نفحات

بقلم
حبيب مونسي
لغة التّصوّف ولغة الفن – من الإشارة إلى العرفان. قراءة في لوحة صلاة العيد لـ «نصر الدّين ديني» 2/2
 عناصر المشهد في اللّوحة:
إنّنا من خلال هذه اللّوحة نلحظ ذلك الخيط الرّفيع الذي نراه في تناسق ألوانها وتظافر أشكالها، وفي هيئات المصلِّين في جلستهم الأخيرة. نرى ذلك الرّوح الذي نشهده في كتابة المتصوِّفة حينما يجعلون من هذه الصَّلاة صِلةً ومدرجا من المدارج التي يرقون عليها الى ربِّهم. إنّها لحظة اقتراب ودنوّ. لحظه فناء هذه الذّات ونسيان مادتها التُّرابية ثم الارتقاء بها الى روحانية عالية. يتخفّف الجسد في هذه اللّحظة من كلِّ أتعابه التي يرزح تحت نيرها، ومن كلّ أحماله التي يتعثّر السّير بها. 
إنّ صورة مدينة بوسعادة في خلفية اللّوحة، هي صورة الحياة التي استدبرها هؤلاء المصلِّين. استدبروها فجعلوها وراء ظهورهم حينما خرجوا الى المصلّى يريدون صلاة العيد. هم الآن يتوجّهون إلى باريهم هذا التوجُّه الرُّوحاني الخفيف الذي نستشعر من خلاله تجاوز المادي التّرابي إلى ما هو روحاني، إلى ما هو أخفُّ وأشفُّ. يصنعه الضّوء المصبوب على اللّوحة من ناحية القبلة صبّاً رفيقا يوحي بأنّ الوقت بدءُ النّهار، وأنّ العيد يشمل البطحاء بكلّ معاني الزّينة والسّعادة.
لقد استطاع النّور المسلّط على اللّوحة أن يمحو كافة الظّلال، وألاّ يترك لها إلاّ جزءا يسيرا من الحضور. وكأنّه يريد منها أن تتراجع بعيدا عن مقاصد المعاني التي يمكن للّوحة أن تدلي بها أو أن تشير إليها من طرف خفيّ. فنحن السّاعة أمام لمسات الفنّان وهو يجتهد في أن تكون ألوانه دافئة، تحمل في مادتها حرارة شمس الضّحى، التي لا تزال تسمح للظّل بامتداد يسير قبل أن ترتفع الشّمس فتقبضه إليها قبضا قوِّيا. وهي لحظة الطَفَل التي تكون فيها الشّمس وديعة لطيفة الدِّفء، تسمح بارتداء البرنوس. تلك اللّحظة التي يجب أن نلتفت إليها ونحن نتابع الفنّان في اختياره لموضوعه، لأنّه يشعر أنّ لتعانق المكان والزّمان في هذه الصّلاة، في هذه اللحظة من اليوم تعانقٌ عجيب في يوم العيد. 
كان «مايكل أنجيلو» يجزم بأنّ المرء لا يرسم بيده بل بمخِّه. وهي عين المقولة التي اتخذها «كروتشيه» شعارا لكلّ خلق فنيّ، ومن ثمّ صار «كروتشيه» يرى: «أنّ العمل الفنيّ لا وجود له بوصفه «شيئا» ماديا. فمن الجائز أن يعمل الفنّان إذا شاء على تجسيد حدسه التخيلي في مادة فيزيائية معيّنه، ولكنّ هذا شيء لا صلة له بعملية الخلق التي تكون قد تمَّت وانتهت بعد ما بدأ هذا النَّشاط الخارجي. فعندما يشاهد المدركُ الموضوعَ المادي لا يكون ذلك إلاّ (علامة) تؤدي الى إعادة خلق العمل الفنّي الحقيقي. وهو رؤية الفنّان في خيال المشاهِد نفسه»(1). وليس هناك من فرق كبير بين كلام «كروتشيه» وبين كلام المتصوّفة. لأنّنا ندرك جيدا من خلال اللّوحة التي أمامنا، أنّ الفنّان عاش العيد في مدينة بوسعادة مرارا وتكرار، وأنّه رأى النّاس يتوافدون على المصلّى زرافات ووحدانا، وقد تخيّروا من الثّياب أجملها وأجدّها، ومن العطور أغلاها وأثمنها، وقدموا في سكينة إلى ذلك المكان. فاصطفوا من غير زاجر يحملهم على الاصطفاف، واستقبلوا القبلة في خشوع. 
كان الفنّان -وهو الغريب- يرى ذلك أمامه وقد هدأت الحركة، وخفتت الأصوات، ثم تلاها سكون شفيف يرفرف على الرّؤوس وهي مطرقة. ثم استمع إلى الخطبة، وشاهد الصّلاة تقام بركوعها وسجودها. واستقرت في أعماقه تلك اللّحظة السّحرية. لحظة ما قبل التَّسليم. إنّها اللّحظة التي تقرّرت في أعماقه لتكون بديلا عن الصّلاة كلّها، ودليلا على ذلك التّرقي الذي يحدث أمامه في آفاق الصّلة ومراتب الدّنو. 
لقد صدق حدس «كروتشيه»... كلّ شيء انتهى في العملية الإبداعية. لم تبق سوى المرحلة التّسجيلية التي تتولاّها اليد والألوان. أمّا نصّ التجربة فقد كتبته المعاينة من زمان في نفس الفنّان، واختارت له ما يمثِّلها في ذلك المشهد الشّاخص في اللّوحة. وليس أمام الواقف أمام اللّوحة السّاعة إلاّ أن يُعيد خلق التّجربة الفنِّية من جديد بأدوات سمّاها الصّوفي بالقدم، والمقام، والحال، والمشاهدة. تدرُّجا في عالم المُكَاشَفة والامتلاء.
كان الضّوء في لوحة «نصر الدّين دينيه» شلاّلا من نور يتدفّق على المشهد، ليعطي للألوان صبغتها المشهدية الخاصّة، فيحدّد درجة نصاعتها، وخفوتا وتوهّجا. وكأنّه في يد الفنّان، يريد للسّاري في تلافيف المشهد، المُتنقِّل بين عناصره، أن لا تفوته شاردة معنى، ولا سانحة إشارة. وكأنّ النّور هو راوي قصة العيد، والمُبلِّغ عن فرحته وجماله. وأنّه في نفوس الخاشعين شُكراً على عطاءات المُنعم التي لا يعرفون عدّ نعمها، ولا إحصاء فضائلها. من ثمّ كان النّور في هذه اللّوحة ضربا من الدَّليل الهادي إلى أسرارها. لأنّه في إشراقته تلك إنّما يعايش تجربة روحية يجاهد في إيصالها إلى المتلقِّي/ المُؤِّول.  
قال «ألكسندر إليوت» مشيرا إلى هذه الحقيقة الروحية:«ولكنْ ثمّة شىء واحد يعرفه المُؤِّول معرفة أكيدة ، وهو أنّ لكلّ رائعة من روائع الفنّ مغزى روحيّاً . فهي جميعا دونما استثناء صادرة عن ذُرى التّجربة. وهي مع ذلك تخاطب كلّ إنسان مباشرة، لأنّه ما من إنسان إلاّ وهو يخوض نضالا روحيّا. قد لا يكون المرء تخطى عتبة كنيسة مرة في حياته، ولا قرأ كلمة واحدة من كلمات الفلسفة، ومع ذلك تجده يتأمَّل نهايات الأشياء. فكلّ إنسان يفكر في أهداف وغايات هذه الحياة، مرارا وتكرارا»(2). ومهمَّة الفنّ في مثل هذه الحالات أن يقدِّم مشاهدة جاهزة لبدء الرّحلة في مدارج التّجارب الخاصّة التي يتقاسمها الفنّان مع متلقي أعماله. فيستخدم الإشارات والإيماءات ليأخذ بيده إلى حضرة المُشاهدة. وكلّ أعمال الفنّانين في واقع الأمر تمثِّل نقاط تقاطع بين الحياة والفنّ، في لحظات مُميَّزة تأخذ فيها التّجربة أبعادا يَتَغيَّاها الفنّ ليصنع منها تُحفه النّادرة.
ولا يمكنك مشاهدة لوحة من اللّوحات إلاّ إذا شعرت أنّ هناك امتلاء حدث، وأنّ هذا الامتلاء أدّى إلى فيض من نوع خاص. إنّها الفكرة التي عبّر عنها «ألكسندر إليوت» قائلا:«الأخذ خير من العطاء - الى حد ما. وبعد ذلك يصحّ العكس أيضا. بل أنّ المرء، في بعض الأحايين، يكون بالوعة إن لم يكن يُنبوعا. والفنّان الحقّ قد درَّب نفسه وملأها وحرَّرها من أجل العطاء. إنّه كأس لا قرارة لها في امتلاء مستمر وطفح مستمر .وقد قال «بيكاسو» مرّة أنّه تمشي في حدائق التّوِيلْرِي «Les Jardins de la Tuilerie» ، فتشبّع بالأخضر، وعاد إلى البيت ليرسم تجريدية خضراء» (3). وحالة التّشبع التي يتحدّث عنها «ألكسندر إليوت» هي ما ألمحنا إليه أولا حينما ذكرنا أن «نصر الدّين ديني» تشبّع بمناظر العيد وأحواله، وأنّه استطاع أن  يبحث له في نفسه وفنّه عن مُثبِّت لتجربته الصُّوفية، فوجدها في تلك اللّحظة التي يجلس فيها المصلِّي للتّشهُّد الأخير. 
كانت لحظة التّشبع كبيرة التّأثير في نفس هذا الباحث عن الخلاص، السّاعي إلى التّحرر من طينته التي حملها معه من الغرب إلى أضواء الشّرق. فبدأ يرسم الأجسام العارية لحسناوات الجنوب، ويُسجل المظاهر اليومية العابثة للعيش في بلدة «بوسعادة»، ويختار من الحكايات ما يمكن تحويله إلى لوحات تقصّ قصص السّمر في المناسبات. غير أنّه مع تقدم السّنوات وتسامي التّجارب الرّوحية، بدأ الاهتمام بأمور أخرى تقترب به من الدّيني، وتلامس مظاهره التّعبدية، كرصد هلال رمضان. إذ ليس لفن الرّسم أن يجسد الصّيام بألوانه إلاّ من خلال رصد زمنه مجسّدا في ترقُّب الهلال أو رؤيته. وكذلك تكبيرة الإحرام في صلاة المنفرد، في حركة رفع اليدين حذو المنكبين...
 لقد اختفت الأجساد العارية، وتراجعت المشاهد اللاّهية، لتحلّ محلّها مشاهد أخرى تدنو قليلا قليلا من التّجربة التي ستحمل الرّسام إلى اعتناق الإسلام، وتغيِّر اسمه، لينسلخ من ذلك الماضي الثّقيل، ومن تركة الثَّقافة الغربية، ويُيمِّم وجهه شطر القبلة.. قبلة يتطلَّع إليها في لوحة الاستعداد للحج، وقبلة يرقى إليها من أعماقه تُتيح له فرص المكاشفة والمشاهدة. وهو بذلك يشكّل في نفسه ضربا من المعرفة تتأرجح به بين الظّاهر والباطن. ولكنّها في تأرجحها ذاك تُكسبه نوعا من الذّوق يتيح له -كما يقول «ابن عربي»- التّمييز بين الرّسم والذّوق، فيكون حاصله:«أنّ العلم الرّسمي اشتقاقا من الرّسم وهو الأثر أو الطّلل ومنه: علوم النّظر، وعلوم الخبر... وبين العلم الذّوقي: وهو علم نتائج المعاملات والأسرار»(4). وتلك حقيقة تتجلّى لنا حينما نضع لوحات «نصر الدّين ديني» في تسلسلها التاريخي فنرصد فيها جملة التّحولات التي انتهت بها إلى هذا اللّون من الرّؤية الصّوفية التي قُدّر له أن يعيش اكتشافها، متدرِّجا نحوها من اللّهو والعبث، من الحسِّية والتَّجسيد والتّسجيل، إلى أن يكتب بالألوان والأشكال تجربة روحية، تعلّقت بلحظات ذات تأثير كبير في نفسه، وكأنّه يتَّخذها معارجَ نحو النّور والكشف.
لم يترك لنا «العلم الرَّسمي» إلاّ آثارا نقف أمامها اليوم في اندهاش وتعجّب، لأنّها تعود بنا إلى حقبة ليس لنا منها إلا الأثر المكتوب تاريخا، فإذا نظرنا إلى لوحاتها تحرّكت أمامنا مفعمة بالحياة والحركة والصّخب، أو حدثتنا عن أحوال النّاس في لهوهم وجدّهم، في تجارتهم وأسفارهم. بيد أنّ «العلم الذَّوقي» يفتح أمامنا مداخل أخرى أكثر قوَّة وجاذبية لنلج من خلالها إلى تجارب يريدنا الفنّان أن نتقاسمها، مهما اختلفت الأزمنة وتباينت الأذواق، لأنّها تجارب ستنتهي بالوليِّ- المتلقِّي- السّالك- إلى إشباع من نوع خاص، يمتلئ به امتلاء ريٍّ. وقد قال «الغزالي» أنّ: «الذّوق فوق العلم، لأنّ العلم قياس والذّوق وجدان»(5). فما كان متعلِّقا برسم أو طلل فإنّه لا محالة زائل، ومن كانت مراسيه في الخالد فهو ثابت دائم. 
الإمام: العنصر المُهَيْمِن.
غالبا ما يعمد الفنّانون في لوحاتهم إلى إدراج عنصر مُهَيْمِنٍ، يوزّع الأدوار على العناصر الأخرى، ويحدِّد أحجامها وقيمتها في اللّوحة، ومن ثمّ تكون هيمنته قادرة على توزيع الدّلالة كذلك. لأنّ المتأمِّل في اللّوحة يستوقفه هذا العنصر أولا، ومنه ينطلق إلى استكشاف العناصر الأخرى. وقد تجري العملية عكس ذلك عند كثير من المتأملين للأعمال الفنّية. إذ هم يستقطبون اللّوحة في جملتها أولا، ثمّ يقتربون منها لتدقيق النّظر. عندها يقوم العنصر المُهَيْمِنُ بمهمّة تثبيت البصر في زاوية معينة، تُحدّدها زاوية الرّؤية التي اختارها الفنّان لعرض موضوعه. فهو يريدنا أن نراه من هذه النّاحية دون سواها. وهي الزّاوية التي توزِّع الضّوء والظلال، وتقدِّر الأحجام والأولويات. 
فإذا تَحدّد العنصرُ المُهَيْمِنُ في عين المتلقِّي، وتأكّد حضوره الفنيّ في استقبالها، انطلق النّظر يتجوَّل بين عناصر المشهد في الاتجاهات كلِّها، وكأنّ العنصر المُهَيْمِنَ يحمل صبغة الدّلالة الأولى، ويوزعها على باقي العناصر الأخرى توزيعا يُشيع في اللّوحة موضوعها الإجمالي. بل ويوجه التّلقِّي إلى نواحي دلالية، تفرض نفسها ابتداء على المتلقِّي باعتبارها داخلة في مقاصد الفنّان الأولى. أو على الأقل هي بمثابة المؤشِّرات التي تهدي إلى اتجاه القراءة والتّلقِّي. 
تلك الحقيقة التي يغفل عنها كثير من الواقفين أمام اللّوحات المعروضة في أفنية صالات العرض. لأنّهم لم يتلقوا في تكوينهم وثقافتهم كيفيات الاقتراب من الفن، وكيفية النظر في اللّوحة. إذ هناك فرق كبير بين أن ننظر إلى لوحة فنّية، وأن ننظر فيها. فالنّظر إلى اللّوحة هو ما يقوم به زوار المعارض عامة من النّاس الذين لا صلة لهم بالفن، إلاّ صلة الزّائر الذي يحلو له في بعض المناسبات أن يمر أمامها وحسب. أما الذين ينظرون في اللّوحة فهم الذين يأخذون قدرا من الوقت ليتوقّفوا أمامها، وقد تجرّدوا من مشوِّشات المكان، لتكون لهم لحظة تأمل يتخطَّون فيها عتبة الإطار كما أشرنا إلى ذلك من قبل. وهي اللّوحة التي يكتشفون فيها العنصر المُهَيْمِن، وكيفية توزيع العناصر الأخرى، وهندسة مقاماتها داخل حيز اللّوحة. والجدير بالذكر أنّ عددا من المعارض أصبح يقدم في مطويات توزع عند مداخل قاعات العرض كيفية النظر إلى اللّوحة، وكيفية النّظر فيها، وما هي الأسئلة التي يجب أن يطرحها الزائر على نفسه وهو إزاءها لأول وهلة. كما قدمت مواقع خاصة عددا من التوصيات التي يمكن أن تساعد هؤلاء على التعرف على طبيعة الفن ومدارسه وكيفيات تلقيه.
إذا علمنا أنّ الحيِّز الذي يشتغل عليه الفنّان حيّز ضيق، محدود الطول والعرض، وأنّه في حاجة إلى إطار يلم شعث الصورة، أدركنا أنّ مهمة توزيع العناصر في هذا الحيز مهمة صعبة مرهقة بالنسبة إلى الفنّان وهو يحضر النّماذج لموضوعه. لأنّ موقعة العنصر المُهَيْمِن وتوزيع العناصر الأخرى حوله، هي التي تحدد قيمة اللّوحة فنيا، وهي التي تعطيها ذلك القدر الكبير أو القليل من الجاذبية. وكأنّ التعويل على العنصر المُهَيْمِن في اللّوحة واختيار زاوية الإطلالة عليه من المقدمات التي يوليها الفنّان عناية كبيرة لأنّها ستكون في الأخير هي الموجه إلى المقاصد التي يتوخاها في رسمته. وهي التي تحدد درجات الضوء وانعكاساته، ودرجات التلوين ونصاعتها. 
ولما كانت صورة «الإمام» في لوحة «صلاة العيد»، من أهمّ العناصر الدّالة والموجِّهة للتّأمل والقراءة. أولاها الفنّان قدرا كبيرا من الاهتمام والتدقيق، ليرفع منها ومن هيئتها حالة الخشوع والهدوء والسكينة والوقار. فهو يعول على هذه الهيئة أن ترفع كلّ ذلك إلى عين المتلقِّي محمولا على فيض من الضوء المتدفق على وجه الإمام، وعمامته، وشملته، وبرنوسه، وعباءته، وكأنّ الفنّان لا يريد أن تقع الظلال على جزء منه إلاّ بقدر ما يسمح به الثوب في انثناءاته.  وأن تكون الألوان فيه متقاربة مشبعة بالبياض المشوب بصفرة. حتى تسمح للوجه الأسمر واللحية السوداء بالظهور والحضور. وكأنّ الفنّان في تقديمه للعنصر المُهَيْمِن على هذا النحو، يريد لقسمات الوجه أن ترسم تعابير الخشوع بكل ما يفي حقها من غض للبصر وإطراق للرأس، وبسط اليدين، وعقد أصابع اليد للتشهد. 
إنّ الوجوه في الخلفية تبدو مطموسة القسمات، يوحي فيها اللّون الغامق بحضور الخشوع، ولكنّه يجلِّله بغموض خاص، وكأنّ الوجوه حاضرة غائبة. إنّها هنا لتأثيث الخلفية، وإعطاء الصّلاة الجماعية حقيقتها الفعلية. غير أنّها في الدّلالة تُمكِّن المشاهد من استقطاب روح الصّلاة في منتهى الحضور والشّهادة، كما تمكِّنه من تجاوز ذلك كلِّه إلى معاني الصِّلة، والوصل، والارتقاء. لأنّ المصلِّين في هذه اللّحظة يشاركون الإمام هيئته، وهيبته، وخشوعه، كما يشاركونه التّرقي الخفي في مدارج الصّلة التي من أجلها سكنوا، وهدأت الحركة فيهم، حتى تتمكَّن القلوب من التّحليق في معارج قدسية نتحسّس أثرها من خلال كلّ ذلك. 
فما نراه في اللّوحة من حال ظاهر جليٍّ، وما نتحسَّسُه من آخر باطني خفيٍّ، يراه الشّيخ «عبد القادر الجيلاني» في تفسيره لقوله تعالى: ﴿ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُم نِعَمَهُ ظَٰهِرَةً وَبَاطِنَةً ﴾ (لقمان 20) من أنَّ النِّعم الظَّاهرة إنّما هي تسويةُ الخَلْقِ، وأنّ الباطنة تصفيةُ الخُلُقِ(6).  ويساعدنا التّفسير الإشاري على هذا النّحو، من رصد السّمات الجمالية في الهيئة، والثّوب، والسّمت، ثم تجاوزها إلى التّصفية الجوَّانية التي يُومئ إليها المشهد من خلال ما يتفصّد عن المظهر من شارات دالة على حدوث كلِّ ذلك أثناء الصّلاة حقيقة. وما حاول «نصر الدّين ديني» تجسيده في تقديمه للعنصر المُهَيْمِن في اللّوحة، لا يبعُد كثيرا عن هذا المعنى الإشاري الذي حملته الآية الكريمة. بل إنّ السّكينة التي تعمر المشهد وتُشيع في أطرافه آيات الخشوع، وتجلّل اللّوحة بفيض من الضّوء والنّور، وتجعل من الصّلاة في هذا الفضاء الرّحب خارج أسوار المدينة آيةَ إقبال على الله عزّ وجلّ، يُعبِّر عنه «الجنيد» في تعريفه لحقيقة الصّلاة على أنّها : قطعُ العلائق، وجمعُ الهَمِّ، والحضور بين يدي الله تعالى. (7) وهذه اللّوحة تجسِّد هذا الحضور في أبهى صوره وأجملها. 
حينما يجعل الفنّان الإمام عنصرا مهيمنا في اللّوحة ويقدمه على هذا النحو من الوضوح وتجلية الإمام، يريد من المشاهد أن يكون تركيزه عليه بهذا القدر من الوضوح كذلك، لأنّه في عرف الفن هو العنصر المستقطب للانتباه، وهو العنصر الذي سيوزع الدلالة على العناصر الباقية. شأنه شأن الممثِّل صاحب الدور الأول على خشبة المسرح. إذ يناط به أن يحرك العناصر الأخرى من خلال حركته وأقواله. لأنّ الفنّان يدرك أنّ العنصر هنا إنّما هو حلقة الوصل بين المتلقِّي والمعاني التي يريد للعنصر إشاعتها في المشهد كلِّه. ذلك لأنّ هناك فرقا بين التّصوير، والتّصوُّر، والرؤية في عرف الفنّ فحينما: «نُصوِّر الشّيء يعني أولا أن نتصوَّره. وهنا يكمُن معنى الرُّؤية. فنحن لا نرى الشّيء حقّا حين نكتفي برؤية ظاهره. ونحن بالتّالي لا نتصوَّر، أو لا نتأمل في العالم وأشيائه، حين نكتفي بتكرار الظّاهر. ولئن كان القصد أن نُصوِّر ما تراه عين الوجه، فإنّ الصّورة ستكون محدودة بظاهر ما نراه، وظاهر ما نراه ليس كلُّ ما نراه، وليس حقيقة ما نراه . بل إنّ تصوير الظّاهر نفسه أمر لا يمكن أن يؤدي إلى تطابق تام بين الشّيء وصورته. فمهما حاکينا ظاهر الزّهرة، لن تنتج زهرة - صورة شبيهة تماما» (8). ولا يهدف الفنّان أبدا إلى مجرد محاكاة الأشياء في شكلها المعطى، وأن ينقلها على النحو الذي تدرها العين بها في مجالها الخارجي. بل صار الفنّان اليوم يعتقد جازما أنّ المحاكاة بهذا المعنى الميكانيكي فعل «قبيح» إذ أنّ التطابق، أو التشابه إلى حد بعيد: «ليس شأنا إبداعيا. فما الفائدة من رسم المظهر الخارجي لتفاحة مثلا، حتى بأقصى دقّة ممكنة. كما تساءل «ماتیس» مرة؟ ما الفائدة من نسخ شيء تقدِّمه الطبيعة بكميات غير محدودة؟ إنّ واقعية نقل الواقع هي الأكثر بعدا عن الواقع. الشَّبه توهُّم. الشَّبه مقولة من طبيعة غير فنِّية»(9). ومن ثم كانت صورة الإمام في لوحة «نصر الدّين ديني» لا تهتم بكثير من التفاصيل، كما اهتمت بالوجه واليدين على نحو استثنائي، لأنّه يريد للمتأمل أن يمسك بهما ليلج عالما روحيا يتجلى من خلالهما. أو كأنّهما المفتاحان السحريان للتقدم نحو المعنى المكنون في الجلسة والهيئة.
إنّها الصلاة... إنّها لحظة الجلسة الأخيرة منها. فلا حركة إلا في الشّفتين وأصابع اليد. وكأنّ السكون الذي خيم على اللحظة، والسكينة التي تلبست الموقف، لا تسمح إلا بهذا القدر من الحركة داخل السكون. وتريد لهذه اللحظة أن تتمدّد في الرؤية فيطول لبثها فيها. فأنت بذلك ترى اللّوحة ساكنة، هامدة بين زمنين، يُمكنك تخيُّلها بكلّ يسر حينما تعيد تجميع اللحظات. كانت هناك حركة سير وضوضاء حديث حينما توافد المصلون على البطحاء خارج المدينة، وكانت هناك حركة وصمت حينما استوى النّاس للصلاة صفوفا. ثم كانت الحركة في الصلاة مختلفة عما سبقها من الحركات. حركة منتظمة، واحدة، موزونة، موقعة بتكبيرات. حركة لا تنتمي للحركات الأخرى التي لا ضابط لها ولا عقد. وإنّما هي هنا حركة يوقعها الإمام ويسيرها. فهي حركة متصلة به كلّ الاتصال. فلا يسبقونه في قيام، ولا ركوع، ولا سجود. فالإمام هو المحرّك للمشهد في كلّ تفاصيله.
تأتي الجلسة الأخيرة، فيحسّ المشاهد بطول زمانه وتمدّده. لأنّ فيها «شيء» سيسمح للحركة العادية بالعودة، ولكنّها حركة مختلفة عن الأولى، لأنّها حركة «المعايدة» حينما يقبل النّاس على بعضهم بعضا، عرفوا أم لم يعرفوا، معانقين ومُقَبِّلين، يتبادلون التهنئة بالعيد، بعبارات مخصوصة محفوظة. هذا ما يريده الفنّان... هذا ما يطلبه من لوحته أن تحتفظ به عالما سحريا روحيا، لا يمكن للمظهر الشّاخص أمامنا أن يوصله إلى المتلقِّي إذا هو لم يجاهد نفسه وخياله لإعادة بنائه من جديد. وقد عرّف «أدونيس» هذا الضّرب من المعرفة قائلا: «المعرفة الحقيقية، هي معرفة الشّيء من داخل، ذلك أنّها تُلغي المسافة بينه وبين العارف، وتتيح للعارف تحقيق ذاته. فلا نعرف الوجود إلاّ بالشّهود، وفقا للمصطلح الصوفي، أيّ بالحضور، أو الذّوق، أو الإشراق»(10). وحتى إن كانت هذه الاصطلاحات الصوفية في غاية من الاتساع، فأنّنا إزاء عمل يتوخّى الكشف عن جانب روحي في عبادة الصّلاة، أمكننا اليوم أن نستعين به ليدلّنا على كيفية الوصول إلى المعرفة الحقيقية، والانتهاء بها إلى لحظة الإشراق. إنّها اللّحظة التي تتحرّك فيها اللّوحة أمامنا وقد خرجت من إطارها الخشبي، وتجاوزت طبقاتها اللّونية، وتخلّصت من أصباغها وظلالها. لتكون في أعماقنا مشهدا حيّا بكلّ الأبعاد التي نريدها له من خلال التّأمل والتّدبر. ولنا فيها الآن أن نجلس مع الإمام في جلسته تلك السّنوات والدّهور. لأنّنا لن نستطيع أن نبلغ في إشراقتنا تلك منتهى ما في الصّلاة من أسرار. 
إنّ فرشاة الفنّان في حركتها على القماش، تقوم بفعلين في غاية العجب والسّحر. إنّها تمحو وتثبِّت. لأنّها تريد أن تتخلّص من الزّائل... من الشّوائب العالقة، وتبقي على الجوهري الذي تُطارده عين الفنّان ويرصُده حدسُه في الهيئات والأشكال والظِّلال. وكلّ مبدع كما يقول «أدونيس»: «سواء بالكلمة، أو بالخط أو باللّون، لا يُعْنَى بما يراه إلاّ بوصفه «عتبة» لما لا يراهُ. كأنّ الصّورة ستار علينا أن نخترقه لنرى حقّا ما وراءها. وبما أنّ الكون يتحوَّل أبداً، فإنّ ظاهره في زوال دائم. وليست مهمَّة المبدع أن «يصوِّر» هذا «الزَّائل»: أن يضع عليه الأقنعة والأصباغ بالصّور، أن «يُثبِّتَه»، إذ إنّه، في ذلك، لا يفعل أكثر من أنَّه يوضِّح ما ليس في حاجة إلى الإيضاح. إنّ مهمَّتَه، على العكس، هي في أن يقيم بينه وبين هذا «الزَّائل» خطوطاً وأشكالا تتيح له أن يرى الحركة العميقة وراءه. إنّ مهمَّته هي في أن يضع المُشَاهد، دائما، وجها لوجه مع هذه اللاّنهاية - عبر أشكاله وإيقاعاته: يضعه أمام بعيدٍ مجهول، يظل دائما، مهما قَرُبَ، مجهولا وبعيداً»(11).
وهذا الوعي الجمالي يُبعد من ساحته شبح المحاكاة والتّقليد، والعرض البارد للأشكال، ويسعى لأن يكون الفنّ حلقة وصل بين موضوعٍ ورؤيةٍ، تتّسع آفاقها كلّما أمعنا النّظر إليها، محاولين تلمُّس مداخلها التي ستنتهي بنا إلى فضاء أوسع يقع وراء الأشكال والألوان. ولهذا السّبب وفَّرت المتاحف مقاعدَ أمام اللّوحات، حتى تتيح للمشاهد فرص التّأمل الطّويل، والتّدبر العميق، والرّحالة في عالم الفنّ العجيب. إذ العالم فنيًّا كما يقول «أدونيس»: «ليس موجودا في العالم، بل فيما وراءه. هو بالضّرورة، نوع من التّجريد. كأنّ المصوِّر المبدع يصوِّر لكي يمحو «الصّورة» وبهذا المحو يُخْلَقُ حضورٌ - نسيج شفَّافٌ، لا يحيل إلى الواقع المباشر، بل إلى معناه ودلالته» (12).
الهوامش
(1) جيروم ستولنيتز. النقد الفني. ص:153-154. (تر) فؤاد زكريا. دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر. 2006. الإسكندرية. مصر.
(2) ألكسندر إليوت. آفاق الفن. ص: 12. (ت) إبراهيم جبرا. المؤسسة العربية للدراسات والنشر. ط 3- 1982. بيروت.
(3) ألكسندر إليوت. آفاق الفن. ص: 07. (ت) إبراهيم جبرا. المؤسسة العربية للدراسات والنشر. ط 3- 1982. بيروت.
(4) محمد بن بريكة. التصوف الإسلامي. من الرمز إلى العرفان. الكتاب الأول. ص: 56. دار المتون. ط01. 2006. الجزائر.
(5) أبو حامد الغزالي. مشكاة الأنوار. مجموعة رسائل الغزالي. ص: 36. دار الكتب العلمية. بيروت. 1986.
(6) عبد القادر الجيلاني. الغنية في الأخلاق الإسلامية والتصوف والآداب. نقله. محمد بن بريكة. التصوف الإسلامي. من الرمز إلى العرفان. الكتاب الأول. ص: 69. دار المتون. ط01. 2006. الجزائر.
(7) أنظر. سعاد الحكيم، تاج العارفين: ص: 147. ط  3  . دار الشروق ، 2007م.  القاهرة، مصر.
(8) أدونيس. الصوفية والسريالية. ص: 199. ط:03. دار الساقي.
(9) أدونيس. الصوفية والسريالية. ص: 200. ط:03. 
(10) أدونيس. الصوفية والسريالية. ص: 40. ط:03. دار الساقي.
(11) أدونيس. الصوفية والسريالية. ص:203 . ط:03. 
(12) أدونيس. الصوفية والسريالية. ص: 202. ط:03.