فواصل

بقلم
د.مصدق الجليدي
العقلانية الحديثة والمسألة الدينية (1/2)
 اعتبر أحد فلاسفة الحداثة بالجامعة التونسية من ذوي التوجه التفهّمي«أنّ الدّين هو أكبر مؤسسة معنى اخترعها النوع البشري من أجل تدريب البشر على تحمل عبء الكينونة في العالم وتحويلها إلى مشروع أخلاقي لأنفسنا. ولولا الدين لكان النوع البشري قد انقرض منذ وقت طويل» (1). 
هذا القول لا يتبنّى الدّين اعتقادا فيه، بل يتبنّاه من جهة وظيفته الوجودية والوجدانية والنفس- اجتماعية والقيمية بالنسبة لأعداد هائلة من البشر على مر العصور.  في هذه الفقرة نفي ضمني للمصدر الإلهي للدين، وإنكار ضمني للوحي، بما أن «الدّين مؤسّسة من اختراع البشر» كما جاء فيه. 
في الحقيقة يستحيل على فيلسوف الحداثة أن يقول قولا غير هذا؟ وهو إن لم يقل الحقّ ضرورة، فإنّه قد قال ما اعتقد أنّه الحقّ، وقال ما استطاع قوله فحسب، لأنّ خلافه، وهو أنّ الدّين، في التّقليد التّوحيدي، ليس اختراعا بشريّا، حتّى وإن وجد في التّكوين البشري ملكة تصديقه، وقبل تصديقه التشوّف إليه، وهي الفطرة، هو (خلاف القول ببشريّة المؤسّسة الدّينيّة) طور من فوق طور عقل الفيلسوف، والعقل البشري بصفة عامّة كما يعرّفه الفيلسوف الحداثي، إذ أنّ بعض التّعريفات المابعد حداثيّة للعقلانيّة تتّسع لمعانٍ لا مكان لها في العقلانيّة النقديّة مثل الحبّ والتّوبة (إدغار موران). 
على أيّة حال، إذا ما طابقنا بين العقل والذّكاء، فليس بمقدور العقل أبدا أن يبني موضوعات الغيب أو أن يسلم بها، لأنّ للذّكاء نفس تمفصلات المادّة كما يقول «برغسون»، ولذلك جاءت اللّغة التي هي الوجه المكمّل للفكر في عُملة العقل، بنْيات من تعبيرات مكانيّة. ألا ترى أنّنا لما نريد أن ننوه بقيمة فكر نقول إنّه فكر عميق، والعمق بعد من أبعاد المكان، وعندما نريد أن ننوه بصاحب الفكر العميق، نقول إنّه مفكّر كبير أو عظيم، وهما صفتان تشيران إلى تحيّز مكاني هائل. ولذا فلا يمكن للعقل بما هو ذكاء أن يجتاز ما ليس من طبيعة غير مادّية. فحتّى الزّمان الذي هو البعد الرّابع في إحداثيّات حركة الأجسام يتمّ التّمثيل عليه بمحاور أو بنقاط أو بخطوط في المكان (أبعاد الرّسم على ورقة الخطّ البياني للحركة). 
 حقّا إنّ الأخذ بالدّليل الأنطولوجي لديكارت على وجود اللّه يندرج ضمن الاختراع البشري لفكرة الإله، كما انتبه إلى ذلك كانط عندما نقد ذلك الدّليل، في كتابه «نقد العقل الخالص» وذكّر ديكارت بأن وجود فكرة مبلغ مائة روبل في عقله لا يعني وجود ذلك المبلغ في جيبه. كما أنّ عقلانيّة ابن رشد التي أرادت أن تتّسع لمعنى الإيمان من خلال دليليْ العناية والاختراع لا تفيدنا بصفة قطعيّة حقّا على وجود اللّه، إذ أنّ ذينيك الدّليلين قد يثبّتان قلب المؤمن ﴿أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَٰذهِ إِيمَانًا﴾ (2)، ولكنّهما لا ينشئان معنى الإيمان ضرورة في عقل منكره. فكلّ محاولة لاستخدام «هذا العقل» لإثبات الغيب وحقيقته إثباتا قاطعا إن هي إلا محاولة واهمة وفاشلة. لأنّ «هذا العقل» ليس أداة للإيمان أبدا. 
يمكن في تعريف آخر للعقل، أي في مفهوم آخر له، أكثر اتساعا، أن نقول أنّه بإمكان العقل أن يطمئنّ لحقيقة الوجود الإلهي. وهذا المفهوم الأكثر اتساعا للعقل يجب ألا يُنشَأ من طرف هذا العقل الأقل اتساعا، وإلاّ لوقعنا في ادعاء زائف وفي الوهم من جديد، وإنّما لهذا العقل المحدود أن يدرك ما بعديّا أنّه أمكن لفؤاد آخر من أفئدة صاحبه أن يصل إلى تجربة الإيمان واليقين ﴿وَٱللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَٰتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْـًٔا وَجَعَلَ لَكُمُ ٱلسَّمْعَ وَٱلْأَبْصَٰرَ وَٱلْأَفْـِٔدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾(3) . من الأفئدة الغريزة، وأنواع الذّكاءات التّسعة (المنطقي، التقني، الحس- حركي....الخ) والوجدان، وملكة الحكم الجمالي، والعقل العملي، والحدس الرّوحي، وما قد لا نعلمه أيضا. فالعقل مثلا لا ينفعل غضبا ولكن بإمكانه أن يدرك أن صاحبه قد غضب وانفعل بملكة أخرى غير العقل، وهي التي سماها القدامى النّفس الغضبيّة. ونسمّيها اليوم الوجدان أو الانفعال emotion  الذي نميزه عن الcognition
ويمكن للعقل أن يدرك أنّ صاحبه بصدد التلذّذ بوجبة ما ولكن ما يتلذّذ ليس العقل حتّى وإن كان مركز التلذذ موجودا في الدماغ، كما أن التفكير مركزه الدّماغ أيضا. فليس كلّ الدّماغ عقلا، ففيه الخيال أيضا والذّاكرة ومراكز الإدراكات الحسّية بأنواعها ومدارك أخرى. بل إن «برغسون» قد ذهب في كتابه «المادّة والذّاكرة» إلى أبعد من ذلك، وهو قوله بأنّ الذّاكرة المفاهيميّة غير ذات الصّلة بالحركة لا توجد في المادّة أصلا، انطلاقا من فحصه لتقارير تجارب كلينيكيّة أجريت على من أصيبت أدمغتهم خلال الحرب العالميّة. وهو بهذا يلتحق، من طريق آخر، بالغزالي في قوله بعدم وجود الرّوح في الجسم ولا في أي جزء منه، مستدلاّ على ذلك بأدلّة هندسيّة فائقة التّعقيد، في الكتاب الذي اختُلِف في نسبته إليه «معارج النّفس في مدارج القدس». 
العقلانيّة الحديثة منذ «داروين» ثمّ «فرويد» لا يمكنها القبول بكلّ هذا، لأنّ لديها تصوّر اثنيني للإنسان: مادّة ونفس (وليس روحا). والنّفس لدى «فرويد» تبدأ منذ القشرة اللّحائيّة التي بها شبكة الأعصاب المستقبلة للمثيرات الخارجيّة.  وقد فسّر «فرويد» ظهور الدّين وفكرة الإله، في «الطّوطم والمحرّم» من خلال أسطورة الأبناء الذين قتلوا أباهم الذي استأثر بإناث المعشر كلّهن من دونهم، ثمّ ندموا على قتلهم إيّاه، فاتخذوه إلها واتخذوا له تمثالا وعبدوه. 
خلاصة القول إنّ فيلسوف الحداثة صادق مع نفسه ومتّسق مع تكوينه العقلي عندما يقول إنّ الدّين اختراع بشري. لا يستطيع هذا العقل الحداثي (الصّغير) أن يستوعب كلّ هذا الوجود الكبير، فلا يستوعب منه إلاّ ما يدركه، وهذا منطقي رغم أنّه لا يعكس حقيقة الوجود ضرورة، فلعلّه يوجد في الوجود ما لم تُجَهَّز حواس الإنسان لإدراكه، وبالتّالي لا يمكن لعقله تجريده من الحسّ وصوغه في وضعيّة مفهوم كلّي. وهذا ما انتبه إليه ونبّه إليه ابن خلدون منذ ما يزيد عن ستّة قرون. 
يقول ابن خلدون في مقدّمته الشّهيرة: «واعلم أنّ الوجود عند كلّ مُدرِك في بادئ رأيه أنّه منحصر في مداركه لا يعدوها، والأمر في نفسه بخلاف ذلك، والحقّ من ورائه. ألا ترى الأصمّ كيف ينحصر الوجود عنده في المحسوسات الأربع والمعقولات وسقط من الوجود عنده المسموعات. وكذلك الأعمى (الأكمه) أيضا يسقط من الوجود عنده صنف المرئيات، ولولا ما يردهم إلى ذلك تقليد الآباء والمشيخة من أهل عصرهم والكافّة لما أقروا به. لكنّهم يتّبعون الكافّة في إثبات هذه الأصناف، لا بمقتضى فطرتهم وطبيعة إدراكهم. ولو سئل الحيوان الأعجم ونطق، لوجدناه منكرا صنف المعقولات وساقطة لديه بالكليّة. وإذا علمت ذلك فلعلّ هناك ضربا من الإدراك غير مدركاتنا، لأنّ إدراكاتنا مخلوقة عنده وخلق اللّه أكبر من خلق النّاس، والحصر مجهول والوجود أوسع نطاقا من ذلك، واللّه من ورائهم محيط، فاتّهِمْ إدراكك ومدركاتك في الحصر، واتبع ما أمرك الشّارع به في اعتقادك وعملك، فهو أحرص على سعادتك، وأعلم بما ينفعك، لأنّه من طور فوق إدراكك، ومن نطاق أوسع من نطاق عقلك» (4) . 
لذا، فإنّ هذا الإنسان الحداثي لا يختلف في أنويّته (تمركزه حول ذاته) عن أنويّة سلفه السّاذج في ما قبل الثّورة الكوبرنيكيّة الذي بنى نظام العالم في عقله انطلاقا من إدراك حواسه لبعض ظواهره. فظنّ أنّ الشّمس تدور حول الأرض لأنّه يراها كذلك بعينه المجرّدة، وظنّ أنّ ما يراه بوضوح الشّمس لا يمكن أن يكون إلاّ حقيقة لا يرقى إليها الشّك. والانقلاب الذي حصل في علم الفلك تلاه انقلاب في نظريّة المعرفة، وهو ما خصّص له «كانط» كتاب «نقد العقل الخالص» لشرح كيف أن بناء القضايا التّأليفيّة ممكن ما قبليّا. و«كانط» هذا نفسه، كان له من التّواضع والحكمة، ما جعله يقول: «وضعت حدّا للعقل لأفسح في المجال للإيمان». «كانط» الفيلسوف العظيم الذي أمعن في نقد العقل والميتافيزيقا الدّغمائيّة، وهو ما سمح له بقول «لا إله»، أي لا إلاه يمكن البرهنة عليه بالعقل، أردف قوله ذاك بـ «إلّا اللّه»، أي لا يوجد إله إلاّ هذا الذي تتيحه لنا قدرتنا على الإيمان به. 
العقل الكانطي في صيغته العمليّة قد سوّغ لنفسه مسلّمات حرّمها على العقل في صيغته النّظريّة الخالصة، ومن هذه المسلّمات «الإيمان باللّه» (وخلود النّفس)، فهل كان كانط خارج العقل أم ضمن حدوده عندما شرّع للعقل العملي ما حرّم منه العقل النّظري؟  فلماذا نعتبر كانط عقلانيًّا عندما أكّد على محدوديّة العقل النّظري على معرفة الأشياء في حدّ ذاتها، ونتّهمه «خُفية» باللاّعقلانيّة عندما أفسح مجالًا للإيمان؟
هل القدرة على الإيمان وهم اخترعه أحدهم أو بعضهم في غابر الأزمنة، أي في ما قبل «الأزمنة الحديثة»؟ فلماذا إذن أبدى الإنسان، مليارات البشر أعني، استعدادا لدخول الحداثة في وجوهها المعرفية والمادية والسياسية والتنظيمية والاجتماعية المختلفة، ومع ذلك ما زالوا قادرين على الإيمان؟ لماذا لم تنتزع العقلانية القدرة على الإيمان وإمكانية الإيمان من الإنسان، كما انتزعت منه كل الأوهام الخاصة بتفسير ظواهر العالم المادية والنفسية والاجتماعية، بعد أن مدّته بتفسيرات بديلة عن أوهامه تلك؟ ببساطة لأن القدرة على الإيمان توجد في ملكة أخرى غير ملكة الذكاء وملكة العقل بتعريفه النقدي الحداثي. الإيمان مسألة فطرية. أي في صميم التكوين الروحي المتصل بالتكوين البيولوجي للإنسان. العقلانية الحديثة قدمت أجوبة مناسبة ورائعة على عدد لا حصر له من أسئلة الإنسان والبشرية، عبر العلم والتكنولوجيا وعبر التنظيمات الحديثة وعبر الديمقراطية وغيرها من إنجازات الحداثة، لكنها عجزت وظلت عاجزة وستظل عاجزة عن الحلول محل الإيمان في الإجابة عن معنى الوجود وسره ومنشئه ومآله وعن موقع الإنسان فيه. بقي أن هذه الأشكال التاريخية والاجتماعية والثقافية التي اتخذها الإيمان والتي تسمى شرائع وسنن، لا يمكن للأفراد بمفردهم أن يتوصلوا إليها، ولا يمكن أن تظهر لديهم فطريا كظهور الإيمان. كما أن هذا الشكل التوحيدي للإيمان ليس بديهيا من الناحية الأنطروبولوجية رغم منطقيته الكبرى. ومن هنا جاءت النبوات والرسالات. هذا الشكل المضبوط والمقنن بدقة والمفتوح مع ذلك على إمكانات تأويل لا حد لها للإيمان التوحيدي كما في الإسلام، جاء عن طريق شخص النبي الذي أخبر قومه ومن جاورهم من الأقوام والشعوب والأمم أنه مرسل من عند الله بالوحي والرسالة الخاتمة. صعد الرّسول(ﷺ) يوما، في بداية دعوته، إلى الصّفا، ثم اعتلى أعلى حجر عليه، ثم صاح: «يا صباحاه» (وفي رواية «يا صاحباه»)، وهو نداء متفق عليه للإنذار من أمر جلل، كهجوم عدوّ ونحوه، وطفق ينادي على بطون قريش واحدا واحدا: بني فهر، بني عدي، بني عبد مناف، بني فلان، بني فلان...الخ، حتى اجتمعوا لديه، فقال لهم: «أرأيتُكم لو أخبرتكم أن خيلا بالوادي بسفح هذا الجبل تريد أن تُغِير عليكم، أكنتم مُصدِّقِيَّ؟». قالوا: «نعم. ما جرّبنا عليك كذبا، ما جربنا عليك إلا صدقا.». قال:» فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد». ثم دعاهم إلى الحق وأنذرهم من عذاب الله» (5). 
رمزية هذا الموقف عظيمة جدا. الرسول(ﷺ) يقف في موقع معرفي وفي موقف وعي يسمح له بالإخبار عما وراء الوعي المشترك لقومه (ولعموم البشر)، أي يخبرهم عن ماورائيات لا يصلون إليها بأنفسهم، لأنهم لم يرتقوا حيث ارتقى (مكانة النبوة والرسالة) ويطلب منهم تصديقه لكونه لم يُجرّبوا عليه كذبا قطّ. فصدّقه من صدّقه وكذّبه من كذّبه، ولكن في النهاية صدّقوه ونصروه وكوّنوا نواة الأمة الإسلامية ونقلوا رسالة الإسلام للعالمين وأسسوا بها حضارة عالمية انطلاقا من ذلك الموقف الرمزي التّصديقي المؤسس الأول.  التّمأسس الأول للدين عقيدة وشريعة لدى الأمة الإسلامية لم يكن بفعل إلهام فردي تكرّر عند كل واحد من أفراد ما تشكلت بهم لاحقا الأمة. لا، بل بفعل إيمان وحيد وفريد ومتفوق. هو إيمان النبي بفعل الاصطفاء. «يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين»(6). وليس معنى يؤمن للمؤمنين هو تصديقه لهم في ما يقولونه من صادق الأخبار فحسب، كما ذهب إلى ذلك عموم المفسرين، بل معناه كذلك في رأينا أنه يؤمن الإيمان الأول اللازم لتبليغه إلى باقي المؤمنين. إذ لولا تصديق الرسول بكل ما أنزل إليه من ربه هو أولا، ما كان بالإمكان أن ينعقد ذلك الإيمان بمختلف مضامينه المفصّلة في الوحي، في قلوب المؤمنين. فهنالك قوة تصديق ويقين أوّل انتقل إلى بقية أفراد أمة الإيمان بفعل التصديق التالي المتعدّد. فهل صدّق المؤمنون النبي في عصره وفي كل العصور التي تلت ظهوره بفعل العقل كما تعرّفه العقلانية الحديثة؟ طبعا لا، فذلك المفهوم للعقل لا يقود يقينا للإيمان أبدا، فضلا عن أنه لم يكن موجودا قبل الازمنة الحديثة. هنالك بعد آخر منسي في فعل الإيمان، عدا الفطرة. الفطرة هي استعداد أول عام للإيمان ولكل شعور نبيل ولكل عمل خيّر وصالح، ولكن تعيين الشكل السليم للإيمان (التوحيد) والشكل الأسلم للأخلاق (مكارم الأخلاق في تمامها وكمالها) والشكل السليم للعبادة وللعمل الصالح (الشريعة) كان لا بد لكل ذلك من تعيّن وتحديد قولي وفعلي، وكانت رسالة الوحي وكانت سيرة الرسول وسنته الحية هي التعيّن الوظيفي المناسب للإيمان من حيث مبدئه التوحيدي مطلقا. التطابق التام بين استعداد الفطرة للإيمان وبين سيرة الرسول القدوة (الصّادق الأمين) هو ما منح التصديق قوته اللازمة للتحول إلى إيمان بعقيدة وبمنظومة قيم وبشريعة كالديانة الإسلامية. قبل الإسلام كان التصديق يتم بالانبهار والدهشة بفعل المعجزات الخارقة. ومع الإسلام كان التصديق هو خروج الإيمان من القوة (الفطرة) إلى الفعل، بفعل القدوة. الإيمان بالقدوة في الإسلام هو مسلّمة العقل العملي مصحوبة بيقين روحي. القدوة المعاينة بالصّحبة، أو المعاينة بالنقل التاريخي والتراث وبقوة النص القرآني والممارسة الجماعية والإحياء والتجديد الديني.
أخيرا، يمكن القول إن قول صديقنا الفيلسوف (فتحي المسكيني) يقف في موقع أضعف رفض ممكن للدّين وأكبر مساندة تفهّمية له في نفوس أتباعه كشكل وعي تاريخي وثقافي جماعي، ولكنّه يبقى في النّهاية موقفا دِهريّا وضعيّا مشوبا بمسحة فنومنولوجيّة تفهميّة، يفتقد لتواضع العلماء التّواضع المعرفي الاضطراري الأقصى، الذي يعترف بأنّ «هذا العقل» قد قُدّ على قياس موقف رافض للغيب، وليس لأنّه قادر على إثبات انعدام الغيب. إنّ العائق الابستمولوجي الأكبر أمام الإيمان لدى العقل الحديث هو اكتفاؤه على الدّوام ببناء العلم اعتمادا على ملاحظة التّكرار المنتظم للظّواهر الطّبيعيّة والإنسانيّة والتّسليم بإطراد وقوعها إلى ما لا نهاية له، وهو ما اعتبر «كارل بوبر» ضرورة ميتافيزيقيّة للعقل العلمي، لا يمكن تصحيح خطئها الممكن إلاّ بالقابليّة المستمرّة للدّحض. لكنّ هذا العقل الحداثي يتجاهل أنّ هنالك حوادث وظواهر في الطّبيعة قليلة الوقوع أو نادرة الوقوع أو لا تقع إلاّ مرّة واحدة في عمر الكون (مثل الانفجار الكوني الأوّل بحسب نظريّة البيغ بانغ، ومثل اعتقاد المسيحيّين والمسلمين بمولد عيسى عليه السّلام من دون والد)، عندما تتظافر عوامل وشروط لا حصر لها في لحظة معيّنة لوقوعها، ثمّ تستمر حركة الكون في مساراتها المتشعّبة بعيدا عن نقطة التّقاطع الفريدة التي ظهر فيها الحدث الوحيد. فكيف يمكن بناء علوم ومعارف يقينيّة لحوادث ووقائع وظواهر لا تحدث إلاّ مرّة خلال مئات السّنين أو في عمر الكون بأسره؟! إن التّعقّد الفائق للظّواهر الطّبيعيّة والإنسانيّة يتطلّب حقّا التّواضع المعرفي والحذر المعرفي والتّنسيب وتعليق الحكم (الإيبوخيه: هوسرل) لا كصدقة فنومنولوجيّة تفهّمية يتصدّق بها الفيلسوف على الجنس البشري الذي لم يخل من الإيمان بأشكال مختلفة أبدا، وإنّما كإذعان من صاحب الوعي المحدود لعظمة الوجود اللاّمحدود.
الهوامش
(1) د. فتحي المسكيني، اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ واﻟﺪّﻳﻦ: موقع «مقالآت مفكرين ومثقفين عرب» 12/11/2021
 https://www.facebook.com/113740244084860/posts/304427488349467
(2) سورة التوبة - الآية 124 
(3) سورة النحل - الآية 78
(4) ابن خلدون، عبدالرحمان، المقدّمة، ج 2 الدار التونسية للنشر، 1984 ص.56 
(5) أخرجه البخاري في التفسير، ومسلم في كتاب الإيمان، وأحمد في مسنده، وكلهم عن ابن عباس
(6) سورة التوبة - الآية 61