نقاط على الحروف

بقلم
جواد أحيوض
قراءةٌ في تحدِّياتِ التّراث بينَ الإقصاءِ والتّكامل: موقف الجابري الفلسفي من أبي حامد الغزالي نموذجا
 مقدّمة
يعد «أبو حامد الغزالي» أحد أقطاب الفكر الإسلامي، في القرن الخامس الهجري، كما يعد «محمد عابد الجابري» من أبرز الشّخصيات في الفكر العربي الإسلامي المعاصر، التي ساهمت في إغناء المكتبة العربيّة الإسلاميّة والعقل العربي أيضاً. ومن الطّبيعي أنّ التّفكير الإنساني مبني على التّراكمات المعرفيّة، وعلى هذا الأساس يكون «الجابري» باعتبار التّاريخ (١٩٣5-2010م) قد فكّر من خلال من سبقه، وبنى معرفته عليهم، سواء كانت هذه المعرفة مؤيّدة أو ناقدة أو تجاوزيّة/ إبداعيّة. 
وهنا نطرح السّؤال التّالي: ما نوع العلاقة التي تربط محمد عابد الجابري بمن تقدّمه من المفكّرين الفلاسفة، والغزالي منهم على وجه التّحديد؟ وهل للغزالي حضوةٌ تراثيّة عند الجابري مثل التي عند ابن رشد «فيلسوف قرطبة»؟ أم لا؟ وإذا لم تكن، ما السّبب الرئيسي في ذلك؟.
تبينت لنا هذه الإشكاليّة، عندما اتضح لنا، أنّ الشّخصيّة الإنسانيّة الحضاريّة، مستمدّة من فهمها العميق لتراث أجدادها، كي تفهم حاضرها بعمق، وتستشرف للمستقبل، لذلك انطلقنا من دراسة تراث فكر أبي حامد الغزالي، لما شكّله من قفزة نوعيّة في الفكر الفلسفي المستوعب لما قبله والنّاقد له في بعض مضامينه من جهة، ومن جهة ثانية يشكّل الغزالي حلقة وسطى بين المتقدّمين والمتأخّرين. ثمّ اعتمدنا الجابري باعتباره أحد الدّاعين إلى مشروع قراءة التّراث الفلسفي في العصر الحالي، من خلال رؤية جديدة: «كيف نقرأ التّراث؟» بالإضافة إلى العلاقة التي تربط بينهما؛ من حيث التّصور الفلسفي، من خلال كتاب التّهافت/ المتمثّلة في ربط السّابق باللاّحق واللاّحق بالسّابق.
ومن خلال قراءتنا لهذين «العَلَمَين»، اتضح لنا أنّ هناك إشكالات بين الجابري والغزالي، على شاكلة «مصارعة الفلاسفة» في مقابل «مصارع المصارع» و«تهافت الفلاسفة» في مقابل «تهافت التّهافت» يشبه في بعض الأحيان قانون الغاب «القويّ ايديولوجيا، يأكل الضّعيف»!. 
وعليه، فإنّ الفرضيّة التي ننطلق منها تكون على الوجه التّالي : أنّ الجابري في قراءته للتّراث، أقصى الغزالي من السّاحة الفكريّة، إن لم نقل ألغاه بشكل تعسّفي!! الأمر الذي دفعنا إلى قراءة نوعيّة أخرى، تخرجنا من منطق الإقصاء، إلى منطق التّكامل والتّدافع الحضاري. فإلى أي حدٍّ، تعدُّ هذه الفرضيّة صحيحة؟ وما الأدلّة الموضوعيّة على صحّتها؟
للبحث في هذا الموضوع، وللإجابة على هذه الاسئلة بشكل موضوعي، التَزمْنَـا بالمَنهج التَحلِيلي باعتبارهِ المَنهج الكَفِيل في مِثل هذه البُحُوث؛ منهج يقوم على دراسة الإشكالات العلميّة، المختلفة تفكيكاً أو تركيباً أو تقويماً. نروم من خلاله في هذه الورقة التّصحيح والتّقويم لا الرّفض المطلق.
حقيقة: «الضّربة القاضية» الجابريّة:
بخصوص «الضّربة القاضية»: فإنّ المقصود بها على المستوى التّداولي هو الضّربة النّهائيّة في القتال، تلك التي يوجّهها الخصم الأول للخصم الثّاني؛ بحيث يصير الخصم الثّاني غير قادر على مواصلة النّزال. والمصطلح منتشر في العديد من الرّياضات القتاليّة، خاصّة الملاكمة. واستعارها الجابري ليبين لنا انّ هذه المقولة الشّائعة التي تقول : «إنّ أبا حامد الغزالي ضرب الفلسفة ضربة واحدة لم تقم لها قائمة» غير صحيحة، وإنّما الضّربة القاضية المفصليّة، هي تلك التي وجّهها الجابري للغزالي. فما هي هذه الضّربة القاضية ياترى؟
ليس للجابري، كتاب مخصوص حول أبي حامد الغزالي، يعرض فيه أراء هذا الأخير وأفكاره، ويوضح فيه اتجاهاته الفلسفيّة وحدودها، ليتبيّن لنا منه تصور الجابري حول هذه الشّخصيّة، وإنّما له بعض النّتف مشتّتة هنا وهناك، وخلاصتها موجودة في مدخل كتابه «تهافت التّهافت لابن رشد» الذي عنونه بما يلي «تهافت التهافت: انتصارا للرّوح العلميّة وتأسيساً لأخلاقيات الحوار» مع مقدّمة تحليليّة، بالإضافة إلى الشّروحات داخل المتن، وعلى الهامش في بعض الأحيان. وهذا المدخل من الكتاب، يتناول فيه الجابري، تقييمه لفكر الغزالي، كاشفاً تشاؤمه منه، بطريقة مباشرة في بعض الأحيان، وغير مباشرة في أخرى!!. 
ومن قرأ مدخل الكتاب مع المقدّمة التّحليليّة، وهما في حوالي تسعين صفحة، سيتبين له؛ أنّ أبا حامد كأنّه «لم يكن شيئا مذكورا» عند الجابري!! هذا بالإضافة إلى قرائن أخرى من كتابه «نحن والتّراث» وكتابه الآخر «سيرة ابن رشد».
والجابري في مدخل الكتاب الأوّل «تهافت التّهافت» اعتمد على البرهنة الايديولوجيّة كما يسمّيها هو نفسه في كتابه «نحن والتّراث» ليصل الى فكرته الجوهريّة القائلة: «بتهافت الغزالي» عوض «تهافت الفلسفة» بطريقة ذكيّة وغير مباشرة، وأول شيءٍ يعمد إليه للوصول إلى نتيجة تهافت الغزالي بشكل جديد وذكي، هو محاولة دحضه أولاً للفكرة القائلة أن «أبا حامد الغزالي ضرب الفلسفة ضربة واحدة لم تقم لها قائمة»(1)، وذلك باللّجوء:
أولاً: إلى محاولة إيقاظ العقل العربي من غفلته، مؤكّداً، أنّ العقليّة العربيّة لازالت مربوطة بالخرافات والإيمان بالأقاويل التي لا أساس لها من الصّحّة، هذا الإيمان الزّائف، ضخَّم الأقاويل حول التّراث فجعل منه تراثاً مقدّساً، عاجزاً عن فهم نفسه وعن صنع أفق مستقبله، وهذا الأمر، يدفعنا أولا، الى تجاوز هذا «الصّواب الموروث» أو «الجهل المركّب» النّابع من جهل العارفين الذين يتلقّون الكلام من مصادر أجنبيّة لا يعلمون دوافعها ولا مصداقيتها، عدا كونها «موروث جماعي» يشكّل الحقيقة التي لا تناقش(2)، وبهذا ينبّه الجابري إلى هذا الموروث السّيّئ، بغية مواجهة ما يسميه «الصّواب الموروث» بما يحرجه من داخله من خلال إبراز استمرار الفلسفة بعد الغزالي. 
ثانيا: وهكذا يقرّر الجابري، بأنّ الفلسفة استمرت بعد كتابة أبي حامد الغزالي لكتابه «تهافت الفلاسفة»، وهذا الأمر يجعلنا نثير السّؤال الإجرائي التّالي: ما المقصود باستمرار الفلسفة بعد الغزالي؟ هل يقصد به الجابري، انتصارا لأبي حامد الغزالي أم العكس ؟.
في هذا الإطار نجد الجابري يتوجّه توجّهاً آخر غير الذي اعتمده المستشرقون؛ من كون الفلسفة استمرت في المغرب مع «ابن باجة» و«ابن طفيل» و«ابن رشد». لأنّ هذا الطّرح في زعمه؛ -الطّرح المعتمد من طرف المستشرقين- فيه ثغرة لا يمكن لعاقل إنكارها، وهي أنّ الفلسفة إذا استمرت حقّاً في المغرب، يعني أنّ الغزالي قضى عليها في المشرق، وبالتّالي يبقى هذا الطّرح قاصراً في بُعده، اذ يجعل من الغزالي أسطورة فلسفيّة(3) .
وهذا ما يجعل الجابري يتّجه وجهةً أخرى؛ إلى ما يسميه؛ بـ «المذهب الذي يحرج الصّواب الموروث من داخله» وهو إثبات أنّ الفلسفة استمرت في المشرق حقاًّ، ومن داخل المذهب الأشعري نفسه، «المذهب الرّسمي للغزالي».
وهكذا رسم الجابري الصّورة الفنّية لاستمرار الفلسفة في المشرق، بزعامة كل من:
‌أ.-الشّهرستاني الأشعري الذي التزم الحياد والموضوعيّة في عرض آراء «الخصوم» ويقصد بها الجابري «الفلسفة السينويّة»، فالشّهرستاني عرض فلسفة ابن سينا أربع مرّات؛ المرّة الأولى؛ في كتابه «الملل والنّحل» في الباب الذي خصّصه لآراء الفلاسفة. وفي المرّة الثّانية وصف ابن سينا بـِ «علاّمة القوم»، وفي المرّة الثّالثة عندما تصدّى لـ «مصارعة الفلاسفة» نازل فيه ابن سينا بأسلوب هادئ بدون تشنّج. وفي الرّابعة عمد إلى الجمع بين آراء ابن سينا وآراء المتكلّمين في كتابه «نهاية الإقدام في علم الكلام»(4)؛ 
‌ب. ومن بعد الشّهرستاني يأتي «الفخر الرّازي» الأشعري العقيدة بدوره، الذي اعتبره الجابري فيلسوفهم دون منازع، فهو لم يكتب ردّاً على الفلاسفة، وإنّما اكتفى بكتابة شرحٍ نقدي لكتاب ابن سينا «الإشارات والتّنبيهات»، حيث يرى الجابري؛ أنّه بدأ من حيث انتهى صاحب «نهاية الإقدام في علم الكلام» وإنّ الرّازي الذي عاصر ابن رشد «يسجل نقطة تحوّل في تاريخ العلاقة بين علم الكلام والفلسفة، النّقطة التي اندمج فيها الاثنان»(5)، أي أصبح علم الكلام فلسفةً، دون تمييز ملامحه، وهذا أمر آخر أراد الجابري من خلاله أن يصل إلى نتيجة «استمرار الفلسفة»، بعد كتابة الغزالي لكتابه: «تهافت الفلاسفة». 
ماهي الرسالة
التي يريد الجابري أن يوصلها لنا؟
من خلال ما سلف، أراد الجابري أن يقول أنّ «المفكّرين الأشاعرة الذين خَلَفُوا الغزالي على ساحة علم الكلام والفلسفة، قد تجاهلوا الغزالي تماماً: لقد تمّ تجاهل ردود الغزالي على ابن سينا، وكُتِبت ردود أخرى بديلة بعيداً عن الجدل والسّفسطة، التي اتّسم بها كتاب الغزالي، وأكثر من ذلك؛ تجاهلت هذه الرّدودُ البديلة تكفير الغزالي للفلاسفة تجاهلاً تاماً»(6)، والمقصود بالرّدود هنا هي ردود الأشاعرة على الشّيخ الرّئيس «ابن سينا». فما المغزى من هذا الكلام؟
إنّ الجابري كان يسعى إلى التحرر من «الصّواب الموروث»، الذي يعني عنده؛ أنّ الشّائعة القائلة بأنّ «الغزالي وجّه ضربة قاضية إلى الفلسفة لم تقم لها قائمة» غير صحيحة، وإنّما الصّحيح هو «أنّ الفلسفة، هي التي وجّهت الضّربة القاضية لابي حامد الغزالي» فاستمرت الفلسفة من داخل المذهب الأشعري، ولم يعد للغزالي أيّ أثر يذكر، أي استمراريّة لتراثه الفلسفي، وهكذا يقرّر الجابري في آخر المطاف أنّ كتاب «تهافت الفلاسفة» لم يكن له «ذلك الأثر الذي يعزى له، فلم تتردّد له أيّة أصداء تستحقّ الذّكر، ما عدا إدراجه في قائمة كتب الغزالي من طرف بعض مؤرّخي الطّبقات الذين أرّخوا للغزالي كواحد من الشّافعية»(7) .
«الضّربة القاضية الحقيقيّة» -حسب زعم الجابري- التي وجهّها للغزالي، هي-في نظرنا- ضربةٌ أسوأ من ضربة «الصّواب الموروث». وبما أنّ الغزالي تمّ الكشف عن تهافته بعد «البرهنة الايديولوجيّة الجابرية»(8) الهادفة إلى القول بطريقة غير مباشرة: إنّ الغزالي هدّم نفسه بنفسه، وتمّ تجاوزه من طرف بني جلدته الأشاعرة دون أي اكتراث بـ «تهافته»، فانّ الجابري سيتجاوز بدوره الغزالي دون أن يجعل له مكانة تذكر في كتابه الشّهير «نحن والتّراث» عدا المرور فوق إنتاجه بسطر أو فقرة صغيرة إذ كان في حاجة إليها ليبني فكرته المركزيّة المتمثّلة المعالم في «القطبيّة الرّشديّة»(9).
فما هي «القطبيّة الرّشديّة»؟ وماذا نعني بها؟ هذا ما سنتعرّف عليه في الحلقة الثّانيةمن هذا البحث.
الهوامش
(1) راجع بشأن هذه المقولة؛ عبد العظيم الديب، العقل عند الغزالي، حولية كلية الشريعة والدراسات الاسلامية، العدد السادس، 1408هـ/ 1988م، (ص444-450)
(2) محمد عابد الجابري «تهافت التهافت: تأسيساً للروح العلمية وتأسيسا لأخلاقيات الحوار» مركز دراسات الوحدة العربية، ط1، بيروت، أغسطس 1998، ص:19 و35
(3) تهافت التهافت، ص20-21 و36
(4) تهافت التهافت، نفس المرجع. ص24-25  
(5) تهافت التهافت، نفس المرجع. ص 26  
(6) تهافت التهافت، نفس المرجع. ص 21
(7) تهافت التهافت، نفس المرجع ص 21
(8) مصطلح استعمله الجابري في كتابه نحن والتراث. ويعني بها نوع من ممارسة الديماغوجية لتمرير فكرة ما. ونحن استعملنا مصطلحه بنفس ما يعنيه الجابري، بحيث نرى بدورنا انه يمارس الديماغوجية/ البرهنة الايديولوجية للوصول إلى فكرة مركزية عنده سنبينها في هذه الورقة لاحقا.
(9) محمد عابد الجابري «نحن والتراث؛ قراءة معاصرة لتراثنا الفلسفي» المركز الثقافي العربي، ط6/ 1993.
 الصفحات التي ذكر فيها الغزالي -ليس كدراسة خاصة- وإنما كقنطرة فقط للعبور إلى الضفة المرجوة، «المدينة الفاضلة الرشدية» هي: (63-65 و67 و88 و100 و117 و118-221 و224 و225 و232 و235 و239 و257)