تمتمات

بقلم
رفيق الشاهد
فعل مات لا يبنى للمتكلم
 كعادته، على وتيرة واحدة استفاق باكرا أبكر من صلاة الفجر التي لا يمكنه إقامتها، «إن قرآن الفجر كان مشهودا»، فقد يؤدّيها جلوسا على مقعده في عربة القطار. ودون تردّد، ولا وقت يسمح بالتّخاذل لأنّه استعدّ لهذه اللّحظة منذ البارحة قبل اللّجوء الى فراشه، اغتسل وحلق ذقنه، وأعدّ ملابسه حتّى لا يتعطّل عند مغادرته المنزل باكرا. انطلق بخطى حثيثة عبر مسلك ضيّق اعتاد تحسّسه في الظّلمة حتّى يأمن الوحل شتاء وغبار الأتربة صيفا. ولكن وفي كلّ الحالات، مسكين هذا الحذاء لا مفر لّه من هذا ولا من ذاك، وما أقرب حتفه لو لم يوفّر صاحبه البدائل احتياطا من التّلف المباغت.
متى يسمح لنفسه ارتداء سترة سويّة متكاملة وحذاء لمّاع مثل بقيًة الموظّفين الذين يبدون أكثر منه أناقة وأحرص منه على عنايتهم بملابسهم وبمظهرهم الخارجي؟ ليس لنقص في مال ولا افتقار للملابس التي ملأت الدّولاب. ولكن ارتداء أي من السّترات المتوفّرة توقف عند مناسبات الأفراح العائليّة لا لشيء إلاّ لأنّه تعوّد أن  يتكوّر لساعات طويلة في كرسي القطار الذي يمتطيه كلّ يوم ذهابًا وإيّابا أو أن يقرفص كما أتيح له على أرضيّة العربة إذا لم يتوفّر الكرسي رغم حجزه مسبقا. فأيّ البدلات تتحمّل هذا العناء دون أن تترهّل و تفقد رونقها. وما العمل حتّى يوفّق في المحافظة على أناقته التي تفرضها وظيفته وتناسب مركزه الاجتماعي؟ فهو يعتني بما في وسعه بمظهره وانسجام هندامه ويلتزم بالجاكيت أو ما يعوضها دون الاستغناء عن ربطة العنق لرمزيتها، ولكنّه تعوّد ألاّ يلبس من السّراويل إلاّ القطنيّة من نوع الجين الأسود أو ما يتناغم منها مع لون الجاكيت التي يتمّ اختيارها. هكذا تعلّم أن لا خيار إلاّ التّأقلم، عملا بسياسة المنظّمة الدّوليّة للأرصاد الجويّة في مجال مجابهة الكوارث الطّبيعيّة التي تتجاوز آثارها وأسبابها القدرات الذّاتية للدّول منفردة. 
في محطّة القطار وفي انتظار دخول قطار الخامسة وانطلاقه من جديد، يلتقي بخيال أجسام لأناس من جنس البشر يطمئن اليهم، إذ تعوّد رؤيتهم في نفس الوقت ونفس الظّرف، وكثيرا ما تجاذب معهم أطراف حديث قبل أن ينقطع بقدوم القطار لمواصلة بقيّة نوم ما أحوجهم إليها.
هي لحظات يستجمع خلالها بيان وتفاصيل أخبار المدينة التي لا يراها إلاّ ليلا من خلال مسافة تفصله عن داره التي يستعجل بلوغها. هل يكفي ما يحمله الفيسبوك من أخبار تدقّ هاتفه المحمول؟ هل بقي له أصدقاء محلّيون يستقصي منهم أنباء المدينة؟ هؤلاء رفقاؤه وشركاؤه في القطار، هم الذين أصبح يعود إليهم ويحاورهم على عجل، ويقطع قدوم القطار أحيانا نقاشا قد احتد ويطفئ أحيانا أخرى شعلة نميمة قبل أن تتّسع رقعة نيرانها وتأتي على كلّ ما تطاله ألسنة لهبها، ويكونون أوّل من يحترقون بها. 
ها هو القطار المنتظر. مثل الموت يأتي أخيرا ولا ينتظر. وحين يأتي يسلخ المسافر عن مرافقيه ويرمي بجميعهم جريا في أتون الحياة اليوميّة بضوضائها وضجيجها، ويتكفّل الزّمن فيما بعد بنسج خيوط شوق بينهم وضفائر، فحبال تتعاظم وتشتدّ يوما بعد يوم.  
لماذا الموت الآن؟ كيف تسرّب بيننا فجأة دون توقّع من أحد منا؟ هكذا هو يأتي دون إذن ولا يدخل البيوت من أبوابها ولا من نوافذها. إنّه لا يراها البتّة، فهو يخترق الجدران ويقضي حاجته وإنْ خلف أقفال لا فائدة من فتحها أو أغلال لا داعي لكسرها. 
غدا في نفس الموعد يعود القطار الى المحطّة من جديد، ليحمل مسافرين منهم من تعوّد نسق القطار فأحبّه طالما يوصله كلّ يوم الى مبتغاه، ومنهم من يركبه مدفوعا على مضض،  ومنهم من الجدد الذين مازالوا يستكشفون مقاعده وأزرار التّكييف. غدا أرواح قديمة وأرواح جديدة تحرّك أجسادا تبدو في الغبش تلك الأشباح نفسها التي تقيأها  القطار البارحة، وفي ظلمة اللّيل تفرّقت لتلتقي اليوم من جديد. هذه الأجساد قد تبدو نفسها، وتلك الأرواح مختلفة عبثت بها أعاصير الزّمان فصرّفت الحياة والموت مع كلّ الضمائر في الماضي والحاضر وفي المستقبل، إلاّ أنا ضمير المتكلّم لا يطالني الموت حيّا.