فواصل

بقلم
د.مصدق الجليدي
تأملات في حدث القرآن في شهر القرآن
 لا تفارقني منذ عشرات السّنين حالة التّعجّب والاندهاش والغبطة المشوبة بالتحيّر، كلّما تمثّلتُ واقعة مخاطبة اللّه للبشر من طريق الوحي لبعض عباده المصطفين بكتبه المقدّسة. 
أن يكون اللّه مؤلّفا لكتب بلغة البشر بمداد وعي نبويّ استثنائيّ، فهذا أمر ليس عاديّا ولا هيّنا بالمرّة. ولذلك أن يزهد بعض البشر في الاطّلاع على هذا الكتاب المتميّز عن كلّ الكتب في العالم والتّاريخ، فهذا أمر مثير للاستغراب الشّديد. 
وأن يخاطب اللّه العليّ المتعالي، العظيم الجليل، عباده الذين لا يمثّل حجم كوكبهم «الأرض» مقدار ذرّة في هذا الكون الواسع الممتدّ لمليارات السّنوات الضّوئيّة(1).
وأن يتوجه بعلمه اللاّمتناهي(بصيغة ملائمة) إلى عقل الإنسان المحدود جدّا رغم فذاذته، فهذا حدث استثنائي مطلقا، ولا يوجد حدث في كامل تاريخ البشريّة يضاهيه أهمّية وتفرّدا. وهو في الحقيقة حدث ميتاتاريخي أو ماوراتاريخي، ولكن تنجيم الكتاب وتدرّجه في تربية الجنس البشري ومواكبة أوضاعهم جعله يتنزّل في التّاريخ.  
الحيرة والاندهاش اللّذان يتملكاني وقد يتملكان كلّ من يتخلّص من تأثير العادة والتّقليد وذهنيّة الموروث، قد يكونان ناتجين لا عن حالة ريب ولا عن ريبيّة، وإنّما عن فلسفة ضمنيّة للوجود قد تكون خاطئة، ولكنّها الفلسفة التي يبنيها العقل البشري لنفسه بحكم قانون «مجاري العادات» (الذي قال به الغزالي في سياق شرحه للمعجزات وتنسيبه لمبدإ السّببيّة في الطّبيعة).
يظنّ العقل لطول معاشرته للإدراكات الحسّيّة، أنّ المحسوسات هي أصل الوعي، وأنّ المادّة هي أصل الوجود، وأنّ التّعاقب هو أصل تجلّي الأفعال، وأنّه مضاه للسّببيّة. لكن من أدرانا أنّ المادّة ليست إلاّ صيغة من صيغ الوجود، وأنّ التّعاقب ليس إلّا «تباطؤا» للفعل الوجودي؟
نظن أنّ وجودنا الأرضي هو مقياس كلّ وجود، وأنّ إدراكنا لحركة الأجسام هو العلم بما يحدث في الوجود. نحن (الذين نقدر على العودة لدهشة الطّفل) نندهش للوحي، بينما قد لا ندري أنّ الوحي هو روح العالم الحقيقي، وأنّ ارتفاعا مؤقّتا لغشاوة الحسّيات هو من يجعل الوعي النّبوي مستقبلا للطّاقة الرّوحيّة الكونيّة ومشاهدا لمجرى الوحي في تقاطعه مع الوضع الإنساني في مكان وزمان مخصوصين. 
مع هذه التّمرينات التّفكريّة، سنظلّ مغتبطين على الدّوام بأنّ خالقنا العظيم، قد ظهر لنا (الظاهر) وهو الباطن، وعبأ بنا وكلّمنا مودّة ورحمة، وجودا وكرما، وحنانا من لدنه وزكاة، بكلامه الحكيم العليم وأشعّ علينا بنوره الخالد. 
وصدق أبو محمد إقبال عندما توجّه لابنه قائلا: «يا بنيّ إن أردت أن يكلّمك اللّه، فاقرأ القرآن، وإن أردت أن تكلّم اللّه فادخل في الصّلاة».
فالحمد لله على هذه النّعمة الكبرى: نعمة التّواصل مع اللّه خالقنا العظيم الرّحيم.