة الوجود الأصلي، وهذا الإنسان المعاصر لنا لم يعد إنسانا فقط متواجدا في المجال التّداولي الغربي، بل إنّ ثقافات أخرى امتصَّت قيمه الفكريّة والسُّلوكيّة، وتشرَّبت صورته الباطنة والظّاهرة، فبات إنسانا رحَّالا في شعب الثّقافات برمتها. 
لكن ما هو حال هذا الإنسان الذي أضحى فكرة تطوي المسافات وتفرح به القلوب؟ هل فعلا هو النُّموذج الخلقي والمثال الذّهني أو الفكرة الرحَّالة التي تعكس النُّموذجيّة الإنسانيّة في رئاستها في الوجود؟ 
ماذا لو تبيّن أن صورة هذا الإنسان في حقيقتها لا تحمل إلاّ الشّكل الخارجي من الآدميّة، بينما في داخله نموذج لحياة أخرى دخلت في حالة النّسيان للمعنى الحقيقي الذي تتركّب منه الماهيّة الإنسانيّة؟ وهي ماهيّة ذات طبيعة روحيّة خلقيّة نسيها هذا الإنسان وضيّع خلقته الأصليّة، التي هي المثال الذّهني الحقيقي والنموذج المنسي؟ 
سنجيب على هذا السّؤال، بالقول أنّنا سنقدم نموذجا في تقويم هذا الإنسان المعاصر الذي هو إنسان مائل الطّبع إلى الإعراض عن الأوامر الإلهيّة ومكارم الأخلاق، ولأنّه هكذا فإنّ إرادته توقّفت عن البحث والتّأمل، فصار يسكن حالة الحيرة والارتياب كما يسكن في العالم، كما بات هذا الإنسان منغمسا في لذَّاته العاجلة اليومية، فنتج عن هذا عدم الاهتمام بما يؤول إليه الأمر في العاقبة.
من المعلوم أنّ الحضارة التي ينشِئُها الإنسان ويعيش فيها، تمرّ بمراحل ثلاث، مرحلة الرّوح التي تعبّر عن ظرف استثنائي يعكس ميلاد مجتمع يوجّه الحركة التّاريخيّة نحو الغايات السّامية، وهذا بخلاف المجتمع الرّاكد الذي يكون في مرحلة الحفاظ على النّوع فقط وساكن من حيث الفعل في التّاريخ، تتلوها مرحلة العقل التي تزدهر في ظلّها العلوم والأفكار والفنون، ثمّ ما تلبث الحضارة أن تفقد هذا التّوازن بين الرّوح والعقل، وتدخل في مرحلة ثالثة تستعيد فيها الغريزة سلطانها على الروح والعقل وتخنق أنفاسهما، ويفقد المجتمع الأسباب الأولى لحركته التي دخل بها إلى التّاريخ أي الفكرة الدّينيّة التي تتكيّف بها النّفوس.
وحال الإنسان المعاصر، بما هو فكرة ونموذج يريد أن يسود وأن يملك، هو تواجده في المرحلة الثّالثة، التي تعكس هيمنة الغريزة وتقويم النّظر والعمل تبعا للذّائقة الجماليّة الحسيّة، وبيان هذا، أنّ بداية الحضارة تكون في توهّج أخلاقي، وحاكميّة الأمر الإلهي على السّلوك الذي لن يكون إلاّ سلوكا مشتركا بسبب تماثل الفكرة الدّينيّة التي تحمل خصائص المجتمع الذي يتمثّلها كما تحمل النّطفة في أصلها كافّة الخصائص للإنسان فيما بعد، ومن الخصائص الجوهريّة للفكرة الدّينيّة أنّها ترفع التّطلعات الفرديّة من دائرتها الفرديّة إلى دائرتها الاجتماعيّة. بينما تسود الحالة الجماليّة وتقديس المظهر والموضة والنّزق (الطّيش والخفّة)، في مرحلة الغريزة، وعليه، فإنّ الإنسان المعاصر لن يمتصّ قيمه ومألوفاته وعوائده إلاّ من هذه المرحلة بما هي الإطار الحياتي الذي يحيا فيه هذا الإنسان. مرحلة متحلّلة ومحتقرة للماضي والتّاريخ، مرحلة تشبه رجل التزلّج الذي يجد سلامته في استمراره في السّير، ولا يجدها في توقفه. فما هي سِمات هذا الإنسان المعاصر تبعا لهذه المرحلة من مراحل الدّخول إلى مرحلة الغريزة والتفلّت من متطلبات الأمر الإلهي ومن مكارم الأخلاق؟
الإنسان المعاصر ذو منزع جمالي
يظهر ولع شديد للإنسان المعاصر  بما هو إنسان مائل إلى كلّ ما هو جميل وفق معايير مرحلة الغريزة وليس الجميل الذي يرفع للذّوق قيمته نحو جماليّات المكان وجماليّات الرّوح، حيث تسود في هذه المرحلة ظاهرة الموضة وتزيين الأشياء بما يبقي على الاستهلاك سائرا وحاكما على إدراكات الإنسان.
ومن مظاهر جماليّات هذا الإنسان، ظاهرة التّقديس الجمالي للإناث، وعبوديّة المظهر وتأثير الشّاشة، كما حلل ذلك «جيل ليبوفتسكي» في كتابه «مملكة الزّائل»، وتحوّل في طبيعة الأشياء ذاتها أيضا، فالرّياضة التي في أصلها أداة تعليم قيم الشّجاعة والفريق ، أضحت أداة من أدوات الاستعراض الجمالي للجسد، الذي حجب الرّوح التي في داخله، وباتت قيمة الجسد بشكله وتفاصيل عضلاته في المحكّ الذي يتقوَّم به. 
وقد سبق للفيلسوف الفرنسي المعاصر «جون بودريار» أن أشار إلى هذا التّحول في طبيعة الأشياء الذي ضرب دورها ووظيفتها، وذلك بحلول مرحلة الاقتصاد الرّمزي، الذي يحدّد قيمة الأشياء بناء على رمزيّتها التّجاريّة أو الماركة، وليس بناء على قيمته التّداوليّة الاستعماليّة، فالسّيارة ليست هي الوسيلة التي نتنقل بها، بل حلّت محلّها السّيارة الأجمل والأسرع والأفخم، واحتجبت القيمة الاستعماليّة للسّيارة، وينسحب هذا التّقديس لما هو جميل في ظواهر الثّقافة الإنسانيّة من فنون وصناعات ونفسيّات أيضا.
الإنسان المعاصر إنسان نرجسي
تؤكّد تحليلات التّاريخ، أنّ بداية المجتمع الذي يخرج من طور الوجود السَّاكن، تكون بحلول ظرف استثنائي، والظّرف الأكثر تأثيرا هو ميلاد فكرة دينيّة، تملأ الفراغ الثّقافي بالمعنى، وتبني لقوّة العمل المشترك نحو غايات سامية، وهكذا، فإنّ العمل الاجتماعي المشترك الذي تتكيَّفُ فيه الذّوات تبعا لتأثير الفكرة الدّينيّة الأخلاقيّة، هو الذي يكون في بداية الحضارة، بداية مرحلة الرّوح التي تقدّم الشّعلة الإيمانية لأجل الحركة و الانطلاق، إلاّ أنّ ما يجول أمامنا في الثّقافة اليوم، ليس العمل المشترك من أجل مبادئ سامية، بل النرَّجسيّة التي تعكس تحلّل الحسّ المشترك وميل الذّات إلى ما يوافق طبعها الغرائزي والطّبيعي، الذي لن يكون في الحقّ ميلا إلى السّامي والمتجاوز، بل ميل إلى اللّذيذ النّفسي الذّاتي الضّيّق وانغماس في الاستهلاك لمنتجات العولمة الإقتصاديّة. 
وإنّه من الآثار الإيجابيّة للنّرجسيّة، والميل إلى الذَّات وتوهُّم السَّعادة بتلبية رغباتها، أنّ الأنظمة السّياسيّة تزيد من وقود النّرجسيّة، وتدفع بالثّقافة الاستهلاكيّة إلى أبعد وجود إنساني مستهلك، وغرضها بهذا، هو إبقاء الذّات منغمسة في نرجسيتها، ومع متعها الجميلة، وصرف الاهتمام عن القضايا الإجتماعيّة والسّياسيّة التي ترسم سعادة المجتمع العام.
وبهذا، فإنّ إشاعة الاستهلاك وتشجيع النرجسيّة، هي الصّورة النّاعمة من صور الاستبداد السّياسي والاجتماعي، كما حلّل ذلك «تشارلز تايلور»  في كتابه « إزعاج في الحداثة». لأجل هذه النّهاية السلبيّة لإنسان النّرجسيّة اليوم، فكر « إدغار موران» في وضع أوامر سريعة لأجل سياسة حضاريّة، وفي طليعتها إحياء الأخلاق الاجتماعيّة بدلا من المسؤوليّة الفرديّة، والتّضامن بدلا من التّشرذم، والسّعادة عوضا عن العيش المشترك.
إن ذينك الوصفين للإنسان المعاصر، يؤكّدان أنّه إنسان لا يستقلّ بذاته، بل هو علامة على بداية ترسّخ أخطر مرحلة من مراحل الحضارة، وهي مرحلة الغرائز، بما هي تعبير مكثّف عن تحلّل الفكرة الدّينيّة التي كانت أداة الرّبط بين القلوب ضمن مهمّة تاريخيّة، واستعادة الغرائز لتحكّمها وخنقها للقوى الرّوحية والعقليّة، تجعل هذا الإنسان ليس نموذجا خلقيّا ومثالا ذهنيّا كما ترغب في ذلك الثّقافة الاستهلاكيّة، إنّما هو الشّكل الأخير من أشكال الإنحطاط، الذي لم يعد قادرا على الحركة والإبداع لقيم جديدة.
ولما كان هذا هكذا، فإنّ نقد هذا النّوع من الإنسان يعدّ واجبا فلسفيّا، وواجبا أخلاقيّا، لأنّنا لم نعد نبصر في هذا الإنسان، إلاّ مرحلته الأخيرة، المرحلة التي تعدّ إيذانا ببداية التّحلُّل، ولو أنّنا مشينا مع صورة هذا الإنسان، فإنّ سقوطه سيكون علينا وتحلّله سيكون تحلّلا علينا أيضا، وبدلا من هذه فإنّ الواجب العاجل، هو تصريف الاهتمام إلى إحياء قلب هذا الإنسان بتذكيره بدين الفكرة الدّينيّة الأصليّة التي كانت سببا في حركته الأولى، ونحن نعرف أنّ قانون انتقام الأفكار المخذولة سيعمل لا محالة في هذا الأمر، فخيانة الأفكار الأصليّة في الصّورة التي نراها مع الإنسان المعاصر، ستؤدّي به إلى الإنهيار، تماما مثل مهندس أو بنَّاء يخون قواعد الهندسة أو البناء في جسر أو عمارة، سيمرّ وقت من وقوفهما الظّاهر، لكن سينتهي إلى الانهيار والانتقام  بسبب خيانة القواعد الموضوعيّة في القانون العلمي.