أهل الاختصاص

بقلم
أ.د.فوزي أحمد عبد السلام
تطوّر نظريّات الحركة الحلقة الخامسة: المدارت المتزامنة مع الأرض
 جمال الفيزياء والرياضيات
تمثل الميكانيكا «علم دراسة الحركة» المنطقة التي تشتبك فيها الفيزياء بالرّياضياّت إشتباكا عظيما بحيث يصعب فيها الفصل بينهما، وتكثر الفوائد التي نجنيها من هذا الاشتباك. واحدة من هذه الفوائد هي الإجابة على السّؤال التّالي: هل يستطيع العلماء التّحكّم في صفة وشكل مدارات الأقمار الصّناعيّة بحيث تصمّم لإنجاز مهمّة معينة باستخدام مجال جاذبيّة الأرض؟ نعم يستطيع العلماء ذلك، و هو مجال دراسة الميكانيكا المداريّة orbital mechanics. وفي هذا المقال سنتعرض لنوع واحد فقط من هذا التّحكّم. تتمثّل فكرته الأساسيّة كالتّالي: بعد حلّ مسألة الحركة للأقمار الصّناعيّة ودالتها الرّئيسيّة هي دالّة جهد الأرض أي الدّالة المعبّرة عن مجال الجاذبيّة الأرضيّة بعد صياغتها بدلالة عناصر المدار (والتي سنعطي عنها نبذة في الفقرة التّالية)، تمكّن العلماء باستخدام الرّياضيّات من اختيار قيم معيّنة لبعض العناصر المداريّة بحيث تحقّق غرضا معيّنا.
العناصر المدارية
هي مجموعة من ستّة أعداد نَصِفُ بها المدار ومكان القمر فيه وصفا تامّا. وهي كالتالي:
-1 نصف المحور الأكبر a : معظم المدارات العاملة بيضاويّة (ناقصيّة) الشّكل وكلّ أقطاره غير متساوية، لكن أكبرها وأصغرها وحيدين، ويستخدم نصف أكبرها لوصف حجم المدار، كما أنّه يعدّ المعبّر الوحيد عن الطّاقة الميكانيكيّة الكليّة للقمر في نموذج الجسمين المثالي. ويعطينا تصوّرا عن ارتفاعات القمر عن سطح الأرض.  
-2 الاختلاف المركزي e : ويعبر شكل المدار. وقيمته                      للمدارات النّاقصيّة والتي تعبّر عن الحيود عن الشّكل الدّائري.
-3 زاوية ميل المدار I:  وهي الزّاوية بين مستوي الاستواء equatorial plane ومستوي المدار orbital plane وقيمتهـا                           .وعند I=0° أو I=180°  يكون مدار القمر منطبقا تماما مع مستوي الاستواء، إلاّ أنّه في الحالة الأولى يكون اتجاه دوران القمر حول الأرض في نفس اتجاه دوران الأرض حول نفسها ونسمّيه مدارا مباشرا، وفي الحالة الثّانية يكون على العكس من ذلك ونسمّيه مدارا تراجعيّا. وعند I=90° يمرّ المدار بالقطبين ونسمّيه مدارا قطبيّا وهو مدار هامّ جدّا (ربّما أفردنا له مقالا خاصّا به في الحلقات القادمة). وغير ذلك مدار مائل بشكل عام مباشر إذا تحقّق أن I<90° ، وتراجعيّا إذا تحقّق أنّ                        . 
-4طول العقدة الصّاعدة    : وهي زاوية تحسب شرقا على دائرة الإستواء من خطّ القياس المرجعي المارّ بالنّقطة الأولى في برج الحمل first point of Aries، لأنّ الشّمس كانت تقع أمام كوكبة الحمل في وقت الاعتدال الرّبيعي لكنّه يتغيّر ببطء شديد بسبب الحركة التّرنحيّة لمحور دوران الأرض حول نفسها(1)، وهي النّقطة التي يتقاطع فيها مدار الأرض حول الشّمس the ecliptic  مع مستوي الاستواء السّماوي وتسمّى بنقطة الاعتدال، وفيها تكون ميل أشعة الشّمس السّاقطة على الأرض تساوي صفر. 
تعبّر  عن خطّ الطّول الذي يعبر عنده القمر الصّناعي صاعدا من النصف الجنوبي للكرة الأرضيّة إلى نصفها الشمالي. و قيمتهـا                      وهي تتغيّر باستمرار تحت تأثير الجاذبيّة الأرضيّة. وعن طريق التّحكّم فيها باستخدام عناصر مداريّة بعينها نحصل على مدارات خاصّة لأغراض معينة.
-5 معامل نقطة الحضيض     : وتقاس من نقطة العقدة الصّاعدة حتّى نقطة الحضيض (وهي أقرب نقطة على المدار إلى الأرض)، وهي زاوية تحسب في عكس اتجاه عقارب السّاعة أي في اتجاه الحركـة المباشرة على مستــوي المدار، وقيمتها                     . وهي تتغيّر باستمرار أيضا تحت تأثير الجاذبيّة الأرضيّة. وعن طريق التّحكّم فيها أيضا باستخدام عناصر مداريّة بعينها نحصل على مدارت خاصّة لأغراض معيّنة.
-6 زاوية الحصّة الحقيقيّة   :  وتقاس من الخطّ المارّ بنقطة الحضيض (وهو نفسه المحور الأكبر) وهي زاوية تحسب في عكس اتجاه عقارب السّاعة أي في اتجاه الحركة المباشرة على مستوي المدار. وقيمتها              . وهي تتغيّر باستمرار أيضا تحت تأثير الجاذبيّة الأرضيّة وحركة القمر. ونعبّر عن الموقع الآني للقمر الصّناعي في مداره حول الأرض.
نبذة تاريخيّة عن المحطّات الفضائيّة
الثّابتة بالنّسبة للأرض
تمّ اقتراح مفهوم المحطّات الثّابتة بالنّسبة للأرض لأوّل مرّة من قبل «هيرمان بوتوتشنيك» في عام 1928 ورُوّج له مؤلّف الخيال العلمي «آرثر كلارك» عام 1945(2) حيث تصوّر كلارك ثلاث محطّات فضائيّة كبيرة مأهولة مُرتّبة في شكل مثلثي حول الكوكب. لكن أوّل من طبّق المفهوم عمليّا هو «هارولد روزين»، المهندس في شركة هيوز للطّائرات، حيث أطلق أوّل قمر صناعي متزامن مع الأرض، المعروف باسم «سينكوم 2» في 26 يوليو 1963. وكان أخوه في السّلسلة «سينكوم 3» أوّل قمر صناعي ثابت بالنّسبة إلى الأرض، إذ أُطلق في 19 أغسطس 1964(3) ثمّ تتالت مثل هذه الأقمار بعد ذلك.
المدارات الثّابتة بالنّسبة إلى الأرض Geostationary Earth Orbits
المدارت الثابتة بالنسبة إلي الأرض هي مدارت مجموعة خاصة من تلك الأقمار المتزامنة مع الأرض. فأيّ قمر صناعي إذا تحقّق أن دورته الكاملة في مداره حول الأرض تساوي فترة دوران الأرض حول نفسها، فإنّ ذلك القمر يعود إلى نفس الموضع في السّماء بعد كل يوم فلكي، ومن ثمّ يكون ثابتا بالنّسبة إلى الأرض. تتميّز تلك الأقمار بخاصّية فريدة من نوعها وهي ثباتها بشكل دائم في نفس الموضع في السّماء عند رصدها من أيّ موقع ثابت على الأرض، ممّا يغني محطات التّتبع الأرضيّة عن تتبّعها بشكل مستمر. عادةً ما تُستخدم هذه الأقمار الصناعية لأغراض الاتصالات(4). فمثلا لو كان المطلوب تصميم مدار بحيث يكون مستواه ثابتا بالنّسبة للأرض لوجب أن يكون ارتفاعه في حدود 35,786 كيلومتر فوق سطح الأرض (وهو ارتفاع شاهق جدّا، يكفي للمعرفة أنّ أعلى نطاق للطّيران بالطّائرات لايزيد إلّا قليلا عن عشرة كيلومترات) ولوجب أيضا أن يكون دائريّا قدر المستطاع (أي اختلافه المركزي قريبا من الصّفر) وقريبا جدّا من مستوي الإستواء السّماوي وهو امتداد لمستوي الاستواء الأرضي (أي أن تكون زاوية ميل المدار على مستوي الاستواء قريبة من الصّفر).  
المدارات المتزامنة مع الأرض  Geosynchronous Earth Orbits
بشكل عام يمكن تصميم مدارات متزامنة مع الأرض حيث يكون هناك تناسبا بسيطا بين دورته ودورة الأرض حول نفسها وليس ضروريّا أن تكون النّسبة 1:1 كما هو الحال في المدارات الثّابتة بالنّسبة إلى الأرض. وهذه الفكرة حلّت مشكلة كبيرة  للإتحاد السّوفييتي سابقا «روسيا حاليا» حيث يقع بكامله في خطوط العرض المرتفعة أكبر من 60 درجة شمالا، وحتّى يتمكّن من حيازة أقمار صناعيّة للاتصالات وثابتة بالنّسبة لإقليمه الأرضي، فإنّ الأقمار الإستوائيّة التي يقع مدارها في/أو بالقرب من مستوي الاستواء لن تكون نافعة له أبدا فأقصى دائرة عرض من الممكن أن تصلها التّغطية بكفاءة معقولة أقلّ من 60 شمالا وجنوبا، لذا وجب حلّ المشكلة من طريق آخر غير فكرة استخدام الأقمار الاستوائيّة الثّابتة أرضيّا، وكان الحلّ يتمثّل في استخدام مدارات عالية الإهليليجيّة «أي عالية الاستطالة» بحيث تقع نقطة الحضيض في نصف الكرة الجنوبي وقريبة نسبيّا من الأرض من 525 كيلومتر إلى  25,370 كيلومتر، بينما تقع نقطة الأوج «أبعد نقطة في المدار عن الأرض» بعيدة جدّا فوق الإقليم السّوفييتي سابقا إلى ارتفاعات تصل إلى 66,4 كيلومتر؛ هذا  التّصيم للارتفاعات يجعل مثل هذه الأقمار تدور أقلّ من ربع مدّة دورتها فقط بعيدة عن المناطق المراد تغطيتها بينما يقضي أكثر من ثلاثة أرباع مدّته فوق الإقليم المراد تغطيته. فمثلا الأقمار الميلونيا Molniya ودورتها 12 ساعة تقضي منها ما يقرب من 10 ساعات فوق الإقليم المراد تغطيته. هذه الأقمار متزامنة مع الأرض بنسبة 2:1، فهي تزور المنطقة الواحدة مرّتين يوميّا بالإضافة إلى كون زاوية ميله حرجة I=63.43° ممّا يمكّننا من تثبيت المحور الأكبر للمدار ومن ثمّ تثبيت المدار بالنّسبة إلى الأرض. هناك أنواع أخرى كثيرة من المدارات جديرة بالدّراسة منها مدارات التّندرا Tundra، وبالرّغم من كونها متزامنة مع الأرض بنسبة 1:1 إلاّ أنّها ليست إستوائيّة وليست مدارات دائريّة بل وتدورفي مدارات تراجعيّة عالية الميل بزاوية ميل حرجة أيضا تساوي I=116.57° وهي مكمّلة الميل الحرج الأوّل. وغيرها كثير كما أسلفنا، فمدار كوبرا Cobra أقماره متزامنة مع الأرض بنسبة 3:1 وتزور المنطقة الواحدة ثلاث مرّات يوميّا ومدار ماجيك Magic أقماره متزامنة مع الأرض بنسبة 8:1 وتزور المنطقة الواحدة ثمان مرّات يوميّا.