نقاط على الحروف

بقلم
جواد أحيوض
قراءةٌ في تحدِّياتِ التّراث بينَ الإقصاءِ والتّكامل: موقف الجابري الفلسفي من أبي حامد الغزالي (2/4)
 ماذا نعني بـِ «القطبيّة الرشديّة»؟:
نعني بـ«القطبيّة الرّشديّة» ذلك «الطّواف» الذي تدور عليه الفكرة المركزيّة للجابري، الزّاعمة أنّ ابن رشد فيلسوف قرطبة، يمثّل قمّة عليا في الفلسفة، أي الفلسفة العلميّة البرهانيّة!(1)، التي تنشد التّقدّم إلى الأمام دون أن تكترث بالعودة إلى الوراء، ذلك الوراء الذي يعني عند الجابري «الفكر الظلامي» الدّاعي إلى التخلّف.
ولعلّ ما يمثّل هذا «التخلّف الرّجعي» هو «العقل العرفاني الهرمسي الحراني» المتمثّل في «الفلسفة المشرقيّة»! وبالتّالي وجب القطيعة معه، وهذه القطيعة هي التي سمّاها بـ«القطيعة الابستمولوجيّة» المنشدة للتّقدم. وهي فكرة تبنّاها من فلسفة ابن رشد(2)، فما الهدف الذي توخّاه الجابري من «القطيعة الابستمولوجيّة»؟ 
ولكي نتحقّق من قيمة السّؤال المُثار، نريد أن نعرف لماذا ألحّ الجابري وهو يتحدّث عن الغزالي -الذي نعته بشتّى الأوصاف(غير موضوعي، ومشاغب، ومتجاوز) على إرجاعه إلى ابن سينا. وادّعى أنّ «البديل الذي دافع عنه وهو علم الكلام، الذي كان في عصره يحيل إلى المذهب الأشعري، قد لبس هو نفسه الفلسفة ولبسته»؟! بل إنّ الغزالي «تبنّى الحكمة المشرقيّة السّينويّة ذات النّزعة الصّوفيّة الهرمسيّة في كتبه، منها؛ إحياء علوم الدّين ومشكاة الأنوار»؟(3)وأكثر من هذا أصرّ الجابري أن يُرجع الفلاسفة الآخرين(الشّهرستاني والفخر الرّازي..) إلى ابن سينا أيضا، بكونهم كانوا أكثر امتدادا للسّينويّة. أليس من العجيب جداً، أن ينسب كلّ الفلاسفة الأشاعرة إلى «الحكمة المشرقيّة السّينويّة»؟! 
وإذا كان الجابري، يقول: «أنّ ردّ الغزالي على ابن سينا لم يكن بريئاً»، فنحن بدورنا نقول -عن وعي موضوعي- أنّ نسبته للفلاسفة الأشاعرة إلى ابن سينا بكونهم تبنّوا مفاهيمه الفلسفيّة، التي تغرف من الفلسفة الدّينيّة الهرمسيّة، ليس بريئاً (4)والفلسفة الهرمسيّة معناها نوع من المعرفة غير المعتمدة على المنطق الأرسطي، ومن المعلوم أنّ المنطق الأرسطي، كان هو الذي، يشكّل العلم حتّى القرن الثّامن عشر، وبتعبير أدقّ فإنّ الهرمسيّة هي المسمّاةُ بـ«العقل المستقيل» ومشكلة هذا العقل دائماً هي الهروب من المواجهة(5).
فماذا كان الجابري يريد إبلاغه لنا؟ أوَ ليس المذهب الأشعري يخالف المذهب الشّيعي؟ بل لننظر مرّة أخرى في قضيّة جمْعِه للفلاسفة السّينويّين (ابن سينا والطّوسي) والأشاعرة (الغزالي والشهرستاني والفخر الرازي) في بوتقة واحدة؛ «فلاسفة يجمعهم المكان والعيش في كنف أمير الزّمان»؛ كلّهم مشارقة (خراسان وحواليها) وقد كتبوا جميعاً بطلب من أمير. ويقصد الجابري  هنا، أنّهم مزدوجي الشّخصيّة، ومنظّرين للدّولة، وكتاباتهم لا تعبّر حقيقة عن آرائهم! وإنّما هي عبارة عن ردود أفعال وصراعات ايديولوجيّة: 
‌أ. فابن سينا -في نظر الجابري- ألّف بطلب من جـاره أو مـن أمير، وكتاباتـه تناولت وجهاً للعامّـة لا يعبّر بحقّ عن موقفه الخاصّ، ووجهاً يدعو فيه لفلسفة مشرقيّة لا تتقيّد بـ«المشّائية». 
‌ب. والطوسي (597-682 هـ) كان غامضا؛ إذ استقر مع الفرقة الإسماعيليّة (28 سنة) وعمل مع هولاكو (19 سنة) وأعلن في إحدى مواقفه أنّه من الشّيعة الاثني عشريّة ! 
‌ج. والغزالي لم تكن نيّته لوجه اللّه، بل باعثها طلب الجاه.(6)
وبعد كلّ هذا، نستطيع ان نتساءل؛ ما المشكلة ؟ 
من الواضح جدّا، أنّ هدف الجابري، كان الوصول إلى فكرته المركزيّة «القطبيّة الرّشديّة»(7) التي تمثّل النّموذج الأعلى للفلسفة، باعتبارها شخصيّة ذات بعد أخلاقي رصين وغير مزدوج، لم يكن لها انتماء الى فرقة معيّنة، ولم تكن تطمح الى تأسيس مذهب، ولم تكن معنيّة بالخلفيّة الايديولوجيّة كما هو الشّأن بالنّسبة للغزالي وابن سينا! (8)
ومن هنا نفهم بشكل واضح أنّ الجابري كان يريد الوصول إلى ما يسميه «بالقطيعة الابستمولوجية» من خلال «مشروع قراءة جديدة لابن رشد» وذلك عبر دحض فلسفة الغزالي وتجاوزه له بتجاوز الفلاسفة الأشاعرة أنفسهم «لحجة إسلامهم» من جهة. ومن جهة ثانية بردِّ كلِّ الفلسفة الأشعريّة إلى الفلسفة المشرقيّة السّينويّة. ومن هنا تأتي «الضربة الحقيقيّة الجابريّة» القائلة بأنّ الفلسفة المشرقيّة لم تتجاوز سقف «العرفان»(9) وبقيت محصورة فيه، إلى أن جاء الفيلسوف المغربي «ابن رشد» الذي خلع الحجاب عن هذا السّقف(10) بخلق إطار نظري آخر يقوم أساساً على «الفصل بين الفلسفة والدّين، حتّى يتأتى لكلّ واحد منهما الحفاظ على هويّته الخاصّة، ويصبح في الإمكان رسم حدودهما وتعيين مجال كلّ منهما من جهة، والبرهنة من جهة أخرى على أنّهما يرميان إلى نفس الهدف»(11)، وبمعنى آخر تجاوز ابن رشد السّقف العرفاني إلى السّقف البرهاني، حيث أحدث قفزة جبارة، متمثّلة في العقل «الواقعي العملي» الذي وقف بالمرصاد أمام «العقل الباطني» الذي يريد أَنْ يجعل نفسه مطابقاً لشيء آخر خارج الواقع، وبالتّالي نظرته للعالم؛ نظرة تريد أَنْ ترى العالم على غير ما هو عليه، فهو إذاً يستمد مرتكزه من خارج الواقع المعطى(12). 
 تعسفات القطيعة الابستمولجية
«القطيعة الابستمولوجيّة» -(التي ضرب بها الجابري عصفورين بـ «ضربة قاضية واحدة» فتجاوز بها الغزالي أولاً، وقطع بها مع «الفلسفة المشرقيّة بمجملها» ثانياً، عندما جعل «الفلسفة المغربية» عامّة و«الرشديّة» خاصّة تتربّع فوق العرش)- نرى فيها كثيراً من التّعسّف الجابري الايديولوجي والسّياسي، خاصّة على الغزالي. أو ليس مجحفاً أن نحصد ابن سينا بالقطيعة الابستمولوجيّة الاستعلائيّة الاقصائيّة بعد أن نربط الفلسفة «الأشعرية» كلّها بابن سيناء؟؟
إن الغزالي أُقصيَ حقاً من تراث الجابري في ضوء قراءته الجديدة، إذ لا نجد له مكاناً بين الفلاسفة، الاّ مكان القنطرة المفضية الى الضّفة المرجوة. لها مكانة في العبور فقط، لايصال فكرة ما. ولكي يخلع الجابري الغزالي من قائمة الفلاسفة، هيّأ له قراءةً ايديولوجيّة، ذات طابع خاصّ، لا روح فيها، غير روح طابع ابن رشد. وذلك بتوجيه مجموعة من الادعاءات له، تتناقض تماماً مع الحقيقة الموضوعيّة التي قال بها الغزالي كفكر نظري وعملي في الآن نفسه. فلننظر إذن  في هذه «الدعاوى» الموجّهة للغزالي، ما نوعها؟ وما مدى صحّتها؟
حاولنا في هذا الإطار، أَنْ نجمع الدّعاوى الموجّهة للغزالي، فوجدناها تقريبا خمسة عشر دعوى، وذلك من خلال الكتب التّالية:
- «تهافت الفلاسفة: انتصارا للروح العلميّة وتأسيسا لأخلاقيات الحوار، مع شروح للمشرف على المشروع»  وذلك في الصّفحات التّالية:(22-24 و 31-32 و 42 و 44 و 50 و 51-52)
- «سيرة ابن رشد» في الصفحات: (138-142 و 144 و 147)
- «نحن والتراث» الصفحة 217. 
- «الكشف عن مناهج الأدلة» وذلك في الصفحة 31.
تحتاج أشباه الدعاوى هذه في حقيقة الأمر إلى دراسة مستقلّة، لكنّنا سنحاول أن نركّزها في النّقاط التّالية:
•الأولى: أنّ الغزالي بقي في علم الكلام دون ان يتجاوزه، مما يعني؛ نفي الفلسفة عنه، أي انه لم يصل إلى مستوى الفلسفة.
• الثانية: أنّ الفلسفة التي عارضها الغزالي لم تمت، بل أنّ الغزالي لبس الفلسفة ولبسته.
• الثالثة: سبّ الغزالي للفلاسفة.
• الرابعة: أنّ الغزالي لم يصل إلى مستوى البرهان الذي طالب به نفسه ليحاكم به الفلاسفة، أي محاكمتهم بمنطقهم.
• الخامسة: تبنى الغزالي (الحكمة المشرقيّة) السّينويّة ذات النّزعة الصّوفيّة الهرمسيّة في كتبه منها؛ إحياء علوم الدين ومشكاة الانوار 
• السّادسة: الغزالي له طابع إيديولوجي مزدوج، ولم تكن نيّته خالصة لوجه اللّه بل باعثها طلب الجاه.
• السابعة: تعصب الغزالي للمذهب.         
• الثامنة: أنّ الغزالي لم يراعِ في كتابه الجمهور غير المتعلّم! 
فلنمض إلى الوقوف على بعض هذه الادّعاءات، ولنرى مدى زيفها، ونحن نزعم أنّ الجابري كان لاغياً للغزالي من التّراث بطريقة غير مباشرة، من خلال ما ذهبنا إليه سابقاً ومن خلال منهجه الايديولوجي الذي اعتمد فيه على: أنّ «الـ(ما بعد) يفسر الـ (ما قبل) والـ (ماقبل) يفسر الـ (ما بعد)» أي أنّ الجابري درس الفلسفة واضعاً الغزالي وسط «الـ(ما قبل) والـ(ما بعد)» دون أن يسلّط عليه الضّوء من خلال كتبه نفسها، كما فعل مع الفارابي وابن سينا، وبشكل مبالغ فيه مع ابن رشد! وهل يكفِ أَنْ نعلّل أقوالنا بدراسة شخصيّة معيّنة، متوسّلين في ذلك بدراسة التّاريخ الذي كان قبلها والتّاريخ الذي جاء بعدها، دون الوقوف على الشّخصيّة نفسها وقوفا موضوعيّا، يستحضر كلّ المؤثّرات الدّاخليّة والخارجيّة التي ساهمت في إنتاج أفكارها مع ربط ذلك كلّه بالسّياق التّاريخي؟؟! إنّنا بهذه النّظرة الجزئيّة لا يمكن أن نصدر إلاّ أحكاماً؛ إمّا متطرّفة أو لا أساس لها من الصّحة؛ لأنّ الرُّؤية غير واضحة؛ كالذي يسلّط الضّوء على منزل ما، مِنْ أمامه فيحجب عنه الوراء، أو من ورائه فيحجب عنه الأمام. ولنفرض جدلاً أنّه سلّط الضّوء من الجهتين؛ الأماميّة والورائيّة، هل يغنيه ذلك عمّا يوجد داخل المنزل؟!
 المنهج الذي تعامل به الجابري مع الغزالي مقصود، وهذا واضح وضوح الشّمس في كتابه «نحن والتراث». وللقارئ الفاحص المدقّق سهولة اكتشاف ذلك، حيث وضع الفلاسفة كلّهم في إطار الدّراسة دون أنْ نجد للغزالي مكاناً بينهم، رغم أنّه شكّل تحوّلا جذريّا في مسار الفلسفة، على مستوى الفكر والنّقد والمنهج، بل، وإعادة النّظر في ترتيب الحقل المعرفي التّقليدي المعتمد، الى حقل معرفي جديد(13). 
وأكثر من هذا، فإنّ الجابري، لم يلتزم بمنهجه الذي وضّح معالمه في قراءته الجديدة للتّراث؛ حيث لم يُخضع فكر الغزالي  للمقاربة البنيويّة، التي تتلخّص أسسها في معاملة فكر صاحب النّص ككلّ تتحكّم فيه ثوابت، ومحورته حول إشكاليّة واضحة وصريحة، تستوعب كلّ المتغيّرات والتّحوّلات التي يعرفها هذا الفكر، بشكل تجد معه كلّ فكرة جزئيّة مكانها داخل هذا الكلّ(14). الّا أنّ الجابري وظّف المقاربة الايديولوجيّة فقط، تعسّفا على كليّة الغزالي الفكريّة التي لا تقبل التّجزئة، وذلك بغية الوصول الى طرحه الأيدولوجي السّالف الذكر. 
بعد هذه الملاحظة المنهجيّة الإجرائيّة، سنقف بالتّحليل والنّقد على الدّعاوى الموجّهة للغزالي، وهذا موضوع الحلقة الثالثة من هذا البحث.
الهوامش
(1)   انظر كتابه «بنية العقل العربي: دراسة تحليلية نقدية لنظم المعرفة في الثقافة العربية» مركـز دراسـات الوحـدة العربيـة. [ط1 بيروت/يونيو 1986. ط2 بيروت/أغسطس 2009] وفيه يحدّد هذه البنية في ثلاثة أنظمة معرفية؛ النظام البيانـي، النظام العرفانـي، والنّظام البرهاني، والجابري يؤيّد هذا الأخير، ويحتفي به، ويمثله ابن رشد. ص (382-477)
(2) «نحن والتراث: قراءة معاصرة لتراثنا الفلسفي» المركز الثقافي العربي. ط6-1993، انظر ضمنـه دراسـة بعنـوان [مشروع قـراءة جديدة لابن رشد] ص (211-260)
(3) محمد عابد الجابري «سيرة ابن رشد: سيرة وفكر، دراسة ونصوص» مركز دراسـات الوحـدة العربيـة، بيروت لبنـان. ط1 -أكتوبر 1998، ص (138) ثم المرجع السابق، «تهافت التهافت» ص(21 و 24)
(4) تهافت التهافت/ نفس المرجع (ص39)
(5) راجع «بنية العقل العربي» الباب المتعلق بالعرفان.
(6) «تهافت التهافت/ نفس المرجع» ص(29-33) -«نحن والتراث» ص (90-97) 
(7) المرجو العودة الى  دراسة إحصائية حول المؤلفات التي تناول فيها الجابري ابن رشد لعبد النبي الحري [باحث مغربي] تحت عنوان: حول ترشيد الجابري لـ «الإسلام السياسي» مجلة المستقبل العربي، مركز دراسات الوحدة العربيّة، العدد 415 أيلول/ سبتمبر 2013.
(8) «ابن رشد، سيرة وفكر/ دراسة ونصوص»، مركز دراسات الوحدة العربيّة/ بيروت، ط١/ أكتوبر 1998. ص(139-140) 
(9) «نحن والتراث»/ نفس المرجع. ص (51-52)
(10) دمج الفكر الفلسفي اليوناني في بنية الفكر الدّيني الإسلامي، أي كان هذا السّقف السّينويّ -الذي أرجعت إليه كلّ الفلسفة الأشعريّة- يقرأ العقيدة الإسلاميّة والفلسفة الأرسطيّة معاً بواسطة النّظرة الفلسفيّة الدّينيّة، التي نشرتها مدرسة حران، والتي كرّستها نظريّة الفيض الفارابيّة. 
(11) اقصد تجاوز الجابري للغزالي.
(12) أقصد تجاوز الجابري للغزالي. في ما يتعلق بـ «العرفان» نرجوا الرجوع إلى «بنية العقل العربي» ص (251-371) 
(13) أقصد تجاوز الجابري للغزالي. «نحن والتراث» ص 213.
(14) محمد عابد الجابري «مواقف: إضاءات وشهادات» الكتاب: 15، ط4 ، مايو 2003، (ص45-54)